}

كشوف جديدة: مخططات الترانسفير الإسرائيلية في قطاع غزة (2)

ضفة ثالثة- خاص 9 أبريل 2023
هنا/الآن كشوف جديدة: مخططات الترانسفير الإسرائيلية في قطاع غزة (2)
الأردن فهمت أن إسرائيل تشجع هجرة الفلسطينيين إلى أراضيها

 

إعداد وتقديم: أنطوان شلحت


تقديم

فكرة "تشجيع الهجرة العربية"، وهو المصطلح المُلطّف للترانسفير، تتكرّر كل فترة في الخطاب العام في إسرائيل، على نحو يمكن اعتباره دوريًا.

وهناك ميل عام لدى كثيرين في إسرائيل للترويج بأن سبب معاودة الحديث عن الترانسفير في الآونة الأخيرة يعود إلى ما يُسمى "الانزياح نحو اليمين" الذي شهده المجتمع الإسرائيلي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000 وما تسبّبت به من "عودة الصهيونية إلى ذاتها". فمثلًا أشار استطلاع أجري عام 2002 ضمن "مشروع الأمن القومي والرأي العام الإسرائيلي" في "مركز يافيه للأبحاث الاستراتيجية" في جامعة تل أبيب (الذي أصبح اسمه لاحقًا "معهد أبحاث الأمن القومي")، إلى أن مؤشرات الانزياح يمينًا تكمن، ضمن أشياء أخرى، في ازدياد تأييد الإسرائيليين لمشاريع حلول الترانسفير ضد الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو داخل تخوم "الخط الأخضر"، حيث أيّد 46 بالمئة منهم تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 31 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. غير أن الأستاذ الجامعي الإسرائيلي، آشير أريـان، أكد أن هذا النمط من التفكير لدى الإسرائيليين ليس جديدًا كل الجدة، فقد أظهر استطلاع عام 1991 من الفصيلة نفسها نسبة تأييد للترانسفير ضد الفلسطينيين ليست أقل كثيرًا، حيث أيّد 38 بالمئة من الإسرائيليين تطبيق الترانسفير ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأيّد 24 بالمئة تطبيقه ضد الفلسطينيين في إسرائيل. ولفت إلى أن سبب ذلك راجع، في جانب ما، إلى تأصل فكرة الترانسفير في تفكير الحركة الصهيونية، كما في ممارساتها الميدانية.

كما يورد الذين يعزون معاودة طرح فكرة الترانسفير إلى الوقائع التي تلت الانتفاضة الفلسطينية، أن من مؤشرات الانزياح يمينًا دخول الحزب الإسرائيلي الذي يتبنى علنًا برنامج الترانسفير بزعامة الوزير المقتول رحبعام زئيفي كطرف فاعل في الائتلاف الحاكم الذي تزعمه أريئيل شارون عام 2001، ما أضفى شرعية علنية على هذا الموضوع.

غير أنّ زئيفي نفسه سبق له أن أكد أنه استقى فكرة الترانسفير من آباء الحركة الصهيونية. ففي واحد من مقالاته الكثيرة في هذا الشأن، وهو بعنوان "الترحيل من أجل السلام" والذي نشره في صحيفة "هآرتس" في 17 آب/ أغسطس 1988 كتب ما يلي: "صحيح أنني أؤيد الترانسفير بحق عرب الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الدول العربية، لكنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة، لأنني أخذتها من أساتذة الحركة الصهيونية وقادتها، مثل دافيد بن غوريون الذي قال من جملة أمور أخرى ’إن أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا، وأي شك عندنا في إمكان تحقيقه، وأي تردّد من قبلنا في صوابه، قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية’ ("مذكرات دافيد بن غوريون"، المجلد الرابع، ص 299). كما أنني تعلمت هذا من بيرل كتسنلسون وآرثر روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين".

وقبل أقوال زئيفي هذه بأكثر من ثمانية أعوام ألمح الوزير الإسرائيلي الأسبق والخبير الإستراتيجي أهارون ياريف إلى وجود "خطة جاهزة" في الأدراج الإسرائيلية الحكومية لترحيل 700 - 800 ألف عربي، حين "تنشأ الأوضاع الموضوعية لذلك"... وحرفيًا قال ياريف في محاضرة ألقاها في "الجامعة العبرية" في القدس، في 22 أيار/ مايو 1980 ما يلي: "هناك آراء تدعو إلى استغلال حالة الحرب من أجل ترحيل ما بين 700 و800 ألف عربي... ولم تتردد هذه الآراء على ألسنة المسؤولين فحسب، وإنما أيضًا أعدت الوسائل اللازمة لتنفيذها"!

وإذا كان اعتراف زئيفي السالف بأنّ فكرة الترانسفير ليست من بنات أفكاره غير بليغ بما فيه الكفاية لإثبات عمق تغلغل الفكرة ورسوخها في منبت رؤوس حكام إسرائيل الصهاينة، فإنّ إثبات ذلك يمكن أن نستقطره من نتاجات الوعي الجديد بحقيقة هذا الأمر، الذي يكتسب يومًا بعد يوم مناطق جديدة في أوساط مزيد من المؤرخين والباحثين اليهود.

ولئن كان هذا الكلام يريد النفاذ إلى أشياء محدّدة فإنه يريد، أكثر شيء، توكيد خلاصة فحواها أنّ التربة الإسرائيلية على صعيدي المسؤولين السياسيين والرأي العام الشعبي سواء بسواء، لديها من الجهوزية ما يكفي لتقبل فكرة الترانسفير وعدم مضادتها، وإن من الناحية الأخلاقية على الأقل.

عند هذا الحدّ يكفي أن نستعيد، مرة أخرى، ما قاله زئيفي نفسه في هذا المضمار ضمن مقاله السالف ذكرها:

"[... ] لقد زعموا أنّ هذه الفكرة (الترانسفير) غير أخلاقية، وبرأيي أنه ليست هناك فكرة أكثر أخلاقية منها، لأنها تحول دون وقوع الحروب وتمنح شعب إسرائيل الحياة. وإذا كانت هذه الفكرة غير أخلاقية فإنّ الصهيونية كلها وتجسيدها خلال أكثر من مئة عام هما غير أخلاقيين. إنّ مشروع الاستيطان في أرض إسرائيل وحرب الاستقلال حافلان بعمليات ترحيل العرب من قراهم. فهل كان هذا أخلاقيًا ولم يعد كذلك الآن؟".

في التحصيل الأخير يمكن القول إن جذور الفكرة المذكورة أعلاه ليست في هوامش اليمين وإنما في القيادة السياسية في إسرائيل بما في ذلك خلال فترة حكم حزب مباي العمالي. فمثلًا، فور انتهاء حرب 1967 بادرت حكومة ليفي أشكول إلى وضع خطة وفّرت محفزات لعائلات وأفراد في مقابل هجرتهم من قطاع غزة، وأبقت في القطاع، على نحو مقصود، مستوى حياة منخفضًا ومستوى بطالة عاليًا.

ويلقي عدد من الوثائق الأرشيفية التي جرى الكشف عنها مؤخرًا الضوء على هذه السياسة التي تم التكتم عليها لعشرات الأعوام بوصفها "سِرّ دولة".

وآخر ما كتب حول هذه الوثائق هو المقال الذي نقدّم ترجمته هنا على حلقات، بقلم د. عُمري شيفر رفيف، وهو مؤرّخ للصراع الإسرائيلي الفلسطيني و"إسرائيل الحديثة". وهذا المقال هو فصل من كتاب بعنوان "غزة: موقعها وصورتها في الحيّز الإسرائيلي"، من تحرير: عمري بن يهودا ودوتان هليفي، والذي سيصدر قريبًا عن دار النشر "غاما". والكتاب، بحسب الناشر، عبارة عن مجموعة مقالات تعتبر الأولى من نوعها، وهي مخصصة لمدينة غزة والقطاع عمومًا وصورتهما في الثقافة والسياسة الإسرائيلية.
هنا الجزء الثاني من المقال ويتبعه جزء ثالث وأخير:

*****

أراد ليفي أشكول أن "يشعر اللاجئون الفلسطينيون بأنهم من دون قيمة"!


إلى جانب التخطيط في لجنة المديرين العامين لموضوع نقل السكان، حضّر موظفون كبار في وزارة الدفاع، والجيش الإسرائيلي، وجهاز "الشاباك"، وديوان رئيس الحكومة وثيقة بعنوان "مبادئ العمل للمناطق المسيطر عليها". هذه الوثيقة التي صادق عليها وزير الدفاع موشيه ديان في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1967، جزمت بأن إسرائيل طمحت إلى أن يكون عدد العرب الخاضعين لسلطتها قليلًا قدر الإمكان، ولكن من أجل تحقيق هذا الهدف كان أمامها سلم أولويات. كانت الأولوية العليا إخلاء لاجئي 1948 من مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، بعدها جاء إخراج سكان دائمين من القطاع، وفي النهاية تقليص عدد سكان الضفة الغربية. وبما أن عرب الضفة كانوا في الموقع الثالث من ناحية سلم أولويات الإخلاء، فإن إخراج السكان من القطاع إلى الضفة اعتبر "حلًا معيّنًا" (20).

إن الطموح لتشجيع الهجرة من قطاع غزة، والذي تجسد في الأجواء التي سادت الحكومة بمبادرة من ديان، وفي قرار الحكومة، وخطط عمل لجنة المديرين العامين ووثيقة "مبادئ العمل"، قد تجسدت أيضًا في الميزانية الأولى للحكم العسكري في الأراضي المحتلة. في وثيقة بعنوان "توجيهات لتحضير ميزانية المناطق المسيطر عليها للسنوات 1968/1967"، والتي صاغها دان حيرام، جاء في مطلع الصفحة الأولى تحت العنوان "فرضيات أساسية":

إن التوجه لتسهيل حركة السكان شرقًا – من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ومن الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية – يجب أن يجد له تعبيرًا في كل مجالات عملنا. سيقوم التطبيق على توجيه النشاط الاقتصادي، وليس على أوامر إدارية؛ وذلك من خلال الطموح إلى إيجاد "مستوى حياة معقول" في هذه المناطق، بشكل يقترب مما كان قائمًا قبل احتلالها. لن يسمح بحركة قوى عاملة من المناطق إلى إسرائيل. وحركة القوى العاملة إلى الضفة الشرقية ستكون في اتجاه واحد. (21)

جزم أشكول في اللجنة بأنه لم يعد هناك منطق في إعادة التوطين، وادعى بشكل حازم أمام أعضاء اللجنة بأنه يجب على إسرائيل فرض سياسة تشجيع هجرة اللاجئين خارج نطاق إسرائيل، بما يشمل الضفة الغربية، بطرق سرية...

تتابع وثيقة الميزانية وتحدد أن مستوى التشغيل في قطاع غزة سيظل مشابهًا لما كان عليه قبل الحرب، أي بنسبة بطالة 50%. ومستوى الحياة المنخفض ومستوى البطالة العالي في القطاع كان يهدف إلى تشكيل عوامل دفع للهجرة السلبية في المنطقة. كذلك جاء في الوثيقة أنه يجب في منطقة أريحا إنتاج مستوى تشغيل كامل من أجل استيعاب لاجئين من القطاع وفقًا لخطة العمل. أُدخل إلى الميزانية بند تطوير خاص هدفه إنتاج أماكن عمل في منطقة أريحا وحدها، لهدف واحد فقط – تشجيع الهجرة من القطاع إلى الشرق. لم تُبق هذه الميزانية مجالًا للشك: ليس فقط أن نقل السكان كان الهدف المركزي للسلطة، وليس فقط أنه تم إعداد خطط من أجل تحقيق الهدف، بل تم رصد ميزانيات لتطبيقه. كذلك يتضح أن استعمال وسائل الفرض أو التخويف من أجل دفع السكان إلى الهرب لم تكن إمكانية واردة (22). إن السيطرة على مستوى الحياة، كما يتضح مرة أخرى، كان الوسيلة الأساسية التي استخدمتها السلطة لتشجيع الهجرة.

ويبدو أن سياسة تشجيع الهجرة من قطاع غزة بتخطيط من كبار مسؤولي جهاز الأمن، بدعم أعضاء الحكومة وبقيادة وزير الدفاع ديان، بدأت تؤتي ثمارها في الأشهر الأخيرة من عام 1967. حتى شهر أيلول/ سبتمبر لم يغادر الناس قطاع غزة، ولكن خرج في أيلول/ سبتمبر من القطاع 80 شخصًا، في تشرين الأول/ أكتوبر ارتفع عدد المغادرين إلى 850، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر ارتفع إلى 2796 شخصًا. بين كانون الأول/ ديسمبر 1967 وآب/ أغسطس 1968 كان متوسط عدد المهاجرين في الشهر 2802، (23). حين لم يعد عدد مغادري القطاع يقاس بالعشرات وإنما بالآلاف، بدا أن إمكانية خفض عدد السكان في القطاع هي إمكانية واقعية أكثر من أي وقت مضى في نظر القيادة الإسرائيلية فقط، وليس من خلال صفحات خطط العمل فحسب إنما أيضًا من خلال الواقع الميداني (24).

يبدو أن عادا سيريني نفسها لم تتردد في التجند من أجل ما اتفق الجميع على أنه "مهمة قومية"


وحدة أشكول السرية

اتفاق السلام بين إسرائيل والدول العربية، الذي بدا قريبًا في حزيران/ يونيو 1967 من وجهة نظر واشنطن وتل أبيب، بدأ يبدو بعيدًا جدًا في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. وكان لذلك عدد من الأسباب. ففي مؤتمر الخرطوم الذي عقد في أواخر آب/ أغسطس، رفضت الدول العربية الاعتراف بإسرائيل أو إقامة مفاوضات معها؛ الإدارة الأميركية قلصت أكثر تدخلها في الشرق الأوسط أمام الأزمات التي واجهتها في حرب الفيتنام؛ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي ضم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، اتخذ القرار 242 الذي نظرت إليه إسرائيل على أنه نجاح لسياستها. هذا القرار ربط ما بين إخلاء المناطق وعقد اتفاقية سلام، وهكذا منع عمليًا إمكانية فرض الانسحاب القسري على إسرائيل.

بما أن اتفاقية السلام مع الدول العربية تراجعت حاليًا من أجندة الحكومة الإسرائيلية، فإن نواياها المبكرة لإعادة توطين لاجئي 1948 بدت فجأة غير ذات صلة بالواقع (25). بعد الحرب عيّن رئيس الحكومة ليفي أشكول الخبير الديمغرافي روبرتو بيكي، وخبير الرياضيات أرييه دفورتسكي، لترؤس طاقم خبراء لفحص حلول محتملة لمشكلة اللاجئين وتشجيع الهجرة (26). بعد عام ونصف العام على ذلك شعر أشكول أن احتمالات المفاوضات مع الدول العربية في الفترة القريبة قد تبددت، ولذلك ليس من المتوقع وضع خطط لإعادة التوطين في إطار اتفاق مستقبلي. في هذه الأثناء زاد ضغط الإدارة الأميركية على إسرائيل بشأن لاجئي 1948، وتم إقفال جميع خطط حل المشكلة التي عمل عليها الأميركيون في الدرج. حين طلب بيكي أن يفهم ما هي سياسة الحكومة بالنسبة لقطاع غزة، أجابه أشكول: "بالنسبة إلى عرب غزة – أريد أن آمل في أن ينصرفوا من إسرائيل". حين طلب بيكي توضيحات تبيّن أن أشكول قصد عمليًا بمصطلح "عرب غزة" السكان اللاجئين، وأنه طمح بنجاح سياسة تشجيع الهجرة – وليس خطة إعادة التوطين – في إخراجهم من مكانهم. وقد رد بيكي على رئيس الحكومة بأن سياسة تشجيع الهجرة وحدها لن تنجح في إخراج كل السكان اللاجئين من القطاع. إن مثل هذه السياسة بحد ذاتها، كما شرح بيكي، هي فقط وسيلة مساعدة، وعلى الأكثر يمكنها أن توازن التكاثر الطبيعي؛ ولكن، تابع، فإنه "(من أجل) أن تقضي (الخطة) على الثمار، على الكرم، يجب عليك لهذا الغرض وضع خطة عمل أخرى" (27). وقد قصد بيكي خطة مهنية لنقل وإعادة توطين السكان اللاجئين.

لكن فكرة إعادة التوطين في الضفة الغربية لم يعد مرغوبًا فيها بنظر أشكول وقد روى لبيكي ودفورتسكي عن محادثة أجراها في اليوم السابق مع كبار مسؤولي المنظومة الأمنية. وكان رأيهم، كما قال، أن كل الضفة الغربية يجب أن تظل تحت سيطرة إسرائيلية للمدى البعيد وأن نهر الأردن يجب أن يظل الحدّ الشرقي لدولة إسرائيل. وبناء عليه، سألهما، لماذا يجب أصلًا نقل عشرات آلاف الناس من القطاع إلى الضفة، فلو كانت الضفة ستظل تحت سيطرة إسرائيلية، سيظل سكانها في دولة إسرائيل. أفليس من الأفضل أن يظل اللاجئون في القطاع، حيث يمكن للحكم العسكري هناك أن يضغط عليهم إلى أن "ينتشروا" نحو بلاد أخرى؟ (28). وعلى الرغم من تحذيرات بيكي، فإن أشكول كان قد قرر ترك إمكانية نموذج إعادة التوطين، والتمسك بسياسة تشجيع الهجرة من القطاع واستخدامها كوسيلة حكم أساسية لخفض عدد السكان. لربما أن رئيس الحكومة وجد عزاء في تخمينات دفورتسكي الذي اختلف مع زميله بيكي وجزم بأن سياسة تشجيع الهجرة ستمكّن من تقليل مجمل سكان قطاع غزة بنسبة مئوية واحدة كل سنة. "إذا ما وصلنا إلى ذلك – فإن هذا يبدو لي أيضًا أمرًا كبيرًا ومهمًا"، قال لأشكول (29).

أعطى أشكول سيريني حرية كاملة في العثور على وسائل تشجيع الهجرة، لكنه وضع تقييدًا واحدًا فقط: أن لا يتم دفع أموال نقدية للاجئين كي يهاجروا من القطاع!

تعززت الثقة بمشروعية وصحة هذه القرارات أكثر لدى أشكول مع زيارته للقاء رئيس الولايات المتحدة ليندون جونسون في كانون الثاني/ يناير 1968. فحين عاد إلى إسرائيل روى أشكول للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست أن الإدارة الأميركية لا ترى احتمالًا لأن توافق الدول العربية على سلام مع إسرائيل، ولذلك لم يرَ أي حاجة في الضغط على إسرائيل لتعتدل من ناحية سياسية. بل إن الأميركيين لم يطالبوه بعرض تسويات جغرافية من شأنها أن تكون مقبولة على القيادة الإسرائيلية من أجل اتفاق سلام، وهي النقطة التي كان أشكول يخشى منها عشية زيارته إلى الولايات المتحدة. عمليًا، بدا أن الأميركيين بحثوا بشكل أساسي عن طريقة لتقليص حجم تدخلهم في شؤون الشرق الأوسط. في ضوء هذا، جزم أشكول في اللجنة بأنه لم يعد هناك منطق في إعادة التوطين، وادعى بشكل حازم أمام أعضاء اللجنة بأنه يجب على إسرائيل فرض سياسة تشجيع هجرة اللاجئين خارج نطاق إسرائيل، بما يشمل الضفة الغربية، بطرق سرية. وقد صرح بأنه خرج في تلك الفترة من القطاع نحو 750 شخصًا كل أسبوع، وهذا التوجه بحد ذاته من شأنه أن يقود إلى الحل. خلال زيارته للولايات المتحدة، كما روى، قام حتى بمشاركة الرئيس جونسون بحذر كبير بشأن فكرة تشجيع هجرة اللاجئين من القطاع. وجونسون أجاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بأن هجرة من هذا النوع لن تقود إلى حل، وأنه سيكون "سعيدًا جدًا" لو تبين أن اللاجئين انتقلوا فعلًا إلى الكويت. ومع هذا الضوء الأخضر (أو الأصفر على الأقل) من الرئيس الأميركي توجه أشكول إلى أهم الأهداف بنظره: إخراج اللاجئين من قطاع غزة (30).

في 19 شباط/ فبراير 1968 جمع أشكول في مكتبه مجموعة موظفين وضباط كبار من أجل إقامة وحدة سرية تعمل على تشجيع الهجرة من قطاع غزة. وإلى جانب تسفي تسور، كان هناك رئيس جهاز الموساد مئير عميت، ورئيس جهاز الشاباك يوسف هرملين، ومستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب شموئيل طوليدانو، والموظف الكبير في وزارة الخارجية شلومو هيلل، ورئيسة الوحدة المزمع إقامتها عادا سيريني. كانت سيريني قبل إقامة الدولة رئيسة لـ "هموساد للهجرة ب"، وهو منظمة سرية عملت في مجال هجرة عشرات آلاف اللاجئين اليهود إلى أرض إسرائيل الانتدابية بطرق غير قانونية. منذ 1948 وحتى 1968 كانت سيريني تسكن بالأساس في إيطاليا وبعيدة عن العمل الجماهيري. وبسبب تجربتها في نقل البشر، ومهاراتها في العمل السري، وعلاقاتها الدولية وبُعدها عن إسرائيل، رأى أشكول أنها مرشحة كاملة للوظيفة. يبدو أن سيريني نفسها لم تتردد في التجند من أجل ما اتفق الجميع على أنه مهمة قومية. بحث المشاركون في أول لقاءات المجموعة الدور المنوط بهذه الوحدة. وقد اتفقوا على أنه طالما أن هناك "تيار حركة عفوية" للاجئين من القطاع إلى الضفة الشرقية، فيجب أن تمتنع الوحدة عن أي نشاط لأن هذا قد "يخرب". ولكن التنبؤات في غرفة الاجتماع كانت أن هذه النزعة سوف تتوقف في نهاية الأمر. ومن أجل الاستعداد لتلك اللحظة كانت هذه الوحدة مطالبة بالبحث عن أهداف هجرة ممكنة للاجئين، وإقامة علاقات مع وكالات سفر وإقامة علاقات مع منظمات دولية وحكومات أجنبية من أجل تمكين استيعابهم. وورد اسم البرازيل مرارًا كهدف ممكن للهجرة. فهذه بلاد كبيرة، قال أشكول، وحتى بعد أن ينتقل إليها اللاجئون الفلسطينيون "لن يعرف أحد بالمرة عن وجودهم" (31).

لشدة مفاجأة الإسرائيليين، تحولت معركة الكرامة بسرعة إلى رمز لدى الجمهور الفلسطيني


أعطى أشكول سيريني حرية كاملة في العثور على وسائل تشجيع الهجرة، لكنه وضع تقييدًا واحدًا فقط: أن لا يتم دفع أموال نقدية للاجئين كي يهاجروا من القطاع. وقد شرح بأنه لو عرف سكان القطاع بوجود من هو مستعد لأن يدفع لهم في مقابل هجرتهم، فسوف ينتظرون لرؤية ما إذا كان يمكنهم أخذ مبالغ أكبر منه. الدفع سوف يجعل اللاجئين يشعرون بأن وجودهم ذو قيمة ويمكن المساومة عليه، في حين أن أشكول أراد أن يشعر اللاجئون الفلسطينيون بأنهم من دون قيمة. في هذا الشأن عرض على سيريني مثالًا من أيام طفولته في روسيا. وكما قال، كان اليهود في روسيا يائسين بشأن رغبتهم في السفر إلى أميركا إلى درجة أن وكالات السفر "سلخت جلودهم". في نهاية المطاف، كما شرح أشكول، دفع اليهود كي يسافروا. وهكذا، فكر، يشعر أيضًا اللاجئون الفلسطينيون – مثل يهود مناطق الموشاف. 80% منهم، كما قدر، سيغادرون القطاع وبحوزتهم القليل من الأموال التي يملكونها؛ وكل دفعة إضافية سوف تؤخر خروجهم أكثر. ولكن في النهاية، حين سيظل الـ20% الأخيرون من اللاجئين المُعدمين تمامًا، سيكون فعلًا بالإمكان فحص إمكانية تقديم دفعات كهذه (32).

بعد شهر على الاجتماع الأول في هذا الشأن، في 20 آذار/ مارس 1968، جاءت سيريني إلى أشكول كي تروي له عن نشاط الوحدة التي تتولاها. ويُفهم من أقوالها أنها تجاوزت الأمر الذي أعطاه رئيس الحكومة للوحدة. "الحركة العفوية" للاجئين إلى الضفة الشرقية توقفت، كما قالت، ولذلك قررت أن تدفع لكل من يرغب في الخروج رسوم سفر إلى جسر أللنبي ومن هناك إلى مخيم اللاجئين الكرامة في الضفة الشرقية. لغرض نشر بشرى السفر المجاني جندت 5 عمال إسرائيليين يتحدثون العربية، ووجد هؤلاء سكانًا محليين لينشروا الخبر بين سكان مخيمات اللاجئين. تفاجأ أشكول من هذا التقرير الذي سمعه وحاول إقناع سيريني بأن اعتباراتها خاطئة. أما هي من جهتها فقد أصرت على رأيها وادعت بأنها لو لم تقرر دفع رسوم السفر، فإن الهجرة من القطاع كانت ستتوقف تمامًا. ولذلك اقترحت أيضًا دفع 250 ليرة لكل عائلة توافق على الخروج بأكملها. وهنا سارع أشكول إلى الرفض، ولكنه طلب من سيريني أيضًا أن تحضر وثيقة بميزانية خطتها تقدمها له ليطلع عليها.

كلما ازدادت وتيرة خروج اللاجئين المعدمين إلى الأردن، كما كتبت سيريني، كان يزداد حجم انضمامهم إلى قوات المقاومة الفلسطينية متل تلك التي عملت في مخيم الكرامة

في اليوم نفسه الذي التقى فيه مع سيريني، أمر أشكول الجيش الإسرائيلي أيضًا بالخروج إلى هجوم عسكري مكثف على مخيم اللاجئين الكرامة في الضفة الشرقية – وهو المكان الذي كانت سيريني ترسل اللاجئين من قطاع غزة إليه. وشكّل مخيم الكرامة مركز قيادة لقوات فتح وخرجت منه عشرات العمليات العسكرية على طول الحدود الاسرائيلية الأردنية منذ تشرين الأول/ أكتوبر 1967، وهي عمليات طالت جنودًا ومواطنين إسرائيليين. في المعركة القاسية التي دارت فيما أطلق عليها لاحقًا اسم "عملية الكرامة" تكبّد الطرفان خسائر كثيرة. وقوات الجيش الإسرائيلي التي ضمت قوات دبابات، مدفعية، مشاة، هندسة وقوات جوية، نجحت من جهة في هدم قاعدة فتح في المكان، لكنها تركت وراءها مدرعات إسرائيلية عسكرية لم تنجح في إنقاذها وإعادتها. ولشدة مفاجأة الإسرائيليين، تحولت معركة الكرامة بسرعة إلى رمز لدى الجمهور الفلسطيني، وارتفعت مكانة حركة فتح ودافعية التجند في صفوفها أكثر فأكثر (33). لقد نظر إلى مقاتلي فتح كمن لم يخشوا قتال الجيش الإسرائيلي بل تسببوا له بخسائر. وعملية الكرامة صعّبت جدًا أيضًا على نشاط وحدة سيريني لتشجيع الهجرة من قطاع غزة إلى الضفة الشرقية، وهي النتيجة التي لم يتوقعها أشكول مسبقًا بالتأكيد.

لم تكن إسقاطات عملية الكرامة واضحة بعد حين قدّمت سيريني إلى رئيس الحكومة وثيقة ميزانية وحدتها قبيل نهاية آذار/ مارس 1968. كانت فرضية العمل في الوحدة، كما كتبت سيريني في وثيقة الميزانية، أن نافذة فرص "الاستغلال بأقصى حد للرغبة القائمة اليوم في قلوب كثيرين للخروج آخذة بالانسداد". وكلما ازدادت وتيرة خروج اللاجئين المعدمين إلى الأردن، كما كتبت، كان يزداد حجم انضمامهم إلى قوات المقاومة الفلسطينية متل تلك التي عملت في مخيم الكرامة. هذه السيرورة، كما كتبت، من شأنها أن تفكك المملكة الأردنية وأن تقود إلى إقامة حكومة ناصرية في الأردن. والطريقة الوحيدة لمنع هذا السيناريو، كما جزمت، هي توفير مبلغ مالي بالحد الأدنى لكل عائلة تغادر القطاع كي تتمكن من الوصول إلى دول النفط والاستقرار فيها (34).

جرى بحث الميزانية غداة اجتماع رئيس الحكومة أشكول مع سيريني. وأفادت سيريني أن الضفة الشرقية تحولت إلى مكان غير مستقر وخطير، ولذلك لن يكون الناس معنيين بعد في الهجرة إليها. العائلات التي انضمت فعلًا إلى السفر الذي نظمته لهم مجانًا وسافروا إلى الأردن كانت عائلات فقيرة إلى درجة أنها تعرضت في الأردن إلى خطر الجوع، كما روت. وفي غياب أي إمكانية أخرى، انضم كثيرون منهم إلى فتح. الطريق الوحيدة لتشجيع الهجرة من القطاع وجعل المهاجرين يتمكنون من الاستقرار في مكان جديد وليس الانضمام إلى منظمات المقاومة الفلسطينية، كما جزمت سيريني، هي دفع أموال للعائلات. وادّعت أنه "في حال لم يُدفع لهم هذا المال، فليس هناك احتمال لأن يخرجوا بالمرة". لقد استغرق الأمر أشكول شهرين إضافيين كي يقتنع ويصادق لسيريني على الدفع للمغادرين. والقوات الأردنية على الحدود كانت بدأت بمضايقة سائقي الباصات الذين نقلوا اللاجئين إلى الحدود وكانت تقوم بضربهم؛ الحكومة الأردنية فهمت جيدًا أن إسرائيل تشجع هجرة الفلسطينيين إلى أراضيها، وأن هؤلاء سينضمون إلى المنظمة التي تتواجه معها. في ضوء هذه التطورات، صادق أشكول في أيار/ مايو 1968 على دفع 50 ليرة لكل شخص و250 ليرة لكل عائلة تخرج من القطاع (35).

دلّت المعطيات التي جمعتها قوات الأمن الإسرائيلية على أن الهجرة من قطاع غزة تواصلت أيضًا بعد أن بدأ الأردنيون بالمعارضة الفعلية لاستيعاب فلسطينيين، ربما بسبب المبالغ التي نظمتها سيريني. وهكذا، ففي شهر أيار/ مايو 1968 خرج من قطاع غزة 2300 شخص، وفي شهر حزيران/ يونيو 1937 شخصًا، وفي شهر تموز/ يوليو 2144 شخصًا. ولكن في 30 تموز/ يوليو قررت حكومة الأردن الحظر التام للانتقال من قطاع غزة إلى أراضيها، وتوقفت الهجرة من القطاع تمامًا تقريبًا. وشرح ممثلو الأردن في الأمم المتحدة بأن هذه الخطوة جاءت لغرض منع إسرائيل من تطبيق خطة سرية لنقل 50 ألف لاجئ من قطاع غزة إلى الضفة الغربية. وكانت النتائج أن عدد المغادرين من القطاع قد تضاءل بشكل دراماتيكي. في آب/ أغسطس 1968 غادر القطاع 50 شخصًا فقط، وفي أيلول/ سبتمبر 46 شخصًا، وفي تشرين الأول/ أكتوبر غادر القطاع 25 شخصًا لا غير (36).

وبات نشاط وحدة عادا سيريني بعد أيار/ مايو 1968 يلفه الظلام. ربما أنها عملت في الحلبة الدولية وساهمت في الاتصالات مع حكومة بارغواي التي سيتم ذكرها لاحقًا.
في جميع الأحوال مثلما ظهر على الفور، حين تم صد انتقال سكان القطاع إلى الضفة الشرقية، وحين بدأ الوضع الأمني في قطاع غزة بالتدهور، توقف رؤساء قوات الأمن عن رؤية نشاط تشجيع الهجرة في ضوء إيجابي (37).


(يتبع جزء ثالث وأخير)


هوامش:

[20] شلومو غزيت، العصا والجزرة: الحكم الإسرائيلي في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، تل أبيب: زموره بيتان، 1985.

[21] "توجيهات لإعداد ميزانية الإدارة المدنية"، 5.11.1967، أرشيف الجيش الإسرائيلي، 224-51/1985.

[22] وزارة الدفاع، لجنة المديرين العامين لمعالجة المسائل المدنية في المناطق التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، 28.9.1967; جلسة لجنة الوزراء لشؤون الاقتصاد، 15.5.1968، أرشيف الدولة، ج-10346/3.

[23] "هجرة من المناطق المسيطر عليها"، 31.8.1968، أرشيف الدولة، ح ص-4296/11; "بروتوكول الجلسة بشأن عمل السيدة عادا سيريني"، 19.2.1968، أرشيف الدولة، أ-7921/4.

[24] "هجرة من المناطق المسيطر عليها"، 31.8.1968، أرشيف الدولة، ح ص-4296/11.

[25] شلايم (هامش 8)؛ رؤوفين بداتسور، انتصار الحرَج: سياسة إسرائيل في المناطق بعد حرب الأيام الستة، تل أبيب: بيتان، 1996; لجنة الوزراء لشؤون الأمن، 20.12.1967، أرشيف الدولة.

[26] للتوسع حول اللجنة، يُنظر: Omri Shafer Raviv, “Studying an Occupied Society: Social Research, Modernization Theory and the Early Israeli Occupation,” Journal of Contemporary History 55(1) , 2020, pp. 162–181.

[27] "جلسة حول موضوع اللاجئين مع بيكي ودفورتسكي"، 6.12.1967، أرشيف الدولة أ-7932/3.

[28] المصدر نفسه.

[29] المصدر نفسه.

[30] لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، 23.1.1968، أرشيف الدولة، جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست.

[31] "بروتوكول الجلسة بشأن عمل السيدة عادا سيريني"، 19.2.1968، أرشيف الدولة، أ-7921/4.

[32] المصدر نفسه.

[33] لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، 22.3.1968، أرشيف الدولة; يوآف غلبر، الزمن الفلسطيني: السنوات الثلاث التي حوّلت فيها إسرائيل عصابات إلى شعب: إسرائيل، الأردن والفلسطينيون، 1967–1970، لواء موديعين: دفير، 2018; W. W. Harris, “War and Settlement Change: The Golan Heights and the Jordan Rift, 1967–1977,” Transactions of the Institute of British Geographers 3(3), 1978, pp. 309–330

[34] "ميزانية لنشاطات الهجرة"، 26.3.1968، أرشيف الدولة، أ-7921/4.

[35] "بروتوكول اللقاء مع عادا سيريني"، 13.5.1968، أرشيف الدولة، أ-7921/4.

[36] "هجرة من المناطق المسيطر عليها"، 16.11.1968، أرشيف الدولة، ح ص-4296/11.

[37] مقابلة مع شلومو غزيت، 6.11.2017.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.