}

مسلسلات رمضان 2023: هل الدراما العربية في طريقٍ مسدود؟(2/2)

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 6 مايو 2023
هنا/الآن مسلسلات رمضان 2023: هل الدراما العربية في طريقٍ مسدود؟(2/2)
مكسيم خليل وريم علي في "ابتسم أيها الجنرال"
هل وصلت الدراما العربية إلى طريقٍ مسْدود؟ سؤال يطلّ بِرأسه، منذ أعوام، بعد كل موسمٍ دراميٍّ رمضانيّ. ولكن، ما مدى مشروعية سؤال بكلّ هذا النسف لِجهدِ الآخرين وَتَعَب كتاباتِهم وإنتاجاتِهم وإخراجِهم وتمثيلِهم، وما بين كلّ ذلك من مونتاجٍ وموسيقى وَديكور وَملابس وَخدمات وفنيّات وَعمليات وقائمةٍ تَطول؟
على أنَّ السؤالَ ليس كلَّهُ من دون معنى، ولا بِداعي التّحطيبِ الكئيبِ الدّافع نحوَ أبوابِ اليأْس.
تبدأُ المسألةُ بِالنسبة لِلمتابعين؛ المختصّين منهم وَالمشاهدين العاديين على حدٍّ سواء، من هاجسِ المُقارنة بين قديم الدّراما العربية وجديدِها. من تلمّسهم حجمَ التِّكرار في بعض الأعمال، ومدى إِتيان بعضِها الآخر بِجديد. من صدمتِهم لِرَّكاكة بعض الأعمال، مُقابل الإِجادة المدفوعةِ الأجْر لِتمرير أجنداتٍ بعينِها في أعمالَ أُخرى. من الضياعِ في قائمةِ مسلسلاتٍ لها أوّل وليس لها آخِر (بلغ مجموع الأعمال العربية التي قُدِّمت خلال رمضان هذا العام 2023، زهاء 151 عملًا، منها المسلسلات التي تتسلسلُ أحداثُها على مدار 30، أو 15 حلقة، أو 20، أو 10 حلقات، وَمِنها السّهرات المتّصلة المُنفصلة، التي تنتهي مقولاتُها بانتهاءِ حلقاتِها اليومية).
زمان، قبلَ الأقمار و(الستلايت)، والإنترنت، و(سيرفرات التهْكير)، ومنصّات العرض، كانت الأُسر العربية جميعُها، تقريبًا، تلتفّ حوْل مسلسلٍ واحدٍ (سوريٍّ، أو مصريٍّ، أو تاريخيٍّ مشترك، أو بدويّ) يشاهدُهُ الناس من الخليجِ الثائرِ إلى المحيط الهادرِ. وكانت حلقات المسلسل 13 حلقة فقط، تُعرض الحلقةُ منهُ مرّة كلّ أسبوع، وَيجري تبنّي موسمٍ برامجيٍّ دراميٍّ جديدٍ كلّ ثلاثةِ أشهر. وَلم تكُن تحظى بِثلاثين حلقةً إلا الأعمال الدراميّة التاريخيّة، أو السيريّة، الكُبرى.
لا يعني كلامي أن في هذه المُعطيات الخيرَ كلّه، ولا يعني، في المقابل، أن التطوّر الذي تحقّق حَمَلَ الخيرَ كلّه. على أن الحاجةَ إلى شكلٍ من أشكالِ توحيدِ الإنتاج الدراميّ العربيّ باتت، بِصدق، ملحّة. تحضرُ في هذا السياق شركاتُ إنتاجٍ عربيّ كانت واعِدةً قبلَ أن يطويها النسيان.

فكانَ أنْ ابتسم
في "ابتسم أيها الجنرال"، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، انْقلب سامر رضوان، مؤلّف "الوِلادة من الخاصرة"، و"لعنة الطين"، و"دقيقة صمت"، على نفسه، تاركًا الفاسدين (الفراطة) من أقارب النظام وكِبار ضبّاطه متوجهًا بقلمه نحو رأس النظام (دعك مما كُتِب في مستهلِّ كلِّ الحلقات أن "جميع شخصيات المسلسل وأحداثه من وحي الخيال، وإن أيّ تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة")، ففُرات (مكسيم خليل) هو رأس النظام السوريّ؛ مرّة يقترب من شخصية حافظ الأسد، وفي أخرى يقترب من شخصية بشار الأسد، وشقيقه عاصي (غطفان غنّوم) مرّة هو رفعت الأسد، وفي أُخرى هو ماهر الأسد. على كل حال، ليست هذه التفاصيل هي مربط كلّ شيء، فالمعروف أن شقيق الرئيس الذي غادر، أو أُبعد إلى فرنسا، هو رفعت وليس ماهر، لكن بعض أحداث العمل تدور في العام 2005، ما يعني أن الفكرة هي المحور؛ ما يُحاك داخل قصور تلك المافيا من مؤامرات، وما يتبع تلك المؤامرات من مآلات آخر همٍّ أحدٍ فيها هو الشعب السوري. مِن هنا تصدّى العمل لِمسألة تعريةِ نظام الحُكم في سورية مدخلًا لِمواساة الشعب السوريّ وَوضعه أمام حقيقة من يحكمه وتسبّب بمختلف ما يعانيه الشعب الشقيق في الداخل والخارج من آلام، خصوصًا ما يعنيه مَن بقيَ مِن السوريين داخل سوريّته، في ظل ظروفٍ مأساويّةٍ مِن الفقرِ والحرمانِ وتكميمِ الأفواهِ والنقص في كلِّ شيء، ليس بدءًا من الطاقة، ولا انتهاء من بعضِ كرامةٍ، يُحرم منها أهل الشام، بالقدر نفسه الذي يُحرم منها أهل اللاذقيّة.
بِسيناريو محبوسٍ داخل سرديّة أسرار الحُكم في سورية، وإخراجٍ واقعيٍّ تعامل مع قوى الإنتاج المُتاحة ("ابتسم أيها الجنرال" هو عملٍ لِلشركة المنتِجة ميتافورا مشكورةً على اختيارها هذه الوجهةِ المدجّجة بِالألغام)، وتمثيلٍ متفاوتٍ بين إجادةِ عبد الحكيم قطيفان (تألّق في دورِ حيدر مدير المخابرات)، ومحمد الأحمد (أداءٌ مقنِعٌ ومطمئِن)، وريم علي، وبسام قطيفان، ومازن الناطور، ومكسيم خليل، وعدم قوّة أداء معظم الباقين (الأداء الزائد (الأوفر) عند غطفان غنّوم، والمتقلّب عند سوسن ارشيد (شقيقة فرات وعاصي)، وغير المُقنع عندَ نيفين برنبو (زوجة عاصي))، بين كلّ هذا وذاك، مع ظروفٍ إنتاجيّةٍ صعبة (تأمين مواقع التصوير وحده استهلكَ كثيرًا من الجهد والتنقّل والبحثِ عن حلولٍ ممكِنة)، ومع ضخٍّ موسيقيٍّ زاد عن حدّه في كثيرٍ من الأحْيان، فإن تجربة محاكاة قصر الموت في دمشق كان لَها ما لها، وعليها ما عليها. اجتهادٌ نشكرُه من دون أن نجاملَه.




مما لا شك فيه أن العمل يكشف كثيرًا من أسرار "بيت الطاعة" السوريّ، ومفاصل الحكم فيه، ودور المخابرات المحوريّ في كل شيء هناك، وهذه تسجّل له، على أن النوايا الحسنة لا تصنع فنًّا كما نعرف جميعنا. ما علينا، المهم أن الجنرال ابتسم، أخيرًا، في المشهد الأخير من الحلقة الأخيرة. مشهدٌ منحه المخرج عروة محمد الوقت كلّه، فإذا بِتلك الابتسامةُ بشعةٌ مرعبةٌ إلى أبعد الحدود. ولعلّه رعبٌ مقصودٌ، أراد عُروة أن يشكّل قفلةَ بعضِ أسرارِ عائلةٍ مُرعبة، تضع الشعب، كما جاء على لسان معظم أفرادها في العمل، في ذيل قائمة أولوياتها. ذيلٌ سرعان ما يُأمرُ بقطعه مع أوّل صداعٍ قد يتسبّب بِه.

كلمةُ حق...
في نهاية المطاف، لا نملك إلا رفع القبعات لِلقائمين على "ابتسم أيها الجنرال" جميعهم، فهم، رغم كلّ الظروف حولهم، ورغم مشاريع تأهيلِ النّظام القاتل في قلب عاصمة الأمويين، أشعلوا شمعةً بَدَلَ مواصلةِ لعْن الظلام. قالوا إن هذا بعض ما يجري في كواليس طغمةٍ تحكم بغيرِ العدل ولا الدّيمقراطية ولا مراعاة حقوق الإنسان وكرامته وتوقِه لِحياة كريمةٍ حرّةٍ أبيّة، وهي تفعل ذلك منذ 53 عامًا من دون أن يصرخ أحدٌ في وجهها "كفى". وعليه نقول: يعطيهِم، أسرة المسلسل، ألفَ عافية.

مُوالاة ومعارَضة...
في سياق المقارنة بين "الزند... ذئب العاصي"، بوصفه مسلسلَ موالاة، و"ابتسم أيها الجنرال"، بوصفه مسلسلَ معارضة، أعجبني ما كتبه الزميل علي العائد في مادة نشرها له ملحق "ضفة ثالثة" بتاريخ 6 أبريل/ نيسان 2023: "ليل السوريين الطويل، المعاصر، منذ أكثر من خمسين، ومنذ أكثر من 12 سنة بعد الثورة، وبعد الهدوء النسبي لصوت السلاح، وارتفاع صوت الأمعاء الخاوية للسوريين في الداخل، لا يزال في أوّله، فلا السياسة والسلاح أفلحا في إيقاظ الشمس، ولا تقاطع المصالح الدولية أعلن عن نهاية. وبالتالي، لن يقوّي النظام هناك مسلسلٌ موالٍ، ولن يقوّي المعارضة هنا مسلسلٌ موالٍ لها".

نيتشه وميكيافيلي
بين الفيلسوفيْن نيتشه وميكيافيليّ (الأول ألماني، والثاني إيطاليّ فلورنسيّ)، حدث تنافسٌ غير متوّقع (على الإطلاق) في دراما رمضان هذا العام. ففي حين استهلّت كلَّ حلقة من حلقات "ابتسم أيها الجنرال" بمقولة من مقولات ميكيافيليّ الواردة في كتابه الشهير "الأمير"، فإن عاصي الزّند في المسلسل الذي يحمل اسمه لم يتوانَ، وهو العائد من عسكريّةٍ عثمانيّةٍ امتدت لـ 17 عامًا، من ذكر اسم نيتشه لتمرير عبارة له: (يقول نيتشه: الفرصة وقت اللي بتمدلّك راسا، لا تِتْحَيْوَن وتعطيها ظهرك). كلاهما فردريك نيتشه (1844 ـ 1900)، ونيكولو دي برناردو دي ميكيافيلّي (1469 ـ 1527)، نحّيا، في كثيرٍ من طروحاتهما، الأخلاق جانبًا، رائييْن بأهمية القوة، وداعييْن للانتصار إلى منطقها (منطق القوة)، حيث يحق للأقوياء، بحسب نيتشه، فرض قيمهم الخاصة وتعميمها على غيرهم. أما ميكيافيلي فيرى أن القوى المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية والسلطة.


قد يسأل سائل، وما علاقة عاصي الفلاح العسكريّ بنيتشه، وبكل ما يشير إلى القراءة والاطّلاع والمعرفة والثقافة؟ الجواب هو إما عند تيم حسن نفسه الذي يضيف إلى مشاهده، ويغيّر فيها، وَيمنحها بعض سماتِ شخصيته، أو عند المؤلف عمر أبو سعدة، أو المخرج سامر برقاوي.
في "ابتسم أيها الجنرال"، استجدى العمل ثلاثين عبارةً لِميكيافيلي، بدأت في الحلقة الأولى بِعبارة: "الأسس الرئيسية في كل دولة هي القوانين الجيّدة والأسلحة الجيدة، وحيثما توجد أسلحة جيدة، هنالك قوانين جيدة، حتمًا"، وأنهاها في الحلقة الأخيرة بجملة: "الوعد المُعطى كان ضرورة من الماضي، الكلمة المكسورةُ هي ضرورة الحاضر"، وقد جاء هذا الاستجداء متماهيًا مع رؤى أصحاب السلطة، وفي إطار تبريرِهم أفعالَهم، وهو ما يوضِح، بالتالي، إظهار رئيس دولة الفُرات (لاحظوا أن الدولة تحمل اسم رئيسها: سورية الأسد)، في أكثر من مشهدٍ وهو يحمل كتاب "الأمير" بين يديه.

متعةُ الأجْهر...
كعادتها، تصدّرت مصر الإنتاج الدراميّ العربي لهذا العام على صعيد الكم (أكثر من 30 مسلسلًا)، من دون أنْ نقصد أنّ الأمرَ ليس نفسه على صعيد النّوع.
اللافت (كما أسلفنا عند الحديث عن مسلسل "سرّه الباتع")، أن هاجس الإرهاب اقتصر على مسلسلٍ واحد "الكتيبة 101"، في حين تأخّر عرض مسلسل "حرب"، تأليف هاني سرحان، وإخراج أحمد نادر جلال (ابن المخرج المصري الراحل نادر جلال) حتى العشر الأواخر من رمضان، كون عدد حلقاته عشر حلقات فقط (خيرًا فعلوا). "حرب"، بدوره، يتوّرط، كما فعل مسلسل الكتيبة، بالموضوعِ نفسِه حولَ إرهابيٍّ تسلّل إلى مصر، ويريد أن يقلِب عالِيها سافلَها!! وكأنَّ كلَّ خراب (أمّ الدنيا) سببه، فقط، الإرهاب المُدّعى، أو المُفترض، أو الذي حدث فعلًا بأجندات خارجية، أو داخلية (نعم داخلية)!
بعيدًا عن أجندات مسلسلات الإرهاب، ومسلسل التحطيبِ والتّشويه والتّكفير "سرّه الباتع"، فقد خاضت باقي المسلسلات المصرية لهذا العام بِقضايا اجتماعيةً وإنسانيةً كثيرة. كما أن عددًا غيرَ قليلٍ مِنها انتصر لِلمرأة، وَجعلها قضيّتَه الأولى، ومنها: "تحت الوصاية" الذي تدور أحداثه حول أرملة (منى زكي) تعيل أسرتها الصغيرة من خلال عملها على مركب صيد تمتلكه، "الهرشة السابعة"، "جميلة"، "تغيير جو" و"عملة نادرة" وكلاهما حول الاستيلاء على ميراث النساء، "وعود سخية"، "ليل أم البنات"، "ستّهم" المتصل المنفصل (كل حلقة قصة نجاح، أو كفاح امرأة)، "حضرة العمدة" حول أستاذة جامعية في علم النفس، تترشح، بضغطٍ من عائلتها، وتصبح عمدةَ قريَتِها.



وسط سوق رمضان الدراميّة المصريّة الزّخمة، يطلّ مسلسل "الأجهر"، تأليف ورشة جماعية (أحمد بكر، وأحمد حلبي، ومحمد فوزي، وغيرهم) وإخراج ياسر سامي (أخرج شادي مهران مشاهد الوحدة الثانية)، بِخالص متعتِه، وَرشاقة حوارات مشاهده؛ حوارات لم تختر الأبْلغ، بل الأكثر صدقًا وتعبيرًا عن روح العمل الشعبية التي اختارت "الدرب الأحمر" موقعًا رئيسيًا لأحداث المسلسل ومسقط رأس معظم أبطاله، باستثناء بطل المسلسل يوسف، أو مصطفى الأجهر (عمرو سعد)، الذي أصبح الحيُّ ملجأه بعد هروبه من السجن ومن قبضة عصابة على التوالي، مُتَّهمًا بقتل والدته.
تفاصيلٌ اجتماعيةٌ وإنسانيةٌ وحياتيةٌ عديدةٌ مديدةٌ تتناولها حلقاتُ العمل الذي يذهب نحو مهنةِ صناعة الذهب والاستثمار فيه، وفي المجوهرات والأحجار الكريمة (بحثي لم يصل إلى علاقةٍ ما بين حيّ الدّرب الأحمر وهذه المهنة)، وَيُقيم خلال الحلقات عالميْن: عالم الأشرار في هذه المهنة وعالم الأخيار. وَيعاين الصراع بينهما، لِينتصر في نهاية المطاف عالم الأخيار الذين قادهم يوسف الفتى الهارب من جريمة لم يرتكبها، العاقد العزم على إنجاز ثلاث قضايا نذر نفسه لها، ألا وهي: إثبات براءته، الثأر لمقتل أمّه، وأخذ حق إخوته من الدنيا. وهو الحق الذي حرِموا منْه منذُ مقتلِ أمّهم وَهروب أخيهم الأكبر، وذاقوا الضّنك وشظفَ العيشِ والتنقّل بِعثراتهم من مدينةٍ إلى أُخرى.
في المفارقات (وما أكثرها في العمل) يتبيّن أنّ مَن يجب أنْ ينتقم يوسف منه لِمقتل أمه هو، في الحقيقة، والده التاجر الغني المعروف شريف منصور (محمود قابيل) الذي كان تزوّج رقية (وفاء عامر) الخادمة (أم يوسف) وأنجبت منه يوسف (أدى رابي نجل عمرو سعد دور يوسف الفتى باقتدارٍ لافت) قبل أن تقرِّر زوجته مهيرة (أنوشكا) الغنيّة المتنفذة المتسلطة أن عليه قتل المرأة وابنها لِمحو عارِهِ المتمثِّل بِالزواج من خادمة، وحرمان ابن الخادمة من الميراث الضخم الذي سيتركه بارون الذهب والمجوهرات. ينجح من أرسلهم البارون بقتل الأم، وَيفشلون بقتل ابنها مدّعين أنهم نجحوا بِقتله لِيطوي رجل الأعمال صفحة الماضي كما توّهم، إلى أن عاد إليه هذا الماضي بكلِّ ثقله في الحلقة الأخيرة من المسلسل.
عن أحلام الفقراء، وَشكل علاقاتهم في ما بينهم، وما تحتويه، في كثيرٍ من الأحيان، هذه العلاقات، من حرارة ودفءٍ وَتكافلٍ وعفويةٍ وخفّة ظِل.




عن العدل، ولو بأيّ طريقة. عن العزيمة، وَالإيمان بِقوة الإرادة، وَالإحساس العالي باِلذات، عن أفريقيا النائمة فوق بحر من الألماس والياقوت والمرجان، ولكن شعوبها فقيرة، عن تجلّيات عمرو سعد في دروب الدراما، وبلوغِهِ في تعابيرها والإحساس بها، مطارِح غيرَ مسْبوقة.
كلُّ ما مضى لا ينفي أن المسلسل يتقاطعُ كثيرًا مع مسلسلات الأبطال الشعبيين الذين شَطبوا مُفردة مستحيل من قَواميسهم، ولا يعاينونَ الواقِعَ بعينٍ نقديّةٍ جدليةٍ عميقةِ التأمّل، بل يتنطّحون بقوةِ أجسادهم وَجسارة قلوبهم ليحلّوا كلَّ مُعضلات التمييزِ الطبقيّ والفساد المجتمعيّ المستفحِل. عمرو سعد نفسه شارك بعدد غير قليل من هكذا مسلسلات: "ملوك الجدعنة" مع مصطفى شعبان، "شارع عبد العزيز"، "توبة"، وغيرها من أعمال سعد. يبدو أن عمرو سعد قرر الانتقام الشرس من كل الظلم الذي تعرّض له في فيلم "دكان شحاته"، وامتناعِه عن ردِّ الصّاع لإخوته غير الأشقاء في الفيلم، وصولًا إلى مقتلهِ بكل سلبية في نهاية الشريط، فإذا به في جلّ أعماله الدراميّة التلفزيونية اللاحِقة، يصبح بطلًا خارقًا، يملك من الحلول الفردية ما لا تملكه دولٌ على صعيد الحلول الجماعية. ومع كل هذا وذاك، فإن تسليةً فريدةً يعِدُ بها "الأجهر" صاحب البصيرة التي يستعيض بها عن ضعف بصره النهاريّ (في اللغةِ الأَجْهَرُ: هو الذي لا يُبْصِرُ في النَّهارِ). متعة لمّ شمل إخوة من الأم، مع إخوةٍ من الأب، ليتبيّن أن المعاني الإنسانية أقوى من الفروق الطبقيّة.

حساسياتٌ وَمحاذير
كثيرٌ من مسلسلات رمضان هذا العام طرقت أبواب قضايا حسّاسة، حتى لا نقول غايةً في الحساسية، مثل علاقةِ السوريين بِأشقائهم اللبنانيين "النّار بالنّار"، علاقة العراقيين بِأشقائهم الكويتيين "دُفعة لندن"، وَعلاقتنا بتركيا المعاصرة طالما أن عمليْن ضخميّ الإنتاج ("الزند... ذئب العاصي"، و"سفربرلك") تطرّقا هذا العام لِصراعنا مع السلطنة العثمانية وتقلّبات علاقة العرب بها، وصولًا إلى محاربتها. وفي حين قيل إن "الزند" تعرّض لتعديلاتٍ كثيرةٍ على صعيد السيناريو وَمتواليات الأحداث، مراعاة لِمشاعر تركيا الجارة القريبة في الوجدان والذاكرة، فلا معلومات لديّ، إن كان الأمر نفسه جرى مع "سفربرلك"، وهل لِمسألة اقتصاره على 20 حلقة علاقةٌ بِذلك؟
الحقيقة أن هكذا حساسيات تستدعي، بالضرورة، طروحات عميقةَ المَغزى، ذكيّة التناوُل، عروبيةَ الغاية، إنسانيةَ المقاصِد، والسؤال: هل تحلّت الأعمال التي تناولت قضايا حسّاسة، بهذه المواصفات جميعها؟ سأترك الإجابة عن هذا السؤال لِغيري.

طريقٌ مفتوح
يبدو أن الطريق المسدود هو الطريق الخاص بسياسات الأنظمة العربية، وَتقديمها مصالحِها على أيِّ إمكانية وحدةٍ، أو حتى تقاربٍ عربيّ/ عربيٍّ مُمكن. فأهل الدراما العربية بِخير، وما ينقص بلدًا عربيًّا على صعيد التقنيات، أو الكتابة الدرامية، أو الإخراج، أو حتى التمثيل، يمكن الحصول عليه من بلد عربي له باع فيه على اختلافه، المهم أن تتوفّر النيّة، كما توفّرت في مسلسل "ليلة السقوط" على سبيل المثال، فصحيحٌ أن الجهة المُنتجة عراقية (قيس الرضواني)، والتأليف الموسيقيّ عراقيّ (رعد خلف)، ولكن المشاركين فيه يمثّلون خمس دولٍ عربية: مصر وسورية وتونس والأردن وفلسطين، إضافة طبعًا لعددٍ مهمٍّ من المُمثلين العراقيين.
في كلِّ عامٍ مقبلٍ، ستزيد الحاجةُ أكثر للأعمال الدراميّة الرمضانية، مع اقتراب شهر رمضان عشرة أيام كل عام باتجاه فصليّ الشتاء والخريف، حيث يطول الليل، وتقلُّ، كثيرًا، فُرص السّهر خارج البيوت، على الأقل لدى الشرائح الأوسع، الأقل بذخًا، وتوفّر بدائل، ما يستدعي، أن يعمل القائمون على صناعة الدراما التلفزيونية عربيًّا، نحو التوجّه إلى الأعمال المشتركة، الأكثر موضوعية، وتماسًّا مع هموم الناس، خصوصًا أبناء الطبقة الوسطى على اختلاف درجاتها، أو درجاتهم، فهم الأكثر متابعة، وتفاعلًا، ومجالسةً لمنصّات التواصُل. وهم، عادة، حطب هذي الفَلاة المسمّاة، أو كانت مسمّاة: وطنًا عربيًا. هم نبضُها وفرحُها وخزّانُ أحزانِها. وهم، إلى ذلك، أدبياتُ تمرّدِها، وفرصُ انتفاضِها ذاتَ أجملِ الأيّام، تلكَ التي لمْ تأتِ بَعد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.