}

ميلان كونديرا: رحيل آخر الروائيين القابضين على تعقّد الوجود

دارين حوماني دارين حوماني 13 يوليه 2023
هنا/الآن ميلان كونديرا: رحيل آخر الروائيين القابضين على تعقّد الوجود
(Getty)
أنا روائي وحسب

"- هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟ - لا، أنا روائي. – هل أنت منشقّ؟ - لا، أنا روائي. – هل أنت يساري أم يميني؟ - لا هذا ولا ذاك. أنا روائي"، بهذه الكلمات يعرّف ميلان كونديرا، الكاتب الفرنسي التشيكي الأصل، عن نفسه في أحد الحوارات التي أُجريت معه، وهو المولود في تشيكيا عام 1929، وقد غيّبه الموت صباح أمس الثلاثاء في باريس بعد حياة مكثفة بالتمرد والتحدي والكتابة، مصابًا بجرح عميق من بلاده ومن الحزب الشيوعي، الذي تحمّس له في شبابه، ثم بدأ بكتاباته النقدية للحزب وشارك في ربيع براغ 1968، فعُدّ منشقًا، وفُصل من الحزب عام 1970، وكان قد فُصل عام 1950 حتى عام 1956، هو والكاتب جان تريفولكا بسب "أنشطة مناهضة للحزب"، وحُظرت كتبه من التداول في تشيكيا في عام 1970 حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989، وتم سحب الجنسية التشيكية منه عام 1979، ولم يستعدها إلا عام 2019.

كونديرا الذي بدأ شاعرًا مع ثلاث مجموعات شعرية، "رجل: حديقة واسعة" (1953)، و"أيار/ مايو الماضي" (1955)، و"مناجاة" (1957)، لا يعدّ نفسه شاعرًا، رغم عشقه للشعر، واستشهاده المتكرر بالشاعر التشيكي جان سكاسل في أعماله. قدّس كونديرا الرواية؛ فهي "تجعلنا نرى ما نحن عليه، وما نحن قادرون عليه"، ويعتبرها الجنس الأدبي الأمثل للتعبير عن نفسه وعن العالم، "الأمر الوحيد الذي رغبتُ به آنذاك بعمق ولهفة هو نظرة صافية ومتحررة من الوهم. ووجدتها أخيرًا في فن الرواية. لهذا السبب أن يكون المرء روائيًا، شكّل بالنسبة إليّ، وأكثر من ممارسة أي جنس أدبي آخر، موقفًا وحكمة وموقعًا اجتماعيًا، موقعًا يستعيد كل تماثل مع السياسة والأيديولوجيا والأخلاق والجماعة".
في عام 1958 نشر مجموعته القصصية الأولى "غراميات مرحة"، ومن بعدها ستبدأ حقبة تالية من الكتابة يحاول فيها الوصول إلى فن الرواية لكنه لن يستطيع الابتعاد عن نفسه كثيرًا، والابتعاد عن نفسه كان السبب الذي دفعه للتوقف عن كتابة الشعر فيما بعد... يستعيد كونديرا في كتابه "فن الرواية" (1986) سؤالًا طُرح على الروائي كاريل كابيك Karel Kapek لماذا لا يكتب الشعر؟ وكان جوابه "لأنني أكره الحديث عن نفسي"؛ حاول كونديرا السير على هذه القاعدة لكن شخصيات رواياته تؤرّخ، لا لحياتها فقط، بل لأفكار كونديرا نفسه الفلسفية والفكرية وحتى السياسية، وحيث يمكن التعرّف على المطابقة بين كونديرا وأبطاله في رواياته من خلال المحاورات والإنصات إلى دواخل هذه الشخصيات الدفينة. وحيث اعترف لاحقًا لدى سؤال صحافي له: "تريد أن تعرفني، اقرأني". 

ميلان كونديرا في باريس (Getty, 30/11/2010)


في رواياته لاحقته أشباح الماضي، وانعكس هذا الشرخ مع الوطن ومع مفاهيمه الأولى، ومع نفسه، كما انعكس شعوره بالمنفى، حتى من قبل هجرته مع زوجته فيرا إلى باريس عام 1975، منذ روايته القصيرة "تمطر السعادة عليهم" (1962) التي تضمنت وصفًا لطرده الأول من الحزب عام 1950، ثم في روايته "المزحة" (1967) مستخدمًا الطرد ثيمة للرواية وساخرًا فيها من شمولية الحزب الشيوعي، "التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي! لودفيك"، وحيث سيُرسل بطل الرواية "سينيك" إلى فوج تأديبي لأنه كان يحب الرسم التكعيبي، وكانت هذه الرواية أحد أسباب فصله النهائي من الحزب.

تطغى على عالم كونديرا الروائي نزعة العدمية، الشك في الوجود وفي القيم الإنسانية، وأن الحياة لا معنى لها، ولا يبتعد كونديرا عن الكوميديا السوداء التي يمرّر من خلالها موقفه من العالم. يقول كونديرا في كتابه "المحاورة" إن رواياته ليست سيكولوجية، لكننا سنرى تمامًا كيف أن شخصياته تحفر في مكان وتنتهي في مكان آخر، هي شخصيات مركّبة تحتمل أفكارًا متعددة ومتناقضة، كل شخصية لها تناقضاتها وتساؤلاتها ولها أفكارها الداخلية. رواياته تعتمد على عدد من الأسئلة الوجودية، من دون أن يبتعد فيها عن العالم الأرضي وتناوله للقضايا السياسية وللتوترات النفسية.
ورغم كل ما قدّمه كونديرا على جميع الأصعدة، فقد غادرنا دون أن يحظى بجائزة نوبل، ويعزو الكثيرون الأمر إلى ماضيه الشيوعي.

في كتابه "الوصايا المغدورة" (1995) سيستعيد كونديرا مرحلة من حياته مع الكتابة في بداية السبعينيات بعد أن مُنعت كتبه من التداول في تشيكيا. يقول "اعتبرتُ مهنتي ككاتب قد انتهت، كان ذلك في ظل الاحتلال الروسي"، فكّر كونديرا في كتابة جزء ثانٍ من مجموعته القصصية "غراميات مرحة" وبعد ست سنوات سيكتب "كتاب الضحك والنسيان" (1979)، الذي يشتمل على سبعة أجزاء مستقلة لكنها متحدة إلى درجة أن أي قسم سيفقد قسمًا من معناه إذا ما قُرئ منفردًا، وهكذا سيتلاشى كل ما بقي في نفسه من تلك الشكوك بإمكانية كتابة رواية من جديد، معتمدًا، كما يقول، على "استراتيجية شوبان" القديمة، "التأليف الصغير" الذي لا يحتاج إلى معابر بين الثيمات، ثم مكتشفًا "استراتيجية بيتهوفن في التنويعات" والتي بفضلها استطاع كونديرا أن يبقى على اتصال مباشر ومستمر بالقضايا الوجودية. هذه التأثيرات الموسيقية تعود إلى والده لودفيك كونديرا الذي كان عالمًا موسيقيًا وعازف بيانو بارزًا في تشيكيا، وقد تعلّم كونديرا الابن العزف على البيانو من والده ودرس علم الموسيقى والتأليف الموسيقي، كما درس لاحقًا الأدب وعلم الجمال ثم درس السينما. وعمل محاضرًا في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية. ونشر في أثناء فترة دراسته شعرًا ومقالات ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية. وكانت رواية "المزحة" قد تحولت إلى فيلم من إخراج جاروميل جيريس عام 1968، كما تحولت رائعته "خفة الكائن التي لا تُحتمل" (1984) إلى فيلم عام 1988 من إخراج فيليب كوفمان.


تعقّد الوجود

في روايته "كتاب الضحك والنسيان" يقبض كونديرا على "تعقد الوجود في العالم الحديث"، كما يقول، وفيها يكتب "إن نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان". وفي روايته "الجهل" (2000) سيحكي كونديرا عن رجل وامرأة يعودان إلى مسقط رأسيهما تشيكيا الذي هاجرا منه قبل عشرين عامًا، وفيها ستمر أوجاع كونديرا من الماضي "في عام 1948 دشنت الثورة الشيوعية المستوردة من موسكو بالحرب العشرينية الثانية التي انتهت عام 1968 حين ثارت ثائرة الروس وغزوا البلد بنصف مليون جندي..."، وفي مكان آخر من الرواية سينسخ بطل الرواية "جوزيف" موقف كونديرا نفسه من الشيوعية: "يغادر الناس الشيوعية اليوم ليس لأن تفكيرهم قد تبدل أو دخل في صراع، بل لأن الشيوعية ما عادت تقدّم للمرء ليظهر بمظهر عدم الرضى، أو الطاعة، أو لمعاقبة الأشرار، أو للظهور بعدم الفائدة، أو للتقدم بالشبان نحو المستقبل... ما عادت القناعة الشيوعية تستجيب لهذه الحاجة. فقد انتقلت من عدم الفائدة بحيث أن الجميع يغادرونها بسهولة ودون أن ينتبهوا". طرح كونديرا يتبعه موقف من سيادة الكثير من الأوطان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من خلال حديث "جوزيف" مع "ن"، وهو موقف ينطبق على كثير من بلدان العالم العربي "- تفككت الإمبراطورية السوفياتية لأنه لم يعد باستطاعتها أن تتحكم بالأمم التي تريد أن تكون سيدة نفسها. لكن هذه الأمم الآن أقل سيادة من أي وقت مضى. لا يستطيعون أن يختاروا اقتصادهم ولا حتى شعاراتهم. – السيادة الوطنية صارت وهمًا منذ زمن بعيد. – لكن إذا كان هناك بلد غير مستقل بل وحتى لا يريد أن يكون مستقلًا، هل سيكون هناك بعد من هو على استعداد للموت من أجله؟ - لا أريد لأبنائي أن يكونوا مستعدين للموت... ما عاد هذا الموت من أجل بلدك موجودًا. يمكن أن يكون الزمن قد توقف بالنسبة إليك في غيابك، لكنهم هم ما عادوا يفكرون مثلك... هم الآن في مكان آخر".   

اضطر كونديرا في وقت لاحق من حياته إلى أن يعيد النظر في كل الترجمات عن رواياته المكتوبة بالتشيكية: "لم يتم ذلك دون صراع ولا دون تعب، فقد احتلت قراءة ومراقبة ومراجعة رواياتي القديمة والجديدة باللغات الثلاث أو الأربع التي أعرف القراءة فيها حقبة كاملة من حياتي"؛ كان كونديرا يكتب بالتشيكية حتى عام 1990 مع روايته "الخلود"، حيث بدأ بعدها الكتابة بالفرنسية. يحكي كونديرا في كتابه "فن الرواية" كيف أن روايته "المزحة" تُرجمت إلى كل اللغات الأوروبية، لكن المترجم الفرنسي أعاد كتابة روايته مزخرفًا أسلوبه، وفي إنكلترا قصّ الناشر كل المقاطع التأملية. وفي بلد آخر، سيلتقي مترجمه الذي لا يعرف التشيكية، "كيف ترجمتً إذًا"، يجيب "بقلبي"، ليكتشف أنه ترجم عن الفرنسية التي كانت أساسًا تشوبها أخطاء عديدة، ويشبّه صاحب "الجهل" (2000) نفسه وأمثاله من الكتّاب الذين يلاحقون ترجماتهم بأنهم يركضون وراء الكلمات كالراعي وراء قطيع من الغنم المتوحشة، وهو إنسان حزين في نظر نفسه، مضحك في نظر الآخرين.

عشق كونديرا أعمال الفن الحديث منذ مطلع شبابه، لكن الفن الحديث كان موسومًا بروحه الغنائية، وبأوهامه عن التقدّم وأيديولوجيته عن الثورة المزدوجة، الجمالية والسياسية، كما يقول كونديرا في كتابه "المحاورة"، ويعترف بأنه كره كل ذلك شيئًا فشيئًا. ويعترف كونديرا بتأثره بنيتشه وهيغل: "علينا ألا نشوّه الطريقة الحقيقية التي ترد بها الأفكار إلينا"، يقول نيتشه، ويرد كونديرا أن إصرار نيتشه على الاحتفاظ بـ"الطريقة الحقيقية" التي ترد الأفكار إلينا لا يمكن فصله عن غواية تحويل أفكاره إلى منظومة، فالمنظومات الفلسفية تظهر اليوم "بائسة ومخذولة، هذا إذا أمكن القول إنها لم تزل قابلة للظهور"، أما مؤلّف هيغل "علم الجمال" فيعطي انطباعًا بأنه عمل تعاون عليه نسر ومئات العناكب البطلة التي نسجت خيوطها بحيث تغطي كل الزوايا، كما يقول كونديرا.

ميلان كونديرا في براغ (14/10/1973 ,Getty) 


الكتابة عن الرواية

في روايته "الجهل" يستدعي كونديرا رباعية سكاسل حيث يتحدث الشاعر عن الحزن الذي يحيط به، "كان بودّه أن يزيحه. أن يحمله بعيدًا جدًا. أن يبني معه بيتًا. يحبس نفسه فيه ثلاثمئة سنة فلا يفتح الباب لأحد خلال هذه السنين الثلاثمئة. لا يفتح الباب لأحد"، وربما هذا ما كان يشعر به كونديرا إذ غاب عن الإعلام في السنوات العشرين الأخيرة من حياته رغم استمراره في الكتابة من منفاه الباريسي، حيث نشر عام 2014 آخر رواياته "حفلة التفاهة" في عمر 85 عامًا، واستمر في إصدار الكتب النقدية حيث شغلت باله ليس كتابة الرواية فحسب، بل الكتابة عنها، إذ يقول "إن البحث عن الأنا الذي زرعه ديكارت في عقول الناس سينتهي دائمًا إلى الشعور بالعجز، بينما إضاءة حدود الأنا عبر الرواية يعتبر اكتشافًا كبيرًا واستثمارًا إدراكيًا هائلًا". ومن كتب الدراسات التي نشرها على مراحل "فن الرواية" و"الوصايا المغدورة" و"الستارة" (2005) و"لقاء" (2009)، حيث يحكي كونديرا عن الأعمال الأدبية والفنية في أوروبا، من سرفانتس الذي أطلق مسار الرواية الأوروبية وسبر أغوار الكائن المنسيّ، إلى ريتشاردسون الذي أطلق الرواية عن طريق استكشاف الحياة الداخلية للإنسان، وصولًا إلى رابليه، ثم كافكا؛ "ثمة مراحل في التاريخ الحديث تشبه فيها الحياة روايات كافكا... الكافكاوية تمثّل قوة كامنة أولية في الإنسان وعالمه، وهي قوة كامنة غير محددة تاريخيًا، ترافق الإنسان حتى الأبد... تحدث فرانز كافكا عن شرطنا الإنساني (على النحو الذي تجلى عليه في عصرنا) بطريقة لا يستطيع بها أي تفكير سوسيولوجي أن يحدّثنا مثله عنه".

في عام 2008 تم إطلاق تهمة التعاون مع البوليس السري على كونديرا، تهمة تعود إلى عام 1950، حيث اتُهم بالوشاية عن شاب يُدعى ميروسلاف دفوراسيك وكان هاربًا من ألمانيا، وقيل إنه كان جاسوسًا للولايات المتحدة الأميركية ضد الحكومة التشيكية وحُكم على الشاب بالسجن 22 عامًا. وقد نفى كونديرا هذا الاتهام في بيان نشرته دار نشر غاليمار الفرنسية واعتبر أن هذا الاتهام يسعى إلى اغتياله ككاتب وخرج عن صمته قائلًا: "هذه ضربة وضيعة. لقد تمّ المساس بشرفي".

على الرغم من نيله جائزة الدولة التشيكية للآداب عام 2007، وعودته إلى مسقط رأسه بعد عام 2019 مع حنين متراكم وتشكيك بمشاعره، إلا أنه بقي تائهًا بين موطنيه: تشيكيا وفرنسا، ولم يشعر أنه وجد مكانه في هذا العالم، إذ يقول في أحد حواراته: "أتساءل إذا كانت أفكارنا عن الجذور، ليست إلا خيالًا نتشبّث به".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.