}

يحيى جابر: البطولة الأولى بالمسرح هي للنصّ أولًا وللممثل

دارين حوماني دارين حوماني 5 مارس 2024
أن تعرض أربعة أعمال مسرحية في الوقت نفسه وأمام كل خشبة مسرح يقف جمهور بحجم الوطن يصفق على مأساته بموازاة تصفيقه على الرسائل الكوميدية الساخرة، فأنت تتحدث عن يحيى جابر، الذي يبدو كحكواتي المدن المعذّبة في لبنان، لكنه حكواتي ساخر وضاحك. وكل فكرة معذَّبة وساخرة في أعماله المسرحية لها صدمتها في إيقاظ مجتمعاتنا المغيّبة عن الحقيقة. الحقيقة الحزينة التي تكمن في التفاصيل والتي تشرّح الوطن كما كُتب له أن يكون... موضوعاته الهوية، الطائفية، الحرب، المرأة، الفقر وغيرها، ولكل عمل مؤدّيه الوحيد المبدع والمأخوذ من جغرافيا الكلمات نفسها.

"مورفين"، أداء سوسن شوربا، تمسرح فيها سوسن ألم المرأة مع السرطان قبل أن نعرف أنه ألمها الشخصي أيضًا، وذلك بموازاة مرورها على الألم الفلسطيني. "مجدرة حمرا" تتناول حياة ثلاث نساء من جنوب لبنان وحيث يمدّ يحيى جابر يده على جروحات نازفة بين تضاريس الهوية الجنوبية في نقد يحرّك في الجمهور الرغبة في التدخل لإيقاف المأساة، تقول أنجو ريحان بلهجة جنوبية: "قال بدها تقرر، أنا بحياتي ما قررت، كانت إمي تقرر عني بعدين زوجي خضر صار يقرر... ويقرر أيمتى بدو يمدّ إيدو... مرات المرأة مش لازم تكون إخت الرجال، لازم تكون هيي الرجّال". ثم تقول عن موقف لبنانيين من الحرب الإسرائيلية على لبنان "عم إسمعها تقول: الحق علينا، من ورانا، ونحنا للي جبناهن (الإسرائيليين) هيي تحكي وأنا إغلي وأبو علي يقول: وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا...".

في "هيكالو" يعمل جابر على التقاط صور حية من قلب العشائر البقاعية ويعيد تقطيع منطقة البقاع التي تم نأيها عن الإنماء لتكون ضحية الفقر والإهمال، مسرحية لاذعة أبدع عباس جعفر في قصّ حكايته الخاصة أولًا قبل أن يتفرّع جابر في نقد رجال الدين ورجالات الدولة: "الاستعمار الفرنسي اشتغل، هوي للي عمل الطرقات، هوي للي زبّط قنوات المَي (المياه) وحط الكهرباء وجاب الترين (القطار) وحط السكة، هللأ ما بآ فيه استعمار وما بآ فيه كهربا ولا قنوات المي ولا ترين حتى السكة راحت"، وعن إهمال الدولة "حي الشراونة حي أرستقراطي، حي راقي، أرصفة إشارات مرور شرطي سير، ينابيع... شو بدي قلكن، جنة، زت (ارمي) الإبرة بتختفي، فوت غوغل وأكتب حي الشراونة- بعلبك بيطلعلك زقزقة رصاص، هديل دبابات، حفيف أوراق اللف (الحشيشة)، مصرع، مقتل، اشتباكات، مداهمات، حي حتى CNN حكيت عنو".  
 


وفي "من كفرشيما للمدفون" يحرّك جابر خريطة الحرب الأهلية اللبنانية فتقول ناتالي نعوم: "الحرب الأهلية اللبنانية بلشت بـ 13 نيسان 1975... أيمتى خلصت؟ (يجيب الجمهور بعد ما خلصت)... خلصت الحرب الأهلية اللبنانية لما دبحوا بعضن المسيحيين وخلّصوا على بعضن وما عاد في حدا يخلّصن، حتى المخلّص شال إيدو منهم... وخلصت الحرب وفتحوا المعابر... شرقية غربية... هللأ الغربية فتحت كتير كتير كتير عل الشرقية بس الشرقية نو نو نو... يا شرقية ما إنت إختي... لا لا هيديك إختك الشقيقة (سورية)... ما إنتو (المسيحيين) جبتوها للشقيقة... كان ع بالنا ننزل عل الغربية نشوف إسلام... لورا إنت شي مرة شايفة إسلام؟؟ مامي أنا نازلة عل الغربية شوف إسلام... يايي يايي يايي يا عدرا يا مار شربل لوين؟! عل الغربية! لورا إذا بيشوفوك بيدبحوكِ على الهوية بيصفّوكِ... يا مامي خلصت الحرب اتفقوا... اتفقوا علينا... اسمعي الإسلام ما بيشبهونا بشي". وفي الغربية "لورا سؤال إنتو المسيحيين بالشرقية بتأطشوا رؤوس وأذنين بالسبت الأسود وتل الزعتر والكرنتينا... آ لا إنتو العيشية والدامور وين عملتوها..."... ووصولًا إلى آخر العمل تضع ناتالي منديلًا أسود على الكرسي وتنعي الجمهورية المسيحية "نحنا كنا الكرسي صرنا إجر الكرسي".

هكذا يتلاعب فينا يحيى جابر، يتلاعب تمامًا في لاوعينا، ذلك المسكون فينا، وربما الموجوع فينا، يقول في حوارنا معنا: "المسرح يعود إلى أصله الأساسي وهو تشريح المجتمع"... أيضًا، لا سينوغرافيا للمسرح، هناك كرسي ومنديل وسواد فقط، لا شيء آخر، "البطولة الأولى هي للنص أولًا وللممثل، وتبدأ المسرحية"، يقول جابر في هذا الحوار.

ويحيى جابر درس المسرح في الثمانينيات لكنه انطلق شاعرًا وله في الشعر أكثر من سبع مجموعات شعرية كان أولها "بحيرة المصل" ونال عنها "جائزة يوسف الخال" الشعرية في لندن عام 1988، ثم غاب عن الشعر لينطلق في أعماله المسرحية المتشابكة مع كل مفردات الوطن بمختلف طبقاته الطائفية والجغرافية: "بيروت فوق الشجرة"، "طريق الجديدة"، "اسمي جوليا"، "شو ها"، وغيرها العديد، كما مزج المسرح بالشعر في مسرحيته "يا يحيى خذ الكتاب بقوة"، وهي مونولوغ شعري من كتابات جابر الشعرية والنثرية والنقدية الكوميدية الساخرة بصحبة الموسيقى يعرض فيه لحياته الشخصية في ارتباطها بالجماعة، وبالحرب والعنف والاجتياح الإسرائيلي، في سرد خاص وعام في الوقت نفسه. 

هنا حوار معه:

(*) يحيى جابر مسكون ببيروت وبالهوامش، بيروت نفسها التي أصبحت مدينة مهمشة، فكيف بدأ فيك هذا الانحياز للأشياء المهمشة والهوامش؟

عندما تقولين لي بيروت أشعر بحنين وأنين لمدينة علّمتني، ربّتني، أمرضتني وشفتني، هي مدينة في طريقة إلى الانقراض. لم يعد يوجد مدينة اسمها بيروت، والأخطر من ذلك لم تعد عاصمة للجمهورية اللبنانية، والأخطر هل ستستعيد بيروت نفسها مرة ثانية! الواحد منا يسعى بقدر ما يستطيع أن يضيء في هذه العتمة المعشعشة في كل زوايا بيروت، وأحد الأضواء هو المسرح.

(*) موضوعات المرأة بارزة في أعمالك، مجدرة حمرا، اسمي جوليا، مورفين، وغيرها.. وتصف نفسك بالجاسوس الذي يتجول في المدينة ويكتب التقارير، هل تتحكم بك الهواجس تجاه المرأة؟

المرأة فعليًا هي موضوعي المفضّل، كرمز، ربما أشعر أني أحمل ذنوبًا ما، كأنه عليّ أن أعتذر للمرأة، فأعمالي الفنية هي جزء من اعتذاري للمرأة. إذا لم تتحرّر المرأة أنا لا أتحرّر. أشعر أنني مكبّل وأريد لها أن تتحرّر لكي أتحرّر. لا أريد للمرأة أن تبقى مغلّلة وأسيرة أحكام ذكورية أو نسوية في مكان ما. طموحي أن أرى مستقبل النساء وخصوصًا في هذه المنطقة من العالم في مرتبة أولى بقيادتنا نحو العدالة والحرية والقيم المجتمعية. لا أحدّد موضوع الحبيبة أو الأم، أحكي عن موضوع المرأة كحقوق، "أن يحق لها". القوانين الشرعية أيضًا تحدّ من حقوق المرأة حيث يقع عليها ظلم جائر في شتى الميادين، في المساواة، في العمل، في الأجر، في الحضانة، في السفر، في العمل، بمساواتها في السياسة، عشرات الحقوق التي لم تحصل عليها، ولبنان من البلدان المتراجعة على هذا الصعيد، هناك العنف المنزلي أيضًا وقضايا كثيرة. بهذا المعنى، أنا لست مدافعًا عن الحريات بقدر ما أنا شخص أعبّر عن شيء ما، وأحد موضوعات الظلم الاجتماعي هو موضوع المرأة.  
 

أنجو ريحان في "مجدرة حمرا" (تصوير: العربي الجديد)


(*) يشتغل المسرح على التأريخ، وهذا نراه إذا عدنا على الصعيد اللبناني إلى مسرحيات روجيه عساف ونضال الأشقر منذ ستينيات القرن الماضي، هنا أيضًا ثمة اشتباك في مسرحك مع الواقع، وكل نص يمتلك فلسفته الخاصة تجاه الواقع، كأنك مؤرخ يشتغل على توثيق للحياة الاجتماعية والسياسية في لبنان بمختلف مناطقه وفئاته وبيئاته، هل تتقصد حفظ الذاكرة من الموت؟ 

فعلًا هي كذلك. عندما أكتب أؤرّخ للّحظة الفردية عبر شخص معيّن أو امرأة معيّنة على خشبة المسرح، وأكون فعلًا أيضًا أؤرخ للحظة الجماعة، لا يوجد فرد بدون جماعة على خشبة المسرح. وفي الوقت نفسه، أنا أنتمي إلى جماعات، أنا أنتمي إلى بيئة لا أعرف طبيعتها وتركيبتها، أنا ابن هذا الفساد أو ابن هذه الحريات، هي مجتمعات متعددة ومتناقضة في بلد واحد. في هذه الأثناء، بحثي أن أكوّن توازني النفسي الخاص أولًا، وأشعر أني معرّف عني، من أنا ضمن هذه الفئات. في الوقت نفسه، لديّ هاجس المعرفة، معرفة الآخر، هذا الهاجس جزء مني، يسكنني، من هو الآخر، طبيعته، تركيبته، تقاليده، شعائره، أزماته، وعندما أعرضه على خشبة المسرح الآخرون سيشاهدونه، والذين هم مثله سيشاهدون قصصهم. فالمسرح يعود إلى أصله الأساسي وهو تشريح المجتمع.

(*) تعتمد في مسرحياتك على المونودراما، مع صعوبة كتابة نص متماسك يؤديه ممثل وحيد، هي مجازفة نجحتَ فيها في استثمار القدرات الإبداعية المختبئة في الممثلين الذين تختارهم كما نجحت في طرح نص قوي مؤثر يدخل في عمق نفس المتلقين، لماذا المونودراما؟

المونودراما هي في أساس المسرح. تركيبة المسرح هي مونودراما. حين بدأ كان مع ممثل أول، One man show. المسرح بدأ مع الشاعر، الشاعر هو أساس المسرح، بهذا المعنى، عندما كان يلقي الشاعر كان يمثّل الشيء، ومنه انطلقت فكرة المسرح. هذا سبب أول، والسبب الثاني إنتاجي، أنا شخص لا أريد أن أنتقد المجتمع وأقول "ليس لديّ مسرح... لا أقدر أن أُنتج مسرحية..."، دوّرت الزوايا بكل معانيها، أولًا أختار شخصًا واحدًا، ثانيًا الشخص ليس من الضروري أن يكون نجمًا، ثالثًا أن تكون أي خشبة يمكنني أن أشتغل عليها، رابعًا أن أتخلى عما يسمى "السينوغرافيا"، الديكور والإضاءة والمؤثرات الخارجية... البطولة الأولى هي للنص أولًا وللممثل، وتبدأ المسرحية. 

(*) هل تتقصد اختيار الممثل الذي يمتلك علاقة وطيدة وسابقة مع النص الموكل له؟ هل هي عملية كاستينغ ذكية، أم رؤية لنجاح الممثل في تجسيد الدور المستقى من جِلده؟

أنا أولًا أعمل كاستينغ للفكرة قبل الممثل، أحدّد كم يملك الممثل الذي سيتعاون معي منجمًا وملكة التعبير وملكة الإحساس والمشاركة معي، أن يكون شريكي بشكل أو بآخر وأن يندمج في النص. حين أكتب أستغلّ وأستثمر الشخص الذي اسمه الممثل ليكون هو جزءًا من اللعبة، فعند إحضاره يكون هو إلى حدّ ما مشاركًا معي وفي مشاركته يحفظ ويصبح أسيرًا للنص، يدخل ويخرج منه، وأنا أحوّله من عجينة لعجينة، وأحوّل النص لما أريد، وأصير أنا نفسي داخل هذه اللعبة الجدلية التي هي تركيب النص.

والممثلون الذي اخترتهم هم مادة رائعة للعمل معهم، منهم من استسلم للنص ومنهم من لم يستسلم، وهذا يعود للممثل نفسه. وأنا عندي مختبر للممثل من الضروري أن يمرّ به.

ناتالي نعوم في "من كفرشيما للمدفون" (تصوير: العربي الجديد)


فكرة الموت محفّز للكتابة

(*) تقول:
"أحيانًا أكتب مقالًا تحت رغبة شعرية وأعيد صناعته كقصيدة". أنت كاتب مسرحي أولًا وشاعر وروائي وكاتب صحافي، كيف تعبر الفكرة بين هذه الأشكال الأدبية والفنية؟ وخصوصًا أنك غبتَ عن المسرح فترة ثم غبتَ عن الشعر لفترة؟ علمًا أننا نرى إلى نصك المونودرامي كنص أدبي.

صحيح، غبت فترة عن المسرح صوب الشعر، ثم غبت عن الشعر وعدتُ للمسرح، غبت عن الحياة السياسية والحياة الثقافية، وكنت لفترات بعيدًا عن المجتمعات وعن أصدقائي والمقاهي وأماكن أخرى. عدتُ لوحدتي لكي أشتغل، وهذا يعود لأسباب شخصية وموضوعية. العمل هو خلاصي من إدمانات عديدة. العمل يحرّرني. وفي الفترة الأخيرة أصبتُ بعارض صحي (السرطان) فقررت أن أنتقم. أنا شخص أتأثر جدًا بموت أصدقائي. الموت محفّز لي كي أبتكر وأُبدع ولكي أكون حرًا وجريئًا. أجمل ما في الحياة هو فكرة الموت، هي محفّز للكتابة، إذا لم نشعر بالموت لن نكتب. الكتابة وسط المقبرة هو الأساس بمعناها العبثي الجميل، وحينها يمكننا أن نعرف إذا كنا نحب الحياة فهناك حقيقة اسمها المقبرة، وسنفكر في ما بعد الحياة وسنكتب بجرأة وبحرية وبشجاعة نادرة، لأننا سنموت... الإبداع هو كيف نستثمر في هذا العدم، وشخصيًا أنا من هذا النوع، فكرة أهمية الإنتاج، يجب أن نُنتج شيئًا ما، يجب أن نترك شيئًا، لا أقول بصمة، ولكن أننا مررنا في هذه الحياة ونحن هنا.    

(*) هناك عبارة مشهورة لبريخت "أعطني خبزًا ومسرحًا أعطك شعبًا مثقفًا"، ويقول المسرحي الأميركي وليام دافو: "يتعلق المسرح العظيم بتحدي طريقة تفكيرنا وتشجيعنا على تخيل عالم نطمح إليه"... هل ترى أن لأعمالك تأثيرًا في وعي المتلقي، كيف ترى علاقتك مع الجمهور وأنت تتلاعب في لاوعيه؟

صحيح، حين أكتب أتسلل إلى وجدان الجمهور، أتلاعب في أفكاره، وهو يشاهد يعتقد أنه يتسلى ويضحك وفجأة يأتيه شيء مثل كف على الوجه، في مسرحية "مجدرة حمرا" أجعل الجمهور يشعر أنه يرغب بضرب الممثلة من أجل توعيتها، يصبح شريكًا في النص، إلى حد ما صحيح، هناك هذه الخدع الجميلة. والمجتمع أحيانًا مخادع مثل البحر، لا أصدّق المجتمع، البحر شعبي ولا أصدّق أمواجه، تكون هادئة وإذ فجأة تنقلب عليك وعلى الآخرين.  

(*) نصوصك جريئة، الحكايات كما حصلت، نضحك ونخجل من ضحكنا، تعتمد على الكوميديا السوداء الساخرة في نقد لاذع. هل تخاف من جرأتك؟

أخاف من جرأتي، ولكن الخوف هو أحد الأسباب الذي يجعلنا نكتب كي نكسره. أنا أخاف من كل شيء، أخاف من الفقر، من الحرب، من السيارات المسرعة ربما، ولكن هذا الخوف يجب أن نعمل له إعادة تدوير وهذا يحتاج لكثير من الطفولة، لأن الطفل هو الوحيد الذي يقول الأشياء أحيانًا من دون خوف. أحاول قدر الإمكان أن أكون طفلًا، وهذه المحاولة تحتاج للكثير من الاستسلام والتلاشي. ولكني شخص لا أحلم أن أكون بطل حريات، هذا الشعار لا أحبه، أحاول فقط أن أقول الفكرة التي أرغب بقولها.

(*) تعمل على استعادة لأعمالك من وقت آخر، ما هو هدف هذه الاستعادات؟

حين أعيد عرض المسرحية لمرة أخرى في وقت لاحق تكون مثل تجربة، لأعرف إذا كانت المسرحية لا تزال تُشاهد، والنتيجة كما أراها الآن مدهشة. الأعمال لا تزال تُشاهد كما عند إطلاقها. من جيل لجيل تنتقل المسرحية، وهناك مسرحيات تبقى خمس أو سبع سنوات. وهذا الشيء موجود في معظم دول العالم، وهذا يعود لقوة النص، وقوة الممثل الذي يستلهم النص وقوة الرؤية الإخراجية بمعناها الكبير التي تعكس ماذا نريد أن نقول من خلال النص. إذا أحَبّ الجمهور ذلك يبقى العمل، والدليل أنني لا أقدر على إيقاف عروضاتي، حتى مسرحياتي القديمة.

عباس جعفر في "هيكالو" (تصوير: العربي الجديد)


لا يوجد شيء اسمه "موت المسرح"

(*) تعرض عددًا من المسرحيات في وقت واحد، هل هو تحدّ لمقولة "موت المسرح"؟

طبعًا، لا يوجد شيء اسمه "موت المسرح"، والدليل على ذلك هذه العروض التي أقدّمها، ماتينيه (بعد الظهر) وسواريه (مساء) والصالات ممتلئة في مسرح مونو، وهنا الآن في مسرح الجامعة اللبنانية الأميركية، ليس هناك حتى من أمكنة أقدّمها لأصدقائي. أسبوع حافل بالجمهور لمشاهدة هذه الأعمال المسرحية التي تمتد من مكان لمكان ومن زمان لزمان. وهذا دليل على أن المسرح لا يموت. وأنا لا أنتصر إلا بالتواضع ولا ألتفت لهذا المجد، إذا سميناه مجدًا. في اللحظة التي تنتهي المسرحية وأنحني للجمهور أكون كأني أتمرن من جديد.

(*) هل مررتَ بتجربة الصمت الذي يصيب المبدعين أحيانًا أمام قوة مأساة الواقع، وماذا تكتب الآن؟

الصمت هو فلسفة، فكرة العدم، القبر، اللاشيء، وكلنا نمر بها. قبل النوم بخمس دقائق هي أجمل لحظة بحياة الإنسان، حيث تأتيه كل حياته السابقة، كل نهاره، كل آلامه وأوجاعه، نحتاج إلى الصمت كمسكّن. أما ماذا أكتب، فقد انتهيت لتوّي من عمل جديد اسمه "شو منلبس" وستقوم أنجو ريحان بأدائه. هي مسرحية تعود لفكرة من يُلبسنا، وماذا نلبس، أقصد أفكارنا وآراءنا ووجهات نظرنا بالحياة، تركيبتنا، قلقنا، هناك دائمًا شخص يساهم في تلبيسنا أفكارنا. نحاول أن نغيّر، أن نتعرى، أن نلبس حجابًا، لا نعرف من يقودنا. هي مسرحية فيها من التاريخ، مرحلة من جنوب لبنان من نوع آخر، وفيها جرأة وشجاعة، وتذهب إلى أمكنة مختلفة، الاحتلال الإسرائيلي، معتقل أنصار، مرحلة التحرير التي لم يقترب منها أحد، نظرة من زاوية طفلة، وشغل جريء، لأن الكل تحاشى الاقتراب من مرحلة التحرير فقررت أن أتناوله من دون ادّعاءات سياسية.   

(*) إذا طلبت منك تسمية مسرحيين أثّروا في مسيرتك كلها، لبنانيًا وعالميًا...

أولًا روجيه عساف، هو معلمي وأستاذي من لبنان، تأثرت بـ ستانيسلافسكي، هو معلمي الروسي، وبريشت، تأثرت بتجارب كثيرة ولكني حوّلتها لكي أخرج بنفسي كما أنا عليه وأقول حياتي وأفكاري. تجربة روجيه عساف، الحكواتي، والتي ذهبت فيما بعد لأمكنة أخرى، مسرحه لاحقًا الذي أنتج رفيق علي أحمد لوحده ثم حنان الحاج علي لوحدها وبطرس روحانا في مكان آخر بالكتابة والغناء... تجربة عساف أغنتني. كما أثّر بي نقيض لروجيه عساف هو رئيف كرم، وهو أستاذي الذي علّمني على السينوغرافيا وعلى الرؤية العميقة وما معنى الدراما بمعناها التقني المهم. أستاذان نقيضان لبعضهما ولكني كنت من مدرستهما بالمعنى المحلي. بالمعنى العالمي أنا ابن الشعر أولًا. الشعر هو هاجسي الذي جعلني أذهب إلى المسرح. المسرح والشعر توأمان، سوفوكليس شاعر، شكسبير شاعر، بريشت شاعر، كلهم من النوع الذين يقدّم دراما الإنسان. وأنا شخص "أسير" الفكرة الإبداعية، أدوّر الزوايا حتى في الإبداع، وعندي هاجس أني أريد أن أوصل فكرتي للناس بأي طريقة ممكنة لي.

(*) هل تصف نفسك بالشخص القلق، الباحث عن هوية وعن انتماء... وهل يمكن أن نقول إن موضوعاتك مستقاة من قلقك أولًا؟

صحيح جدًا، أنا شخص قلق ومضطرب، إذا كان المبدع غير قلق فهو إنسان تافه، لا يوجد مثقف غير قلق. حتى ابني (زكريا جابر) عندما أخرج فيلم "قلق في بيروت" كنت أنا أحد أبطاله. أنا أجري فحوصات كل ستة أشهر لأني أخاف أن أصاب من جديد بالسرطان، أخاف أن أفقد طاقتي الإبداعية يومًا ما، أخاف أن يتوقف خيالي عن النمو. القلق مستمر بكل لحظة، وخاصة إذا كنت تعيشين في أرض زلازل كما هي بيروت والمدن المتوسطية. أنا قلق على الجماعات التي تنتهي وتموت يومًا بعد آخر. تقولين لنفسك كل لحظة، أين كنا، إلى أين نحن ذاهبون، أي طريق يجب أن آخذ، بأي اتجاه؟ فأنا بهذا المعنى قلق فعلًا وينعكس ذلك على يومياتنا وعلى نصنا.  

(*) في موقفك من الشعر تقول "تبت يد الخليل بن أحمد الفراهيدي حين نظم الشعر وحدّد بحوره، فالشعر كان ماشيًا ولم يخترع أحد من الشعراء وصفة للكتابة. ماذا بعد ختم البحور. أتى قتل الاحتمال والخيال"، هل هو إيمان بالتجريب واعتراف بقصيدة النثر التي تُهمّش يومًا بعد آخر؟

ربما هي حماقة تلك التي ارتكبوها وأسموها قصيدة النثر، وصلت إلى مكان صار اسمها "الشعر الفيسبوكي"، أن أي صفّين من الكلام يصير اسمه شعرًا. كيف ذلك! لست ضد أحد، ولكن صار هناك ابتذال، ناس قصائديون يكتبون قصائد ولكن ليس شعرًا. الشعر بعيد تمامًا عمّا يُكتب. حتى لو تجاوزنا الفراهيدي وكتبنا قصيدة النثر، هناك سماجة هائلة بكتابة الشعر، هناك أشخاص بلا خيال، شغلهم تسويقي ترويجي تافه أكثر مما هم شعراء. الشعر أصبح في أزمة حقيقية وخصوصًا مع ما يسمى التكنولوجيا الحديثة والسوشيال الميديا.

(*) أين أنت من الشعر الآن؟

لم أنشر منذ فترة طويلة، أحضّر لنشر كتب جديدة في الشعر. عندي ثلاث مجموعات شعرية سوف تصدر قريبًا، وعندي أيضًا روايات لم أنشرها بعد. عندما أنتهي من عروضي المسرحية الحالية سأتفرّغ لكتابة من نوع آخر، العودة إلى الأدب ونشر ما كتبته وتركته منذ أكثر من عشر سنين ولم أنشره، أعيد حاليًا تأهيل ما كتبت لكي أودّع الدنيا بشيء ما. أنا أميل للّغة، للشعر، للشفافية، للهواء... ستجعلينني أبكي...

(*) ترى أننا كلنا ضواحٍ، لا نعرف كيف نبني مدينة، ولا نعرف كيف نعود إلى الريف... نحن احتمال مواطنين كما تعبّر، هل هو اليأس من لبنان؟

صحيح، أنا شخص يائس من لبنان، لكني اكتشفت مؤخرًا أنني أحبه كثيرًا. أعرف أنه يموت. لبنان ربما يلتقط أنفاسه الأخيرة، ولا أعرف إذا كان سيستعيد نفسه كفكرة أحبها. خائف، نعم، ومع احترام كل ما يسمى الجوار وجوار الجوار، لا يزال هناك بقعة صغيرة اسمها لبنان، لابأس أن يدافع عنها أحد، يدافع عن فكرتها. لبنان كان فكرة، فكرة التعدّد والتنوع، شرق وغرب في نفس الوقت، ثلج وبحر في نفس الوقت، بالمعنى الشاسع للكلمة. ولكن الغريب أني لأول مرة أشعر في بلدي أنني في رحلة سياحية، أمر فيه كسائح، كأني لا أعنيه ولا يخصني، ولا علاقة لي فيه، ولكن في داخل قلبي أشعر أنه ليس هناك من مكان جغرافيا أنتمي إليها بمعناها الإنساني العميق إلا في هذا المكان، الذي هو جزء من لبنان، نراقب نهايتنا سويًا... ذاهبون إلى العدم المطلق، فلنودعه...


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.