}

لماذا نكتب؟

بلال خبيز 18 يوليه 2023
هنا/الآن لماذا نكتب؟
(gettyimages)

الصحافي لا يكتب غالبًا، إنه ينقل ما يجري. يستخدم اللغة المشتركة بين أهل الأمة من أجل وصف أحداث وشرح قضايا وطرح احتمالات. لكنه لا يكتب، بمعنى أن ما يكتبه لا يندرج في خانة همّ شخصي. أستاذ الجامعة أيضًا لا يكتب، إنه يبحث، يستخلص، يستنتج، ويبني على استنتاجاته خلاصات معينة.

حسنًا، ها قد حذفنا من قائمة الكتّاب معظمهم، من الذي يكتب إذًا؟ الروائيون؟ الشعراء؟ الفلاسفة؟

الأرجح أن بعض هؤلاء لا يكتبون أيضًا. ذلك أنهم شرّاح أو ناقلو قصص، أو معلّقون على مشاعر وأفكار. إنما مع ذلك ثمة من يكتب بعد.

بعض الكتابة في القرون الماضية، وربما معظمها، كان يستند إلى فرادة ما يقصه الكاتب أو يعيشه أو يختبره. بعضها أيضًا ولد من الضجر، من فائض الوقت الذي كان يملكه النبلاء، وبعضها الآخر ولد في دواوين الملوك والأمراء. لكنهم جميعًا اشتركوا في إخبارنا ما لم يكن شائعًا وعامًا ومعروفًا أو معرّفًا. ولطالما كانت الكتابة تمت بصلة ما إلى أدب الرحلات، ولطالما كان الكتّاب رحالة، أمين الريحاني، أحمد فارس الشدياق، سيغموند فرويد، غوستاف فلوبير، بول أوستر، غابرييل غارسيا ماركيز، ونجيب محفوظ. هؤلاء جميعهم كتبوا في وصف رحلاتهم، سواء أكانت الرحلة إلى أعماقهم، أم كانت إلى مجاهل المدن والغابات وأنظمة الحكم وحياة الحواري.

وكل هذا أو جلّه لم يعد متاحًا للكتاب اليوم. إن كتّاب اليوم هم الذين يجلسون خلف مكاتبهم ويتسقطون الأخبار من شاشات التلفزيون والحواسيب. المغامرات والتجارب الغريبة والفريدة لم تعد شائعة بين الكتاب. لم يعد ثمة أي سندباد معاصر، والأرجح أن كل المغامرات التي نقرأها في كتب اليوم، هي وليدة خيالات جامحة حصرًا. هذا يعني أننا نستطيع أن نستمتع بالقراءة، لكننا ما أن نغلق الكتاب حتى يختفي من مجالنا الحيوي إلى حيث لا رجعة له. إذ ما الذي سيتركه في النفس قراءة أن دموع امرأة ما أنبتت مطرًا غزيرًا أدى إلى فيضان هائل؟ هذا أمر نسرّ به لخيالنا، ونتركه هناك. ليس ثمة في يومياتنا نساء من هذا الصنف، مثلما ليس ثمة في يومياتنا رجال من صنف شخصيات ماركيز.

في المحصلة تبدو هذه الكتابات، وهي شائعة كثيرًا بين الكتّاب اليوم، أشبه ما تكون بمناماتنا ولا تمت إلى أمراضنا وعللنا وأوجاعنا بصلات. وثمة بين المنام والمرض فارق كبير.

في رواية "مستر نون" لنجوى بركات، تبدو الأحداث التي توثقها أشبه بالمنامات، لكن قوتها تتأتى من كونها أشبه بالمرض. المرض الذي يجعل الحياة كلها مجرد منامات وكوابيس. ليس المرض فحسب، أحيانًا يؤدي اختبار المعاناة إلى عيش حياة تشبه المنامات. ذلك أن العالم استقر في كل زاوية منه على تقرير ما يحدث في الحياة وما لا يحدث على نحو قاطع وحاسم. نحن نعيش حياة موظفين، أو أطباء أو مرضى. وما أن يستقر بنا المقام في وظيفة ما، في بلد ما، حتى نعرف سلفًا ما ينتظرنا وما لا ينتظرنا. حتى الذين يعيشون في بلاد قلقة، كمثل اللبنانيين أو الليبيين أو الأكراد أو الفلسطينيين، باتوا يعرفون ما سيأتي به الغد. الفلسطيني يعرف أنه معرّض للقتل أو الاعتقال كل يوم، ويحيا حياته على هذا النحو متوقعًا أن حياته قد تكون قصيرة إذا ما قورنت بحياة الفرنسي أو البلجيكي. اللبناني يعرف أن ما يملكه اليوم قد يتلاشى غدًا، لا لسبب، إلا لأن النظام السياسي يحترف سرقة الشعب. والأميركي يعرف أنه محكوم بأن يمضي جلّ عمره يعمل في وظيفته، وينفق معظم أوقات فراغه في تحسين صحته وزيادة نشاطه لكي يتمكن من العمل زمنًا أطول. والحال، ليس ثمة مفر من التساؤل: من هو الذي يستحق أن تروى قصته؟

اقترح بول أوستر في رواياته أن نقصّ قصص الذين يتمردون على هذا النظام. أولئك الذين يمكن أن يقضوا حيواتهم وهم يقودون سياراتهم بلا هدف، أو أولئك الذين قرروا أنهم لن يغادروا شققهم الضيقة مهما حدث. ولم نستطع إلا أن نصدقه، ذلك أننا في قرارتنا نريد ونسعى لأن نسير على خطى هؤلاء الذين اكتشفوا أن الحياة لا تستحق أن نبذل كل هذا الجهد من أجل إكمالها على النحو الذي تجبرنا على سلوكه السلطات العاتية. مع ذلك سرعان ما نعود إلى مساراتنا اليومية السابقة على القراءة والقناعة على حد سواء، ونكمل أيامنا على النحو الذي درجنا عليه من الخضوع.

إذا كان بول أوستر قادرًا على كتابة روايات تحكي سير أشخاص في ثورتهم على النظام والروتين، فالأرجح أننا في بلادنا لا نستطيع أن نحذو حذوه. الأرجح أننا حين نقصّ قصصنا ونكتب رواياتنا ونبحث في أنظمتنا السياسية، إنما نحاول الاندراج في هذا الروتين الذي تثور عليه شخصيات بول أوستر، ونعمل جاهدين على تزيينه ما أمكن. وكل ما نحسن فعله أو قوله وكتابته ينحصر في لحظة الاحتضار، لحظة اندلاع الكارثة التي قلبت حياة الناس رأسًا على عقب. وهذه اللحظة تتكرر منذ زمن بعيد من دون جدوى أو تعديل. لقد سُرق اللبنانيون مرات ومرات في تاريخهم الحديث، وذُبح السوريون مرات ومرات، واضطُهد الأكراد مرات ومرات، والفلسطينيون يعيشون لحظة نكبتهم منذ أقل من قرن بقليل. لم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت. فقط استطعنا أن نقتطع وقتًا بين الكارثة والتي تليها لنجرب حظنا في أن نكون كتّابًا ومحامين وأطباء. لكننا في السائر والدائم والثابت من أيامنا لسنا سوى أبناء نكبات لا تني تكرر لحظة اندلاعها كل يوم.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.