}

لا عزاء للسوريين

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 21 يوليه 2023
هنا/الآن لا عزاء للسوريين
كلمات التعازي شفرات حادّة تمزق الروح (Getty)
منذ بداية الثورة السورية عام 2011، لاحظت أن النشاط الاجتماعي الوحيد، أو الأهم، في سورية هو التعازي. ثمة أسراب من النساء الغاطسات في ثياب سوداء يذهبن لتعزية عائلات مات شبابها في الحرب، سواء كانوا من جيش النظام، أو ينتمون إلى تنظيمات أخرى. ولم أكن أجد نفسي إلا ذاهبة لأعزي صديقة بموت أخ لها، أو ابن، وكنت أحس بارتباك كبير، إذ ماذا يمكنني أن أقول لتلك الأم المفجوعة بموت ابنها (في كثير من الأحيان يكون أكثر من ابن قد مات). لكنني كنت ألاحظ أن تجمع الناس الموجوعة في بيت الأسرة المنكوبة بموت شبابها يُعطي شيئًا من الطمأنينة والراحة للأهل المفجوعين، الإيمان برب العالمين كان يُساعد كثيرًا على تحمل المصائب، وكانت كلمات العزاء كلها من نوع (الشهداء عند ربهم أحياء يرزقون، أو إن ابنك الشاب الآن في جنات الخلد عند رب العالمين).
فعلًا كانت التعازي وتضامن الناس مع مصاب بعضهم بعضًا له تأثير كبير على الأهل المفجوعين بموت أولادهم الشباب. كانت كلمات التعازي أشبه بتدوير زوايا الحزن الذي لا يُحتمل، والأشبه بشفرات حادة تمزق الروح. لا أنسى ذلك اليوم عام 2013، وكان 21 مارس/ آذار ـ عيد الأم ـ رافقت صديقة مات ابنها الشاب (26 سنة)، وصار الشهيد البطل في الجيش العربي السوري، وكان حاصلًا على شهادة جامعية بتفوق في الهندسة المدنية، لكنهم علقوا البارودة في كتفه وأرسلوه ليقاتل الإرهابيين في غوطة دمشق، فقتلته رصاصة. كان عيد الأم في ذلك اليوم في المقابر، آلاف الأمهات يحملن الحبق والزهور، ويركعن قرب قبور أولادهن، يأملن في معجزة أن يقوم الشباب من القبر ويعايدون الأمهات الثكالى في عيد الأم. انقلب المشهد فأصبحت الأمهات يحتفلن بعيد الأم في المقابر جاثيات قرب الأحبة. لكن عداد الموت المتصاعد في سورية أصبح شاملًا، ولم يترك أسرة إلا وأفقدها أحبة (شباب بعمر الورود)، صار الموت هو القاسم المشترك الأعظم في سورية، واعتادت العيون على رؤية (مواكب من كوكبة من الشهداء في التلفزيون السوري وفي الجرائد)، ولم يعد يتسع الوقت للحزن أكثر من يوم أو ساعات على شهيد ليلحقه شهيد آخر وشهداء آخرون.
صارت هناك حالة من لهاث الحزن، موت تلو موت تلو موت في متلازمة هندسية متصاعدة، وتلاشت كلمات العزاء وفقدت قدرتها على التعزية وأصبحت عبارة (الله يرحمه) تُقال بتسليم ويأس هي العبارة الوحيدة الباقية. ولطالما سمعت الناس يتساءلون بيأس وألم مُتخمر في الروح منذ سنوات: أي قدر هذا قدر شباب سورية!!! وكم غصت في تأمل تلك العبارة (أي قدر للسوريين خاصة الشباب والشابات)، فآلاف الشبان السوريين ماتوا شهداء (لا زلت أذكر حين ذهبت إلى شركة الطيران السورية عام 2015 لأشتري بطاقة طائرة من اللاذقية إلى دمشق، فأجابتني الموظفة لا توجد رحلات طيران إلى دمشق إلا مساء، لأن الطائرات السورية منذ الصباح وحتى العصر تقوم برحلات عديدة لنقل الجثامين). جمدني الرعب وأنا أتخيل طائرة محملة بالجثث، أو بقايا جثث، إذ تبين في ما بعد أن هناك توابيت فيها بقايا جثة، أو فارغة.
والحزن المديد يُرهق الدماغ وأحيانًا يشله، وفي علم الطب البشري شرح لماذا يُقيمون الأربعين على روح الميت، فمرور أربعين يومًا ليس عبثًا، إذ تبين أن الجهاز العصبي للإنسان (خاصة الدماغ) لا يستطيع أن يتحمل الألم الحاد الحارق أكثر من أربعين يومًا.




أصبح الحزن السوري يأخذ أشكالًا عديدة على مدى 12 سنة منذ بداية الثورة السورية، فبعد مرحلة الحزن الحاد والصدمة والصراخ من القهر والتعازي في السنتين الأوليين، أو السنوات الثلاث للموت والمجازر، فقد الحزن السوري زخمه وقدرته على الصراخ والكلام ومناجاة الحبيب وكلمات العزاء، أصبح مشلولًا مهدود القوى وارتشح في نسيج الروح كخلايا سرطانية، وانكفأ الحزانى المفجوعون في قوقعة الأحزان، وخف التواصل الاجتماعي والتعاطف بين السوريين، لأن الأرواح جفت واحترقت من الحزن، بل أصبح لقاء الأصدقاء، أو الأقرباء، موجعًا، كأن الآخر مرآة للروح، كأن المفجوع بموت ابنه حين ينظر إلى صديقه المفجوع بدوره بموت ابنه يزداد الوجع ويتضاعف لدى الطرفين فيؤثر كل منهما الابتعاد واجترار الحزن في بيته، حيث لا كهرباء ولا ماء، وحيث الغلاء أصبح فاحشًا، والراتب لا يساوي شيئًا، والحزن يسحق الكرامة، الشعور بالكرامة يحتاج إلى الإحساس بالحرية والفرح، فلا كرامة مع نفس مزقها الحزن بوحشية، أصبح الوجود الإنساني مجرد تعاقب أيام ولهاث وراء رغيف الخبز، وأصبحت غاية الأهل الصمت حفاظًا على حياة ما تبقى من أولادهم. أما أهالي الشباب الذين ماتوا تحت التعذيب في المُعتقلات فيعيشون حالة ذعر مُضاعفة، إذ يخشون أن تهبط تهمة (مس هيبة الدولة، أو جريمة إلكترونية، بسبب عبارة كتبها ابنهم الحي على فيسبوك) سببًا لاعتقال ابنهم، أو اختفائه، أو موته تحت التعذيب.
وانتصر الخوف السوري على الخوف من الموت، وعلى وجع الموت، إذ صار كثير من أهالي الشباب المُعتقلين يتمنون لو أن ابنهم كان ميتًا بدل أن يكون حيًا ويتعرض لأفظع وسائل التعذيب وانتهاك حرمة الجسد والروح. أما الشباب الذين غرقوا في البحر وهم يركبون مراكب الموت، وبعد دفع مبالغ كبيرة للمهربين (عشرة آلاف دولار) فيمكننا أن نتخيل أي خوف ويأس احتل أرواحهم وأرواح أهلهم حتى قبلوا المخاطرة بحياة ابنهم هربًا من الجحيم السوري، وهو جحيم بكل معنى الكلمة. انهيار الليرة السورية فاقم الجحيم والمعاناة للسوريين، لكن سقف الحرية الذي انخفض حتى كاد يُلامس الأرض جعل الناس تصمت، تشتري بصمتها حياة ما تبقى من أولادها.
وصار الحزن السوري المُبطن بخوف تتقصف له الفرائص ذعرًا أشبه بشرنقة يعيش السوري في قلبها يجتر آلامه ويتمنى لو تمر الأيام بسرعة هاربًا من سرطان الحزن والهزيمة الذي يفتك بالروح. وصرت ألاحظ (بعد أن سكنت في باريس منذ عام 2019) أن اتصالاتي اليومية مع أصدقاء وأحبة لأطمئن عليهم، ليحكوا ويُفضفضوا أصابها الفتور كأنهم يقرفون الكلام، أو يشعرون باللاجدوى منه، وصار الفتور يزيد في كل اتصال، فقد فقدت أرواحهم تلك النضارة في الروح التي يخلقها فينا العيش الكريم، بل أصبح بعض الأحبة ينهون المكالمة معي بحجة أن الإنترنت ضعيف، أو يخترعون حجة ما، بل أصبح كثير منهم يخاف مني بسبب مقالاتي، أو كتابتي على فيسبوك، مع أنني لا أرى نفسي كاتبة سياسية، بل كاتبة أوجاع الناس، أي أكتب عن وجعهم، لا أحد منهم يجرؤ على وضع (لايك) حين أطالب بالحرية لمسيح سورية رامي فيتالي (حتى أقربائه). قلة أندر من نادرة تجرؤ وتطالب بالحرية لرامي فيتالي وغيره من المُعتقلين. أصبح اليأس مشرشًا في الروح لدرجة خطيرة. أحد الأصدقاء، وهو أب مكافح يتعرض لأسوأ أنواع النهب من مسؤولين فاحشي الثراء والفساد، يقوم بتركيب ألواح الطاقة الشمسية في فيلاتهم الفاخرة، لا يعطونه إلا أقل من عشر قيمة أجرته، ولا يجرؤ على الكلام.



فقر مدقع وظلم وانعدام حرية مقابل عهر وفجور أثرياء يتباهون بثرائهم. هو صديقي المُكافح الجامعي الذي لم يُوفق في وظيفة في الدولة اضطر لأن يعمل في تركيب البطاريات والأمبيرات وألواح الطاقة الشمسية، وكلما تحدثت إليه وحاولت تشجيعه أن يطلب أجرته من اللصوص فاحشي الثراء، وألا  يرضى بالفتات، يضحك ضحكة اليائس، ويقول لي عبارته الشهيرة: الحياة فيلم وماشي!!! حين أسأله عن فحش الغلاء، وكيف يتحمل الناس الحياة بلا كهرباء وماء وبنزين يرد بتعب اليائس: أوووف... لا تسألي حياتنا فيلم وماشي. لكن من مؤلف الفيلم، ومن المنتج، ومن الجهة الممولة؟ أما الأبطال في الفيلم فنعرفهم: إنهم ملايين من السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر (أكثر من 85 في المئة). اليأس عدو الحياة، الخوف عدو الحياة، حين يُصاب شعب باليأس فلا أمل في مستقبل مُشرق لأي وطن. موجع جدًا ومؤلم تأمل مصير وقدر الشباب السوريين، حتى من صاروا شبيحة فهم ضحايا الفقر والظلم والشعارات، وكم هي مُعبرة كلمة (تعفيش)، أي سرقة البيوت وكل محتوياتها من قبل شبيحة، أعرف أحد هؤلاء الشبيحة، وهو شاب من أسرة فقيرة تباهى أنه سرق من البيوت ثمان عبوات غاز. كان يعترف بسرقاته بفخر، ويراها حقه الطبيعي، فهم لم يحصل على أي حق من حقوقه كإنسان في سورية، لذا يجد من حقه أن يُعفش.
كان يُمكن لهؤلاء الشبان الشبيحة المرتشين والزعران واللصوص أن يكونوا شبانًا مهذبين متعلمين يتمتعون بأخلاق ويؤمنون بالعدالة والحرية لو لم يعيشوا ظروفًا قمة في البؤس والفساد والاحتقار.
أحب أن أختم بحادثة حصلت منذ عشر سنوات، إذ اضطررت إلى أن ألجأ إلى مكتب ضابط عالي المرتبة ليساعدني في الحصول على جواز سفر لابنتي، وبأنني وصية عليها. كان مكتبه في اللاذقية في شارع رئيسي، مكتب مفرط الفخامة كان فيه عدد من الزوار والمراجعين. وجدته يصرخ حتى تكاد حبال حنجرته تتقطع: وينك يا حمار، ودخل شاب مكسور الروح إلى مكتبه، قال له الضابط: يا حمار أحضر كأس شاي للدكتورة. رد الشاب: حاضر سيدي. هذا الضابط الذي صار فاحش الثراء صار بعد سنوات رئيسًا لاتحاد الكتاب في اللاذقية، وتحرش بصبية مسكينة حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة للشباب. حين تحرش بها في مكتبه انهارت وانتابتها حالة عصبية من الصراخ ولطم وجهها وشد شعرها. خلاصة هذه الحادثة اتهام الفتاة أنها سيئة السمعة، وبقي الضابط رئيسًا لاتحاد الكتاب العرب في اللاذقية.
لعل صديقي مُحق حين يصف الحياة (التي لا تُشبه الحياة بشيء) بأنها "فيلم وماشي". وإننا نعرف من المنتج والمخرج والأبطال.

مقالات اخرى للكاتب

اجتماع
15 أكتوبر 2023
هنا/الآن
16 سبتمبر 2023
هنا/الآن
21 يوليه 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.