يتشارك كل أهالي اللاذقية والقرى القريبة منها الذكريات المُروعة ذاتها، والتي امتدت لأكثر من خمسة عقود. ويبدو أن الترويع والذل والخوف الأقرب للرهاب صار نمط حياة يومي اعتاده الناس رغمًا عنهم، وكانوا يتحايلون على هول حياتهم بتهدئة أعصابهم المنهارة، أو على شفير الانهيار، بعبارة: لنتحمل فربما القادم أعظم.
من أكثر المدن السورية التي تشوهت وظلمت في سورية هي اللاذقية، فعدا عن التشويه المكاني، أو الجغرافي، مثل جريمة تبليط البحر، وسحق سلسلة من أجمل المقاهي البحرية التي كانت على مستوى ماء البحر تمامًا، وكانت رئة ومتنفسًا لأهل اللاذقية ولسورية كلها، شهدنا هدم مبان أثرية عريقة رائعة، وإشادة أبراج إسمنتية من ثلاثين طابقًا، في شوارع ضيقة. الحجة المُخزية التي قدمها لي رئيس البلدية حين كتبت منذ حوالي خمس عشرة سنة تقريبًا مقالًا بعنوان: "أين اللاذقية القديمة؟"، وهو يصرخ ويهدد ويتوعد، أن الحكومة اضطرت إلى هدم عدد من المباني الأثرية القديمة في اللاذقية لأن الإخوان المسلمين كانوا يختبؤون فيها!
وإذا أراد أهل اللاذقية أخذ ما يُشبه الصورة البانورامية لحياتهم طوال الفترة (1976 ـ 2023)، فيمكن أن تكون تلك الصورة بين اسمين (ف) و(م)، وهما شقيقان بصلاحيات مُطلقة فوق كل القوانين. أبدعت المُخرجة رشا شربتجي في مسلسلها الذي توحد حوله كل السوريين "غزلان في غابة من الذئاب" على مدى ثلاثين حلقة في إعادة سرد تصرفات السيد (ف)، الذي كان مصابًا بجنون العظمة الذي يدفعه إلى ارتكاب تصرفات يُمكن تسميتها: إبداعات الجنون، إذ كان يسير بموكب من سياراته الفخمة في شوارع اللاذقية، ويحلو له أن يترجل من سيارته ويقف خلفه شبيحته ويأمر مجموعة من الرجال الكهول الجالسين في مقهى شعبي أن ينبطحوا أرضًا تحت الطاولات. كانوا يمتثلون لأوامره بصعوبة، ليصبح طعم الشاي مُرًا مرارة الذل، والسيد (ف) ينفجر ضاحكًا ويطلق الرصاص في الهواء منتشيًا، من دون أن يخطر في باله إطلاقًا واجب احترام كبار السن. وكان يحلو للسيد (ف) أن يطلب من أي رجل يختاره، ولا يعرف هو نفسه لماذا اختار هذا الرجل، فيأمره أن يحشر جسده في طبونة السيارة الخلفية على مرأى من الأهالي، ليقود سيارته حوالي ساعة بسرعة جنونية والرجل محشور في الطبونة، ثم يعود إلى المكان الذي أمر فيه الرجل أن ينحشر في سيارته، ليفتح طبونة السيارة ويخرج الرجل الذي يبدو كخرقة لاهثًا ذليلًا مُروعًا، ليتركه وهو ينفجر ضحكًا والناس صامتون. تسبب السيد (ف) في هروب وهجرة عائلات عدة من اللاذقية، لأنه بكل بساطة كان يقصد بيت الفتاة التي تعجبه بعد منتصف الليل، ويطلب من والدها أن تذهب معه.
أكثر من ذلك، فجأة، صار (ف) مُحاميًا، وافتتح مكتب محاماة في أهم شارع في اللاذقية، ووظف محامين في مكتبه. كان على السيد (ف) كي يتسجل في نقابة المحامين أن يٌقسم القسم الخاص بالمحامين، لكنه رفض أن يُقسم، فطلب منه القاضي (كان رجلًا قمة في النزاهة) أن يُقسم احترامًا للقانون وللوطن وللحق وللقضاء العادل، فشتم السيد (ف) القاضي قائلًا: أنا لا أقسم إلا باسم شخص واحد، سيدي وتاج رأسي.
كان السيد (ف) غريب الأطوار، إذ أراد ذات يوم أن يتنكر بشخصية بابا نويل في حفلة عيد الميلاد التي يحضرها أطفال صغار في مقهى بسيط وجميل. كل الأطفال، من كل الأديان، كانوا ينتظرون بفرح غامر لحظة دخول بابا نويل حاملًا كيس الهدايا. وبعد أن وزع بابا نويل الهدايا على الأطفال، نزع ثياب بابا نويل وانفجر ضاحكًا، فاغتال فرحة أطفال أكبرهم في الثامنة من عمره. كثير من الأطفال بكوا وخاب أملهم ببابا نويل.
ثمة حادثة أخرى محفورة في ذاكرة أهل اللاذقية هي سقوط شابة في ربيع العمر من بيت في الطابق السابع. البيت للسيد (ف)، والشابة الفقيرة سقطت في ظروف غامضة في المكان المُخصص لمصعد البناية (البناية لم تكن كاملة الإكساء بعد).
وفي مكتب المحاماة، عدد من المُتخاصمين الذين كانوا يلجؤون إلى مكتب السيد (ف) معتقدين أنه قادر على حل كل المشاكل كانوا يعودون خاسرين بسبب استغلال لا يُمكن تخيله للسيد (ف) مطلق الصلاحيات.
طوال عقود، شعب اللاذقية كان يعيش الذل والخوف والتوجس من تصرفات السيد (ف) خوفًا على أولادهم، لأن السيد (ف) فوق كل القوانين، أي لا يُحاسب. لكنْ، ثمة ومضة مضيئة في تاريخ اللاذقية، حين اشتبك السيد (ف) مع شاب من أسرة عريقة من الطائفة السنية. الشاب لم يسكت له، وتعاركا، وسمع كل أهل اللاذقية كلام الشاب الشجاع وهو يدافع عن نفسه وعن أهل مدينته المُنتهكة، ويسخر من تهديدات السيد (ف)، ويقول له: أعلى ما في خيلك اركبه. كل تصرفات السيد (ف) وجرائمه كانت تصل إلى دمشق، وإلى أعلى سلطة، ولا محاسبة. أخوه السيد (م) كان يتاجر بالحديد، ولم يكن يريد أن يكون في الواجهة، بل كان يلجأ إلى توظيف أشخاص يعملون لحسابه ليكونوا في الواجهة، هو من استورد كل الميكروباصات، وكان يُرسل رجاله (الذين يبرم الصفقات باسمهم) إلى روسيا كل مدة. يبقون في روسيا شهرًا، أو شهرين، ويعودون بصفقات تجارية عديدة لا نعرف عنها شيئًا. كان السيد (م) مسؤولًا عن إدخال كل أنواع المشروبات الروحية والسجائرمن لبنان إلى سورية. ماتت زوجته وابنته في حادث سيارة، ومات ابنه ميتة مُروعة حين كان يلهو بقنبلة في سيارة والده، فانفجرت فيه القنبلة ومات.
في الواقع، يُمكن كتابة رواية عن السيدين الأخوين (ف) و(م)، بعنوان "الصمت"، إذ بقي شعب اللاذقية، في معظمه، صامتًا طوال عقود من الذل والتحقير والرعب والإحساس بانعدام الكرامة، وأنهم لن يحصلوا على حقهم في قضاء لا يجرؤ على محاسبة الأسياد. أهل اللاذقية لا ينسون يوم خُطف أهم أستاذ رياضيات في اللاذقية من قبل شبيحة أحد الكبار (عم السيد ف). اختُطف الأستاذ، وهو مسيحي خلوق وراق، لمدة سنة، ولم تعرف أسرته عنه شيئًا، حتى اعتقدوا أنه مات. بعد سنة، عاد الأستاذ سليمًا إلى أسرته، لكنه لم ينطق كلمة واحدة.
السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي حدّ يستطيع الإنسان تحمل كل هذا الذل!؟ وهل يصير الذل نمط حياة؟ هل يُمكن أن يعيش الشعب المُروع فاقد الكرامة والحرية والعيش الكريم إلى اللانهاية! ملاذه رب العالمين وحده، مواسيًا نفسه أن عليه أن يتحمل لأنه إنْ تمرد فالقادم أعظم!
وفعلًا، جاء القادم الأعظم، وتدفق نهر الدماء في سورية، ولم تعد اللاذقية عروس الساحل السوري، بل أرملة الساحل، من كثرة ما دفنت رجالًا وشبابًا. جاء القادم الأعظم بنزوح أكثر من ثلث الشعب السوري في بلاد الله الواسعة، أو ماتوا في مراكب الموت. وكان القادم الأعظم بالفقر والمجاعة لأكثر من تسعين في المئة من الشعب السوري، ولا تزال اللاذقية صامتة، ما عدا أصوات منافقة تدعي أنها تنتقد وتعترض على الأوضاع المعيشية، لكنها مجرد تنفيس وإيهام للناس أن هنالك من يتكلم بحرية ولا يُعتقل.
مئات الآلاف من الشبان السوريين أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، أطفال سورية ناقصو النمو لأنهم لا يأكلون سوى خبز، أو من الزبالة. ولا تزال اللاذقية صامتة، صمت القبور، أمان دجاجات في قفص.
ولا يزال الخوف من القادم أعظم...
من أكثر المدن السورية التي تشوهت وظلمت في سورية هي اللاذقية، فعدا عن التشويه المكاني، أو الجغرافي، مثل جريمة تبليط البحر، وسحق سلسلة من أجمل المقاهي البحرية التي كانت على مستوى ماء البحر تمامًا، وكانت رئة ومتنفسًا لأهل اللاذقية ولسورية كلها، شهدنا هدم مبان أثرية عريقة رائعة، وإشادة أبراج إسمنتية من ثلاثين طابقًا، في شوارع ضيقة. الحجة المُخزية التي قدمها لي رئيس البلدية حين كتبت منذ حوالي خمس عشرة سنة تقريبًا مقالًا بعنوان: "أين اللاذقية القديمة؟"، وهو يصرخ ويهدد ويتوعد، أن الحكومة اضطرت إلى هدم عدد من المباني الأثرية القديمة في اللاذقية لأن الإخوان المسلمين كانوا يختبؤون فيها!
وإذا أراد أهل اللاذقية أخذ ما يُشبه الصورة البانورامية لحياتهم طوال الفترة (1976 ـ 2023)، فيمكن أن تكون تلك الصورة بين اسمين (ف) و(م)، وهما شقيقان بصلاحيات مُطلقة فوق كل القوانين. أبدعت المُخرجة رشا شربتجي في مسلسلها الذي توحد حوله كل السوريين "غزلان في غابة من الذئاب" على مدى ثلاثين حلقة في إعادة سرد تصرفات السيد (ف)، الذي كان مصابًا بجنون العظمة الذي يدفعه إلى ارتكاب تصرفات يُمكن تسميتها: إبداعات الجنون، إذ كان يسير بموكب من سياراته الفخمة في شوارع اللاذقية، ويحلو له أن يترجل من سيارته ويقف خلفه شبيحته ويأمر مجموعة من الرجال الكهول الجالسين في مقهى شعبي أن ينبطحوا أرضًا تحت الطاولات. كانوا يمتثلون لأوامره بصعوبة، ليصبح طعم الشاي مُرًا مرارة الذل، والسيد (ف) ينفجر ضاحكًا ويطلق الرصاص في الهواء منتشيًا، من دون أن يخطر في باله إطلاقًا واجب احترام كبار السن. وكان يحلو للسيد (ف) أن يطلب من أي رجل يختاره، ولا يعرف هو نفسه لماذا اختار هذا الرجل، فيأمره أن يحشر جسده في طبونة السيارة الخلفية على مرأى من الأهالي، ليقود سيارته حوالي ساعة بسرعة جنونية والرجل محشور في الطبونة، ثم يعود إلى المكان الذي أمر فيه الرجل أن ينحشر في سيارته، ليفتح طبونة السيارة ويخرج الرجل الذي يبدو كخرقة لاهثًا ذليلًا مُروعًا، ليتركه وهو ينفجر ضحكًا والناس صامتون. تسبب السيد (ف) في هروب وهجرة عائلات عدة من اللاذقية، لأنه بكل بساطة كان يقصد بيت الفتاة التي تعجبه بعد منتصف الليل، ويطلب من والدها أن تذهب معه.
أكثر من ذلك، فجأة، صار (ف) مُحاميًا، وافتتح مكتب محاماة في أهم شارع في اللاذقية، ووظف محامين في مكتبه. كان على السيد (ف) كي يتسجل في نقابة المحامين أن يٌقسم القسم الخاص بالمحامين، لكنه رفض أن يُقسم، فطلب منه القاضي (كان رجلًا قمة في النزاهة) أن يُقسم احترامًا للقانون وللوطن وللحق وللقضاء العادل، فشتم السيد (ف) القاضي قائلًا: أنا لا أقسم إلا باسم شخص واحد، سيدي وتاج رأسي.
كان السيد (ف) غريب الأطوار، إذ أراد ذات يوم أن يتنكر بشخصية بابا نويل في حفلة عيد الميلاد التي يحضرها أطفال صغار في مقهى بسيط وجميل. كل الأطفال، من كل الأديان، كانوا ينتظرون بفرح غامر لحظة دخول بابا نويل حاملًا كيس الهدايا. وبعد أن وزع بابا نويل الهدايا على الأطفال، نزع ثياب بابا نويل وانفجر ضاحكًا، فاغتال فرحة أطفال أكبرهم في الثامنة من عمره. كثير من الأطفال بكوا وخاب أملهم ببابا نويل.
ثمة حادثة أخرى محفورة في ذاكرة أهل اللاذقية هي سقوط شابة في ربيع العمر من بيت في الطابق السابع. البيت للسيد (ف)، والشابة الفقيرة سقطت في ظروف غامضة في المكان المُخصص لمصعد البناية (البناية لم تكن كاملة الإكساء بعد).
وفي مكتب المحاماة، عدد من المُتخاصمين الذين كانوا يلجؤون إلى مكتب السيد (ف) معتقدين أنه قادر على حل كل المشاكل كانوا يعودون خاسرين بسبب استغلال لا يُمكن تخيله للسيد (ف) مطلق الصلاحيات.
طوال عقود، شعب اللاذقية كان يعيش الذل والخوف والتوجس من تصرفات السيد (ف) خوفًا على أولادهم، لأن السيد (ف) فوق كل القوانين، أي لا يُحاسب. لكنْ، ثمة ومضة مضيئة في تاريخ اللاذقية، حين اشتبك السيد (ف) مع شاب من أسرة عريقة من الطائفة السنية. الشاب لم يسكت له، وتعاركا، وسمع كل أهل اللاذقية كلام الشاب الشجاع وهو يدافع عن نفسه وعن أهل مدينته المُنتهكة، ويسخر من تهديدات السيد (ف)، ويقول له: أعلى ما في خيلك اركبه. كل تصرفات السيد (ف) وجرائمه كانت تصل إلى دمشق، وإلى أعلى سلطة، ولا محاسبة. أخوه السيد (م) كان يتاجر بالحديد، ولم يكن يريد أن يكون في الواجهة، بل كان يلجأ إلى توظيف أشخاص يعملون لحسابه ليكونوا في الواجهة، هو من استورد كل الميكروباصات، وكان يُرسل رجاله (الذين يبرم الصفقات باسمهم) إلى روسيا كل مدة. يبقون في روسيا شهرًا، أو شهرين، ويعودون بصفقات تجارية عديدة لا نعرف عنها شيئًا. كان السيد (م) مسؤولًا عن إدخال كل أنواع المشروبات الروحية والسجائرمن لبنان إلى سورية. ماتت زوجته وابنته في حادث سيارة، ومات ابنه ميتة مُروعة حين كان يلهو بقنبلة في سيارة والده، فانفجرت فيه القنبلة ومات.
في الواقع، يُمكن كتابة رواية عن السيدين الأخوين (ف) و(م)، بعنوان "الصمت"، إذ بقي شعب اللاذقية، في معظمه، صامتًا طوال عقود من الذل والتحقير والرعب والإحساس بانعدام الكرامة، وأنهم لن يحصلوا على حقهم في قضاء لا يجرؤ على محاسبة الأسياد. أهل اللاذقية لا ينسون يوم خُطف أهم أستاذ رياضيات في اللاذقية من قبل شبيحة أحد الكبار (عم السيد ف). اختُطف الأستاذ، وهو مسيحي خلوق وراق، لمدة سنة، ولم تعرف أسرته عنه شيئًا، حتى اعتقدوا أنه مات. بعد سنة، عاد الأستاذ سليمًا إلى أسرته، لكنه لم ينطق كلمة واحدة.
السؤال الذي يطرح نفسه: إلى أي حدّ يستطيع الإنسان تحمل كل هذا الذل!؟ وهل يصير الذل نمط حياة؟ هل يُمكن أن يعيش الشعب المُروع فاقد الكرامة والحرية والعيش الكريم إلى اللانهاية! ملاذه رب العالمين وحده، مواسيًا نفسه أن عليه أن يتحمل لأنه إنْ تمرد فالقادم أعظم!
وفعلًا، جاء القادم الأعظم، وتدفق نهر الدماء في سورية، ولم تعد اللاذقية عروس الساحل السوري، بل أرملة الساحل، من كثرة ما دفنت رجالًا وشبابًا. جاء القادم الأعظم بنزوح أكثر من ثلث الشعب السوري في بلاد الله الواسعة، أو ماتوا في مراكب الموت. وكان القادم الأعظم بالفقر والمجاعة لأكثر من تسعين في المئة من الشعب السوري، ولا تزال اللاذقية صامتة، ما عدا أصوات منافقة تدعي أنها تنتقد وتعترض على الأوضاع المعيشية، لكنها مجرد تنفيس وإيهام للناس أن هنالك من يتكلم بحرية ولا يُعتقل.
مئات الآلاف من الشبان السوريين أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، أطفال سورية ناقصو النمو لأنهم لا يأكلون سوى خبز، أو من الزبالة. ولا تزال اللاذقية صامتة، صمت القبور، أمان دجاجات في قفص.
ولا يزال الخوف من القادم أعظم...
تحميل المقال التالي...