}

لماذا يكتُب الأدباء العرب؟ ولِمنْ؟ ومتى؟

أوس يعقوب 13 سبتمبر 2023
هنا/الآن لماذا يكتُب الأدباء العرب؟ ولِمنْ؟ ومتى؟
عمل للإنكليزي جوزيف هايمور (1692-1780)

 

ذات يوم سألتُ صاحب "التّوت المرّ"، القاصّ والروائيّ التونسيّ الراحل محمد العروسي المطوي (توفي في تموز/ يوليو 2005)، قائلًا: "ماذا تكتُب؟ ولِمنْ؟ ومتى؟"، فأجابني: "أكتب لأتنفّس، لأنّ الكاتب إذا لم يتنفّس ليس بكاتب وأنا أكتب للإنسان. أمّا متى؟ فالكتابة نوع من الحبل لا يعرف وقتًا... يأتي وحده".

مضى وقت طويل على طرح أسئلتي هذه على أديب تونس الكبير، وكثيرًا ما كرّرت أسئلة الكتابة هذه على أديبات وأدباء عرب في رحلتي بعالم الصحافة في عدد من عواصم عالمنا العربيّ، وها أنا اليوم أكرّر طرح ذات الأسئلة على عدد من الكاتبات والكتّاب من سورية، وفلسطين، ولبنان، والأردن، والعراق، ومصر، واليمن، وتونس، والمغرب.

هنا الجزء الأوّل، ويليه جزء ثان وأخير: 

الشاعر والقاصّ والروائيّ موسى رحوم عباس (سورية): بالكتابة أقهر الفناء

قلتُ في مقابلة صحافية منذ سنوات، إنّ الكتابة لديّ تشبه التنفّس في منطقة خانقة، وعندما أعود لهذه العبارة؛ أجدها صالحة للإجابة عن سؤال الكتابة، إنّني أتنفّس من خلالها، في منطقة تضيق ذرعًا بالكلمة، تطلب منّا أن نفسِّر حتّى أحلامنا! عندما أكتب، أشعر بمدى الحرّيّة التي تمنحني إيّاها مساحة البياض في الورقة، أظنُّ الكتابة هي ما أبقى عقلي - حتّى الآن - هادئًا، أعوض من خلالها صمتي شبه الدائم، أنتقم منه بتلك الثرثرة التي لا تنتهي على صفحات رواية أو قصّة... هي لعبة الحياة مقابل الموت، أقنع نفسي من خلال الكلمة أنّ بإمكاني قهر الفناء؛ وكأنّني أقول: نعم، لقد كنتُ هناك، لقد مررتُ من هنا.

لِمنْ؟ في مقتبل العمر وكنتُ حينها طالبًا جامعيًا، ظننتُ أنّني أسهم في تغيير العالم؛ أنصف المضطّهدين والمقموعين بالكتابة والقصيدة... كنتُ أقرأ مترجمات بابلو نيرودا ولوركا وناظم حكمت وشعراء اليسار عمومًا، تخيلتُ أنّ التحريض على الثورة كافٍ للقيام بها، وخلق جنّة ديكتاتورية البروليتاريا، هكذا كنا مغرمين بهذه الكلمات الكبيرة، لكنّي عندما بدأت النشر تخلّصتُ من كلّ ذلك، فجاء إهدائي لروايتي الأولى "بيلان" (المدرجة على القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2012)، "إلى أهلي الذين لن يتمكّنوا من قراءة هذه الرواية؛ لأنّهم أمِّيون". أنا أكتب لأهلي، للناس في شارعنا، وقريتنا، ومدينتنا، لكن من نكتب لهم تصل نسبة الأميّة بين النساء والرجال إلى أكثر من النصف، ومع هذه الحرب المجنونة أصبحت أجيال كاملة لا تعرف طريق المدرسة، الكتاب العربيّ تطبع منه دار النشر بين 1000 إلى 2000 نسخة عمومًا مع بعض الاستثناءات القليلة لكتب تفسير الأحلام وأكاذيب تطوير الذات، فـ لِمنْ نكتب؟!

عندما يُخيّر الناس بين لقمة الخبز والكتاب، لا أظن أبدًا أنّهم سيختارون الكتاب، وهذا حقّهم، أخشى أنّنا نكتب لبعضنا، ونهدي كتبنا إهداءً لأصدقائنا، ولا ضامن لقراءتهم لها واقعيًا، هذه النظرة القاتمة لمآلتنا وبلداننا لم تجعلني أتوقّف عن الكتابة رغم أنّني فكرت في ذلك مرّات، لكنّي لم أكن راغبًا في أن أكون "الشيطان الأخرس"، ما زلتُ أحاول أن أكتب سرديّة الناس مقابل سرديّة الأنظمة، هي طريقتي في قولي لجيراني وأهلي والمهمّشين من أمثالي إنّني أحبُّهم، وأكتب عنهم.

متى تكتُب؟ الكتابة فعل إبداعي يستند لدوافع نفسية ومحفّزات، يوظف فيه الكاتب ثقافته، ومعارفه، وتقنياته، لم أحدّد موعدًا لكتابة قصيدة أو قصّة أو رواية... أحيانًا كثيرة، أكتبها معًا، أعني أنّني أكتب رواية، لكنّني أدعها فجأة؛ لأكتب نصًّا شعريًّا؛ لأعود ثانية للرواية، مع الفارق بين الشروط الموضوعية لكلا المنتجين الإبداعيين، شخصيًا تحتشد في رأسي أصوات متعدّدة تعبر عن نفسها بفنون متعدّدة، الشعر يمتصّ كلّ طاقتي النفسية والروحية، يتركني مرهقًا محبطًا مستنزفًا، القصّة تمنحني شعور الصياد الذي يطلق رصاصة واحدة على الهدف، الرواية صديقٌ مُتطلِّبٌ، لكنه يتيح لك العديد من الخيارات، يمتحن صبرك وقدرتك على صناعة السجاد! لا طقوس محدّدة لديّ، كلّ ما أحتاج إليه الهدوء حتّى لا أسمع إلّا صوتي الداخلي، ولو كنت في محطّة القطارات أو في مطار هيثرو!

فدوى العبود وموسى رحوم عباس


الكاتبة والقاصّة فدوى العبود (سورية): الكتابة لا تغيّر العالم بل نظرتنا إليه

لا شكّ في أنّ سؤال لماذا تكتُبين؟ يتجاوز فعل الكتابة إلى جوانب أخرى من حياة الكاتب فمن الصعب معرفة ما يدفعنا للكتابة، ذلك اختزال لأكثر الدوافع غموضًا.

نشأت في عائلة تقدّس العمل وتنبذ الأفكار، كانت أيّ فكرة موضعًا للسخريــــة، حتّى صفتي لاحقًا ككاتبة أثارت الفكاهة والتندّر في ذلك الوسط، وكان من الطبيعي أنّ وضعيتي كامرأة ستسهم في تركي للتعليم في سنٍّ مبكرة.

شعرت بالأسى وما بقي في ذاكرتي هو صور حسّيّة. صورتي وزملائي نتقاسم عروسة الزعتر في حصص الفراغ، عطر مدرسة الفيزياء، نوم مدرس الرياضيات وسرقة حذائه، حصّة التعبير حيث أكتب لزميلاتي المواضيع وأضمّن بخبث طفولي بصمتي في كلّ نصّ كي أسهل على المدرسة "أحلام" اكتشاف الأمر.

في يومٍ مثلجٍ وقاسٍ ماتت جدّتي، أتذكر سيري منتحبة وحافية خلف الجنازة. كانت ركبي ترتعش بعد عدّة أمتار تجمّدت أطرافي، وأدركت أن النعش سيتابع طريقه إلى المقبرة بكيت أم لا. عدت للمنزل وبأصابع متورّمة كتبت لها رسالة.

 في عيد ميلاد صديقتي لم يكن لديّ ثمن هدية فكتبت قصّة، قرأتها وفرحت صديقاتي بها حدّ نسيانهنّ تناول الكاتو.

ذات يوم حثثتُ صديقتي المعجبة بشاب من الحيّ المجاور أن تصارحه بحبّها؛ وتطوّعت بكتابة رسالتها لكوني أملك أسلوبًا مقنعًا وقد وعدتها – على طريقة السحَرَة - أن يأتي زحفًا إليها لكن ما حدث أنّ رسالتي عقّدت الأمور وتسبّبت بالكثير من المشاكل.

 كما ترى لا توجد إجابة واحدة، لكن ما أنا أكيدة منه أنه تشكّل لديّ وعي خاصّ أنّ عالم الكلمات أكثر دوامًا وبهجة من الحقيقي؛ لم تكن لديّ تلك الفكرة الساذجة بأنّ الكتابة تغيّر العالم، كما ترى لقد أفسدت الكتابة أوهام صديقتي عن حبّها.

أخذت من عائلتي حسّ السخريــــّة في النظر للواقع. أصبح الوضع عكسيًا في النظرة للأمور. تبادلنا الأدوار، بدت الحياة الحقيقية حالة أدبيّة والعالم اللغويّ حقيقيًّا بالنسبة لي. نسيت ملامح جدّتي، لكن القصّة التي كتبتها عن ذلك اليوم الثلجيّ واقعيّة.

لِمنْ؟ لنفسي في الدرجة الأولى. أنا قنوعة ولا آمال لديّ كثيرة حول العالم بل حول ذاتي، فالكتابة لا تغيّر العالم بل نظرتنا إليه، تغيرنا نحن وهذا كافٍ، وربّما تغيّر قارئًا ما يتشارك وإيـّانا المشاغل ذاتها، ربّما تمنحه العزاء.

في رواية "الاحتلال" لآني آرنو ثمّة مقطع تخبرنا فيه أنها تتمنى لو تحمل سلاحًا وتطلق على غريمتها النار وهي تصرخ ببذاءة. فيما يخصّني الكتابة توازي القتل (القتل اللغويّ).

متى؟ في كلّ وقت، حين تسوء الأمور أو تسير بشكلٍ جيد، حين ينهض حبّ ويخبو آخر، ليلًا أو صباحًا، في الحافلة متّجهة لعملي، وفي الاستراحة، في الحرِّ والبرد، اليوم وكلّ يوم... أتمنى فقط أن يكون الموت نزيهًا ويباغتني قرب طاولتي وبين يديّ كتاب.

القاصّة والروائيّة ليانة بدر (فلسطين): أكتب كي أحافظ على الحياة في نسغها الأوّل

أكتب كي أتنفّس. وربّما لأنّي أحبّ اللغة أو لأنّني أكون منشغلة باكتشاف العالم وما فيه من حولي. وأيضًا أكتب لكي أعزّز العدالة الضائعة حين تتجلّى بالاضطّهاد والقمع الاستعماري، وحين تظهر في تكميم أصوات النساء وجعلها مقصورة على وظيفة الأنثى البيولوجية. هنالك ألف سبب وسبب يدفعني إلى الكتابة.

الإبداع الحقيقي يتعلّق بكتابة فيها ينجلي الصوت وتظهر الصور المسكوت عنها عبرها.

أكتب كي أحافظ على الحياة في نسغها الأوّل، وكي أحفظ أصوات أناس يقاومون القهر والإبادة، وفي سبيل الحرّيّة.

لِمنْ؟ لا أعرف حقيقة لِمنْ أكتب. لأنّ الكتابة بحدِّ ذاتها تجربة داخلية عميقة لها محتوى صوفي أحيانًا. وإن كنّا صادقين فإنّ الكتابة ستكون بمثابة التنفّس العميق. ويقترن هذا دومًا بالصدق الباطني لأنّ ما يُنتج الأدب هو المواجهة مع لحظة الحقيقة. عدا هذا تكون الكتابة بروتوكولات وذر الرماد في العيون بمظاهر لا معنى لها.

متى؟ أكتب في جميع الأوقات فأنا لا أستغني عن تدوين أفكاري وملاحظاتي الأدبيّة في أشكالها المتعدّدة. تلك هي الملاحظات التي أواظب على كتابتها وتتعلّق بإنتاجي الروائيّ أو الشعريّ أو أيّ مادّة أشتغل عليها في ذلك الوقت. ويتجمّع عندي وقتها مخزون كبير من الملاحظات الصغيرة وأصول الأفكار. حتّى لو تعلّق الأمر بفيلم فإنّ البناء كلّه يبدأ من جمع هذه الملاحظات وإعادة ترتيبها.

علينا أن نحترم لحظة سيلان الأفكار وأن لا نهدرها بتذكر شفوي عابر لأنّ تسجيلها هو الضمان للمتابعة وإنشاء ما نريد. 

ليانة بدر وحنان جبيلي عابد  


الكاتبة حنان جبيلي عابد (فلسطين): الانسلاخ عن الواقع في لحظة خاصّة

"إنّها مجرّد إشاعة أنّي أكتب أنا أتنفّس"، جملتي المعهودة التي تحتلّ كياني لأنّها الحقيقة المطلقة التي دفعتني للكتابة هي أنفاسي، في البداية لم أبحث عن الأسباب التي دفعتني لإشهار قلمي ليرسم ملامح الكلمات واللكمات على الورق، لإيماني الخاصّ بأنّ سوط الحروف هو صوت أبدي ينطلق من القلب، العقل، والروح، والذي قد يمنح نبضًا جديدًا لعمري.

لماذا أكتب؟ هو السؤال الذي لم أسأله لنفسي عندما حملت قلمي لأوّل مرّة، ولكن بعد مزيج من الحالات التي عشتها مع الورق شعرت بتلك الطاقة الداخلية التي­­­­­­­­ تودّ الانطلاق كشعلة نور تحملني معها لتكسر حواجز الصمت وتواجه هدوء الضجيج الصاخب بداخلي، عندما بدأت الكتابة لم أكن أعلم لِمنْ؟ ولماذا أكتب؟ بالذات لأنّي بدأت الكتابة منذ نعومة أظفاري، كان قلمي بمثابة الآمر الناهي لطوفان من المشاعر التي تحتلّني وتثقل كياني، مع مزيج من الحالات والتناقضات.

لِمنْ؟ للكلمات التي تكتُبني من حيث لا أدري. لكلّ من يعشق الحروف كأنفاسه، لكلّ من يحتاج اجتياحًا جديدًا لذاكرته المنقرضة نحو الحنين المفقود إلى أماكن وأزمنة قد ترسم حدودها الحروف من جديد، بمن يعشق لغته كأنفاسه.  

أكتب عدّة ألوان أدبيّة لعدّة فئات عمرية، بداية من أدب الأطفال إلى الجيل الذهبي وما بينهما، لأنّي عادة أكتب حول عدّة أمور إنسانية، العدالة الاجتماعية، القيم الأخلاقية، وغيرها التي من شأنها أن تناسب عدّة مراحل من حياة القارئ بما يتناسب مع المستوى اللغويّ، بالذات أجدني دومًا مهتمّة بالأشخاص الذي تدفعهم الحياة نحو هوامش الحياة والاندفاع نحو الأشخاص الذين يحتاجون إلى تجديد الذاكرة ما بين الحاضر والماضي، القارئ بالنسبة إليّ هو بالمركز وعلى الأخصّ إذا كان طفلًا.

متى؟ أحيانًا تستفزّ قلمي الأحداث فتنهمر الأفكار على هيئة حروف، بشكلٍ عامّ أحبّ الهدوء أثناء الكتابة بعيدًا عن جميع منغصات الحياة، وقريبًا من مشاعري، رغم وجود لحظات يجتاحني إلهام وسط الضجيج لتولد فكرة معينة لا تحتمل التأجيل، أقوم برسم خطوطها على وجه السرعة خشية من هروبها في لحظة عابرة.

أحيانًا أنتظر فترة أطلق عليها تخمر الفكرة حيث أقوم بالابتعاد عن النصّ لفترة ما ثمّ أعود إليه كطفلة تشتاق إلى حضن الورق وعناق القلم. أجدني بحالة أفضل لربط الأفكار ببعضها البعض أو لتعديل بعض الأفكار وأراجع النصّ عدّة مرّات لأنّي أعتبرها خطوة مهمّة للتخلّص من بعض الكلمات التي لا يحتاجها النصّ.

بالإضافة لذلك لديّ حالة غريبة ألّا وهي الانسلاخ عن الواقع في لحظة خاصّة لا تصطادني دومًا، ولكن عندما تحتلّ كياني أركّز بها جيدًا لأنّها أجمل ما قد يولد من كلمات في تلك اللحظة، والتي قد لا تولد في لحظات أخرى. هذه اللحظات بالذات كتبت بها أجمل ما كتبت لكنّها لحظات نادرة جدًا أحتاجها بشدّة. وحين تكون حولي ألتقطها بسرعة قبل هروبها الحتميّ.

الشاعرة والروائيّة نسرين بلوط (لبنان): الإبداع انطلاق لا شروط له

الكتابةُ هي سديمٌ أسطوانيٌّ منغّمٌ ومنظّمٌ من التّغريد الطلق في مناجم النور، تطلق العقال من عزلتها للخيال المسجّى في انحناءات التكوير الذاتي لترتحلَ إلى مخيّلة الغير بانعكاسات الحالات الإبداعيّة ومرايا التشظّي الاحترازي الذي يشبه التعويذة في ناموس الصحراء حيث تنتقلُ كالعدوى من حالةٍ داخليّة إلى شمولٍ عامّ.

وعندما أكتب، تنهمرُ الكلماتُ مثل قبلاتِ فراشةٍ عبّت مراسها من مرج النور وتهيّأت للترحال والتجوال ملامسةً شغاف المستحيل، حينها يستحيلُ السببُ غايةً صعبةَ المنال، حيث يتجمّع الإلهامُ مثل الرذاذ المنتثر من أوّل الغيث، حين تدهمه بغتةً موجةٌ من الضباب المفاجئ الذي يرتسمُ في قعر السماء لينتفضَ حاسرًا عن وجهٍ مزدوج، يتبعُ نهجَ المهتدين والضالّين على حدٍّ سواء، إذًا يبقى السببُ مجهولًا أو شبه مجهول، أو لعلّه يصبّ في الباطن في خانة تفجير الأحاسيس الكامنة في وريد الشغف وتسييرها كخطف البرق في اختصارٍ إنسانيّ هادف، أو في اكتواءٍ متعطّشٍ للانقلاب والثورة والتغيير، ويتوجّه هذا السّيل الدافقُ من المشاعر والانطواء المكبوت ليتلقّفها المتلقّي الذي يتأهّبُ لنقطة ضوءٍ وتنوير، ويتجرّد من ذاته لينصهرَ في كلماتٍ تعبّر عن مأساته وأحاسيسه المتقلّبة بين دمعة وابتسامة، علّه يجدُ بعض العزاء في الانجراف التلقائي نحو المجاز أو الإبحار في عوالم أسطوريّة من التهيؤ الجميل والدافئ.

وقد أجدُ نفسي على موعدٍ مع شرفات القلم التي تطلّ على عوالم مفتوحةٍ لا قرار لها عندما يستبدّ بي اليأس فأصرف الطاقة المحتشدة في نفسي في تحرير نفسها من التهاوي اللاإرادي نحو جرف الكآبة، لأستمدّ من وشوشة الوحي الشعريّ الأملَ المنشود لأسدّ هذا التجويف الهائل بين الحقيقة والوهم بالغوص في عالميّ الرواية والشعر. وبين السرد المفصّل للرواية والسرد المنمّق الخاطف للشعر يشعُّ ضوءٌ ماورائي، يصوّرُ المشاهد المتتالية التي تطرأ في الذاكرة وتصهر الحواسّ لتبلغَ ذروةَ الارتقاء. فالحروفُ سرٌ في سفرِ التكوين الأوّل، لا يمكنُ استحضارَها إلّا من خلال جلسةٍ روحيّة خياليّةٍ تثبُ وتختلسُ وتنهبُ الحبرَ السائل في ثغر الإلهام. فالكتابةُ أمّ الفنون لا بديل لتكهّناتها واتّجاهاتها وتوجّهاتها. فالكاتبُ الحقيقي يجهلُ سبب كتاباته مثلما يضلّ النبعُ الشاردُ عن مصدره ولكنّه يفيضُ ويستفيض بالماء العذب والموسيقى الذائبة في تأرجحاته، أو يشتّ الرسّام عن مغزى رسوماته التكعيبيّة أو السرياليّة أو الطبيعيّة الحالمة ولكنّه يبلغ المحال ويجتاز العرقلات بسبب إيمانه بعمله، أو يتسمّر الأديب أمام ألغاز الحياة ولكنّه يصوّب كلماته نحو كلّ ذاكرةٍ حيّة تتلقّى ما يهبّ دون اعتراض، ولا يجدُ الوقت الذي يسعه ليتحرّك بحرّيّة وانطلاق نحو وجهته، ولكنّه يتجاهل الزمان ويقفز فوق عقارب ساعته ليبعثَ من خلال احتراقه الدائم بين الجنون والمنطق.

ليس كاتبًا حقيقيًّا من يختارُ عددَ قصائده أو نوعَ جمهوره أو يحدّد ويؤطّر الوقت اللازم للكتابة، لأنّ الإبداعَ انطلاق لا شروط ولا فروض أو طاعةٍ أو ولاء له، يلزمه النفسُ السانحةُ والعقلُ المدركُ والخيالُ السابحُ في المستحيل.

نضال برقان، محمد غبريس ونسرين بلوط


الشاعر محمد غبريس (لبنان): الكتابة تلملمني حين أتشظّى

لولا الكتابة لكانت فرص النجاة قليلة في عالم مثقل بالخوف والقلق والغموض، ولكانت أيضًا دروب البحث عن الحقيقة مقفلة، ولولا الكتابة ما استطاع التاريخ أن يفتح نافذة على الكون ويحرك طواحين الزمن، وما كان للشعر امتداد الدهشة ودفق اللحظات المتّقدة، وما كان أيضًا للحياة طعم الحبّ والبقاء. إنّها الكتابة تضيئني حين أنطفئ، تلملمني حين أتشظّى، تدفعني إلى الأمام حين أتراجع، وتحوّلني إلى طائر يعانق فضاء الحرّيّة، شكرًا للكتابة لأنّي وجدتها وقت الضيق، بكلّ فخامتها وعطائها، شكرًا لتلك المساحة التي نرسم فيها أوطاننا وأحلامنا، وحدها الجسر الذي يعبر بنا نحو أعماق النفس لنستعيد الوقت والثقة والفكرة ولننطلق إلى الآفاق بعزمٍ وحكمةٍ وفلسفة. حين أكتب كأنّني أخاطب نفسي أتوجّه إليها بكلّ ما يدور في هذا الكون، أناديها من صميم الكلمات، لأجلها أكتب عن الحبّ والشغف والجمال والعطاء، ربّما أعوض نقصًا ما أصابني، أو أصحح خطأ ما في الماضي، أو أصلح كسرًا خفيًا في خاطري، حين أكتب لا يخطر ببالي إلّا أنتِ أيتها اللغة والقصيدة والكلمة والمحبّة، إنّني من خلالكِ أكتب عن الذكريات والطفولة والحقول، وأكتب عنّي عن الوحدة والذات والمكان والوطن، إنّ التعامل مع الكتابة كما التعامل مع أنثى أو شجرة أو نجمة أو حتّى مدينة، هي أوّل الوقت وآخره، جميلة في الصباح وفي المساء مدهشة في كلّ الفصول والأزمنة.

الشاعر نضال برقان (الأردن): أكتب لي وللناس في الوقت ذاته

ما انفكّت أسئلة الكتابة (لماذا؟ ولِمن؟ ومتى؟) تتنقّل من تحوّل إلى آخر، كلّما عصفت رياح التحوّل بالكتابة نفسها، غير أنّها لم تبتعد عن ثلاث مفردات، أو مفردات أخرى تدور في فلكها: اللذة، المشاركة، والكشف.

الكتابة باعثة للمتعة ومُفجّرة لبراكين اللذة ومنشئة لسحب البهجة في سماء الروح، وهي (الكتابة) لتحقّق هذه (الرسالة) قد تكون مضطّرة لشيء من المواجهة مع الرداءة المنتشرة في الواقع، أو لشيء من المقاومة أو (النضال)، وبذلك هي معنية بترسيخ مفرداتها و(محاربة) أضدّاد تلك المفردات، لتصل في النهاية إلى غاية وجودها: اللذة الخالصة التي لا تشوبها شائبة، وهو ما أدربها على تحقيقه، وما أنتظره منها... فقط. ولتكون تلك اللذة أكثر كفاءة ونجاعة فإنّني أتطلّع أن يشاركني فيها الآخرون، الأمر الذي يتطلّب وجود جسور تواصل بين قصيدتي والناس، بالضرورة، بين قصيدتي وشجونهم، ومن هنا رحتُ أنبش في المشتركات الإنسانية بيني وبينهم، وأتحرك في فضائها، فذاتي المفردة هي جزء أصيل من ذوات الآخرين، وذواتهم جزء أصيل من ذاتي، وعليه فإنّني أكتب لي وأكتب لهم في الوقت ذاته، وهي معادلة أعتقد بضرورتها، فالتأثّر بالناس والتأثير بهم يجعل الرؤية أوضح والسماء أعلى والتحليق أبعد.

أمّا متى أكتب؟ فلا إجابة واضحة يمكن الحديث عنها هنا، غير أنّني لا أترك غزالة الكتابة تذهب بعيدًا عادة، أظلّ حولها، في فلكها، في فضاء روائحها، فقد غابت عن عيني مرّات عديدة وكانت خساراتي كبيرة وفادحة قبل استعادتها، ومن هنا أحرص على أن أظلّ متهيئًا ومستعدًّا للخوض في غمار الكتابة دائمًا، مثل رجل يقف على فوهة بركان وينتظر يدًا تدفعه ليسقط فيها، وهذه اليد إن لم تسعفني في مبتغاي فقد دربت يدي لتقوم بهذه المهمّة (المقدّسة). أمّا النتيجة فقد لا تكون موفقة دائمًا، بحيث تخرج بعض النصوص دون السويّة الفنّيّة التي أنتظرها، وهو أمر طبيعي، أمّا الأمر غير الطبيعي فهو أن أترك غزالة الكتابة تذهب بعيدًا، وتتكلّس يدي، وتصبح الكتابة فعلًا غاية في الصعوبة، وبالتالي ما أنتظره منها أمرًا بعيد المنال. هذا ما أراه الآن، وهي (رؤية) قابلة للتحوّل بالضرورة في قابل الأيّام، وهو ما أحرص عليه، فلا ثبات ولا استقرار ولا يقين لديّ... 

[للحديث صلة...]

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.