}

أذن عملاقة تستمع للهمس: معنى لوحة ينتجها فن الشارع

علي سفر علي سفر 21 سبتمبر 2023
هنا/الآن أذن عملاقة تستمع للهمس: معنى لوحة ينتجها فن الشارع
(تصوير: كاتب المقال)


لا تمل رسامة الشارع الفرنسية الشابة (الأذن L'oreille) كما تسمي نفسها من نشر تجاربها الفنية على جدران شوارع مدينة ستراسبورغ، عاصمة إقليم الألزاس الشهير، بل إنها تمددت بنشاطها إلى العاصمة الفرنسية باريس، وذلك عبر إلصاق صور ضخمة للوحات الكلاسيكية على جدران بعض شوارعها، كما باتت بعض اللوحات مشاهدة في مدن أوروبية أخرى!

الفكرة أبعد من تجميل المساحات الفارغة أمام عيون العابرين، فهنا، كما في كل الفضاءات المدينية الأوروبية، ينبهر الزائر بالاعتناء الواضح الذي تبذله البلديات وكذلك مؤسسات المجتمع المدني بالمساحات المشتركة، التي يؤمها المقيمون والسياح، وبالتالي فإن أي اجتهاد فردي قد لا يكون مؤثرًا أو واضحًا بسبب فيض الجمال والمنشورات الموجهة أو تلك المخصصة لوضع لمسات فنية من نوع ما، ولكن يمكن أن يكون بعض الاجتهاد حاملًا لرسائل ما، أو مُوظفًا ضمن إطار حملة تذهب نحو غاية محددة لدى أصحابها.

نشرت الفتاة التي ظهرت في لقاءات تلفزيونية عدة دون أن تصرح باسمها، لوحات فنية مختارة بعناية، على الجدران المبنية من حجارة وردية تشتهر بها هذه المنطقة المشتركة ثقافيًا بين فرنسا وألمانيا، لكن بعضها لم يرق لفئة من المارة فقاموا بتمزيق أجزاء من اللوحات، كما قام البعض بالكتابة على بعضها، ولا سيما تلك التي تظهر فيها أجساد عارية، بينما احتفى كثير بما شاهدوه، وحاول نزرٌ منهم محاكاة التجربة، فألصقوا بدورهم أعمالًا فنية مطبوعة مختارة بعناية، فيما قام شبان متحمسون ببخ طلاء يحمل رسائل ملونة في إطار الغرافيت اليومي الذي يغزو شوارع أوروبا كلها.

من بين كل ما نشرته الفتاة المغامرة، برزت وما تزال في الصدارة اللوحة الأولى التي بدأت معها تجربتها: الأذن!

ولعل استخدام الفنانة العشرينية هذا الاسم للتعريف بنفسها يعود إلى رغبتها المستمرة بالتذكير بما نشرته ولفت الانتباه، أي تلك الأذن المرسومة بالحبر الأسود، وتبدو أشبه بأيقونة محفورة على الحائط الملون، وتذهب عبر دلالاتها بمن يراها نحو تصورات غرائبية، غير مكتملة المعنى ربما، ومفتوحة على التجريب، في تأويل التفاصيل إلى معانٍ مختلفة!

نشرت الفتاة التي ظهرت في لقاءات تلفزيونية عدة دون أن تصرح باسمها، لوحات فنية مختارة بعناية


كانت الآذان الأولى التي صورها كاتب هذه السطور تعود إلى بدايات عام 2020، حيث ظهرت صغيرة لا تلفت الأنظار بسبب ندرتها وضآلة حجمها، لكن ما يسترعي الانتباه هنا يتأتى من أن الأوراق التي تحتوي هذا الرسم كانت تُلصق على زوايا الشوارع، حيث يمكن لمن يقف أمامها أن يحوز مساحة رؤية تجمع بينها وبين جزء واسع إلى حد ما من الطريق الذي تتقاطع معه!

الأمر الذي يوحي بإمكانية أن يسند المشاهد ظهره إلى الحائط مباشرة، لتصبح الأذن المرسومة هي أذنه، وليؤدي هذا الأمر المعنى الأول من المعاني التي يوحي الرسم بها، ففي كل زاوية يمكن لنا أن نستمع إلى ما يجري في المكان الذي لا نراه!

حضرت الأذن كعنصر فني في التراث الفني المصري الفرعوني، حيث ظهرت في لوحات حجرية مشهورة في عالم المصريات، وقد بقيت دلالتها مجهولة لفترة طويلة قبل أن يحسم البعض شرح المعنى بالقول إن استخدامها كان يدلل على مدح الإله المعبود الذي يستمع لأدعية وصلوات المصلين له.

لكن من الصعب جدًا مطابقة مثل هذا المعنى مع ما يراه الناس هنا، وذلك لعدم وجود مثل هذا السياق أو المرجع الذي يربط سيميولوجيًا بين العلامة وبين معناها المغلق هذا، وكذلك يمكن التفكير بالرسالة المنضوية على أنها موجهة لسلطة وضعية مادية، كمخاطبة صريحة، أو دعوة للحكومة في بلد اضطرب سياسيًا عدة مرات خلال السنوات القليلة الفائتة لأن تستمع إلى ما يقوله الناس، وأن تحاول الاستجابة إلى شكواهم، وهذا هو دورها في المجتمع الحديث، أي أن تخدم المجتمع، حيث من اليقيني أن لا أحد من أفراده سيصلي لها، بل إنه سيؤدي طقوس عبادة إلهه في الأمكنة المخصصة لذلك، وهي متاحة وبكثرة في هذا الإقليم الذي يتميز عن كل فرنسا بأنه لا يطبّق فصلًا للدين عن الدولة، بل ما زالت الحكومة فيه تشرف على عمل المؤسسات الدينية وتمولها.

إذًا، لا مجال في محاولات تفسير صورة الأذن التي لم تشرح صاحبتها غاياتها، التفكير بأن المطلوب هو أن يستمع إله أو سلطة أو مؤسسة، للآخرين!

لكن لماذا يذهب الباحثون عن المعنى بعيدًا في تأويلاتهم، بينما يمكن العثور على المعنى الأكثر رواجًا، والذي يتسق مع العصر الحالي، وبما يكتنفه من تغول للسلطات على حريات المواطنين، ومحاولاتها الدؤوبة لإفراغ الحقوق المدنية من مضامينها! لماذا لا يتم تفسير الأمر عبر مقولة "للحيطان آذان" الشهيرة؟

من بين كل ما نشرته الفتاة المغامرة، برزت وما تزال في الصدارة اللوحة الأولى التي بدأت معها تجربتها: الأذن! (تصوير: كاتب المقال)


من الرائج بين القراء أن حكاية هذه العبارة المستخدمة كثيرًا للتنبيه إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر من الحكومات، وعدم البوح بما يعتمل في النفوس إلا بعد الاطمئنان إلى عدم وجود المخبرين، تعود للوزير الإنكليزي أنيد بلايتون الذي عاش في عهد الملكة كاثرين الأرجونية وعمل في بلاطها، حيث قامت بوضع أدوات تمكنها من التنصت على ما يقوله عمال القصر وموظفوه، فصدرت عنه هذه العبارة التي باتت شعارًا رائجًا ككناية عن الحياة في المجتمعات الاستبدادية.

وربما يكون هذا أقرب التفاسير منطقية لرجل الشارع، خاصة وأن صاحبة الفكرة لم تكتف بنشر آذانها الصغيرة في كل شوارع المدينة، بل إنها قامت حديثًا بلصق صورتين كبيرتين للأذن في مكانين يعتبران من الأشد ازدحامًا، وكأنها تقول للجميع: انتبهوا، ثمة كائنات عملاقة تستطيع أن ترصد ما تهمسون به، حتى وإن تحاشيتم النطق بصوت مسموع!

تنطبق تفاصيل هذا التفسير مع ما يتكرر من شكاوى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عبر الجوالات، من أن شركات الاتصالات تخترق خصوصياتهم، تستمع لما يقولونه، وأنها ترصد نطقهم للحروف وتبني من ذلك أسماء حاجياتهم، وتبيعها للشركات التجارية، التي تقوم بعد ذلك بنشر إعلاناتها أمامها، فيظن البعض أنها تقرأ ما في أدمغتهم!

بينما تم شرح الأمر من قبل المختصين على أنه عمل تقني محض، يمكن إيقافه من ضمن إعدادات الاشتراك في هذه المواقع، كما يقول البعض بأنه يمكن فعل ذلك عبر جهاز الهاتف المحمول ذاته!

فعليًا، لا شيء يمكنه إيقاف التداعي في التفكير نحو زوايا وخفايا "المؤامرة" فالأذن الكبيرة هي تلك التي تحدثت عنها النيوزلندية هاجر نيكي في كتابها واسع الانتشار "الآذان المترصدة: كيف يتجسسون عليك؟"، حيث تقوم الحكومات الظاهرة وتلك الخفية أيضًا برصد كل ما نقوم به، من أجل أن تسيطر على عقولنا، وما كشفه الموظف السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية إدوارد سنودن من وثائق يدلل بحسب المؤلفة على أن المؤامرة واضحة وليست مخفية!

من اليمين لوحة من اللوحات الكلاسيكية التي ترسمها الفنانة في بعض شوارع باريس، وإلى اليسار الأذن كعنصر فني في التراث الفني المصري الفرعوني

على عكس من يظنون بأننا في المنطقة العربية أكثر من يتعاطى بجدية مع نظرية المؤامرة فإن الواقع في البلدان "المتطورة" لا يقل سوءًا عما يجري في ديارنا، فهنا ثمة تيارات واسعة من مروجي لأفكار النظرية بين العامة، ولهذا سنجد أن البعض سيتعاطى مع هذا الرسم الكبير للأذن على أنه رسالة واضحة لا تقبل التأويل توجب الصمت على الإنسان كي لا يصبح فريسة سهلة للقوى الخفية التي تريد أن تسيطر عليه.

بكل الأحوال، وأيًا كان المذهب الذي سيتبعه المشاهد أو القارئ أو عابر الشارع وهو يرى هذه الأذن، سيكون من المهم بالنسبة له تأملها وليس تجاهلها خوفًا منها، فهي مرسومة بدقة توحي بإمكانات فن الشارع المهمة في تجميل الفراغات، وفي إعادة التذكير بالجمال الذي تحتويه لوحات فنية عالمية، يمكن تعميم حضورها بين الحارات والساحات، وفي جعل المتلقين يفكرون دائمًا بالمعاني، لعلهم ينتجون بسبب ذلك أفكارًا مختلفة! 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.