}

عن آلامنا والربيع العربي وغزة والقدرة على المقاومة

علي سفر علي سفر 21 نوفمبر 2023
آراء عن آلامنا والربيع العربي وغزة والقدرة على المقاومة
محمد عمران


يومًا ما، بعد سنوات أو عقود، سيفتح قارئ أو باحث ما كتاب الحدث الفلسطيني الراهن، وسيسأل عما فعله المثقفون العرب إزاء ما عايشوه من مذبحة مهولة في غزة، وقد شهدوا تفاصيلها بالصوت والصورة!

لن يكون لدى أحد ممن سيراجعون هذه اللحظة القدرة على تتبع المواقف الشخصية للكتاب والمثقفين، إلا إن كانوا يحققون في تاريخ أحدهم، وسيستخلصون النتيجة من الموقف الإجمالي، ولا سيما إدانة إسرائيل على جرائمها.

غير أن السؤال الذي سيلي، سينبثق فورًا من تقييم الآخرين في المستقبل قدرات شرائح المثقفين السابقين على الفعل والتصرف، وهل كانوا يمتلكون أدوات تمكنهم من ممارسة دورهم، في تحريض وتنبيه الجمهور على اتخاذ المواقف الأخلاقية المطلوبة، تجاه الدم المراق على يد الكيان الصهيوني الذي يقتل الآن وفق رخصة دولية شبه كاملة؟!

ربما لا نحتاج بوصفنا أبناء للراهن المُلح أن نعود إلى السؤال التاريخي عن دور المثقف في المجتمع، ولا يجب أن نبرر تقاعسنا بضرورة مراجعة ما قاله غرامشي أو جوليان بندا أو حتى إدوار سعيد حول هذه النقطة، بل إننا نحتاج للعودة زمنيًا لأكثر من عقد من السنين، أي إلى لحظة تفجر ثورات الربيع العربي، كي ننظر إلى وضع المثقفين، وحالة مزرية غرقوا فيها وما زالوا، تتصل بالسؤال الأخلاقي الذي يجب عليهم أن يجيبوا عنه، ليس من خلال كتابة أو صنع أعمال عن الحرب أو عن الثورة فحسب، بل عبر النظر إلى ما يجري من خلال المكبرة الفاحصة التي تلتقط الخيوط الخفية بين الراهن المقيت وبين ومضة كان يمكن لها فيما لو نجحت واستمرت أن تغير الكثير في معادلة الهزيمة العامة التي يعيشها العرب، رغم ما يصدح فيها إعلام الممانعين عن انتصارات!

مشروع التغيير الذي حملته انتفاضات الربيع العربي تشكل في أصله ضمن مختبر نفسي، كانت أمواج الاضطرابات فيه تصطدم بجدار سؤال عن أسباب الهزيمة العربية وماهيتها!

وقد أدت محاولات الشرائح الفكرية والسياسية الفاعلة طيلة مرحلة ما بعد هزيمة 1967، إلى صناعة وعي مختلف ربط بين تكوينات السيطرة المهيمنة على قوى المجتمع، وبين المصالح الإقليمية والدولية، التي جعلت من حالة الاستنقاع العربية أمرًا مستمرًا طيلة العقود السابقة.

وفي هذا الإطار وضمن ما يسمح به المقام الآن، لا بأس من التذكير بأن المعادلة التي تقول بأن النضال الفلسطيني من أجل استعادة الحقوق والأرض السليبة مرتبط بحرية الشعوب العربية وبما فيها الفلسطينيون أنفسهم لا تزال حارة، وتصلح لتفسير ما جرى ويجري. وقد حصلت بالإضافة إلى نوابضها الفكرية، على أدوات جديدة حملتها إليها ثورات المنتفضين في عام 2011، بعد أن أظهرت ترابطًا كبيرًا بين إسقاط الأنظمة المستبدة، وإسقاط الاحتلال الإسرائيلي، بوصفه تعبيرًا عن العلاقة المافيوية بين القمع والاحتلال.

أصوات المثقفين الذين انضموا إلى تيار التغيير في المنطقة، كانت عالية وواضحة في التعبير عن جوهر هذه المعادلة، وحين أسقطت الثورات المضادة أحلام الثائرين، ودمرت حيثيات وجودهم المعنوي والمادي في السجون والقبور والمنافي، لم يخفت دوي الشعارات التي كانت تذكر بحقيقة مطلقة تقول بترابط الصراع المحلي بالصراع الدولي، وبما يعني أن فلسطين لن تكون حرة إن لم يصبح العرب أحرارًا، يؤدون مساهماتهم الحضارية والإنسانية في عالم أكثر عدالة!

قد يسأل أحد ما وسط هذه اللجة عن عقلانية الحديث عن الثورات المغدورة وسط الحرب! فيرى أن التوقف عند الماضي إنما هو مسعى للبحث عن أسباب العجز! أو هو تفتيش عن مبررات مستوردة من الماضي، وبما ينجي أصحابها من الملامة والمساءلة!

يبدو هذا صحيحًا في حال نظرنا إلى المشهد من ظاهره، لكن القراءة النقدية المتعمقة، تقودنا إلى فحص أثر الماضي القريب في الحاضر، ولا سيما ارتباط المواقف الراهنة بأصل سابق، مكرس منذ تاريخ حدوث الثورات، والتي لم يغب الحضور الفلسطيني عنها.

وعبر فحص الانقسامات الراهنة بين المثقفين حيال "مسألة غزة" والمقصود هنا ما فعلته حركة حماس وما نتج عن ذلك، لن نعجز عن إيجاد ما يثبت الفكرة التي ننطلق منها. فهنا نعثر على شريحة من المثقفين العرب تتماهى مع مواقف الأنظمة، وكذلك مع مواقف الحكومات الغربية الداعمة لإسرائيل، وهذه الشريحة مختلطة بين ثائرين سابقين اتسمت مواقفهم بالاستعجال ويشعرون بأنهم مهزومون، وبين مؤيدين للسياسات المناهضة للتغيير. يرفض أفراد هذه الشريحة هجوم حماس غير أنهم يصمتون عما سبقه، ولا يرون الفعل الإجرامي الإسرائيلي المستمر منذ عشرات السنين، والذي كان يصنع المجازر بأسباب ودون أسباب، قاوم الفلسطينيون أم لم يقاوموا، أساسًا للمشكلة!

هؤلاء أنفسهم هم من اعتبروا أن الكوارث التي حلت بالبلاد العربية في العقد الأخير تسبب بها الربيع العربي، إنهم يعرفون أن الأنظمة متوحشة، لكن وبحسب آرائهم؛ من يتحمل المسؤولية إنما هم أولئك الذين تحرشوا بها!

الشريحة الثانية من المثقفين الحاضرين الآن، هي تلك التي يتطابق موقفها مع موقف تيار الممانعة، والذي أصابته الأحداث الحالية بالعور، فعاد إلى الشعارات وصنع منها قناعًا يغطي تشفيه بالفلسطينيين في غزة، والذين يصفهم أفراد من هذه الشريحة بأنهم محسوبون فكريًا وسياسيًا على حماس الإخوانية! وأن حماقات الإسلام السياسي تتكرر وأن الشعوب تدفع الأثمان دائمًا! وطبعًا هذه الشريحة لا تنطق بما تبطن، لكنها تنسجم في موقفها مع نظام الأسد الذي يمنع المظاهرات المؤيدة لغزة، وتتطابق أيضًا مع الرشد والعقلانية لدى مثقفي حزب الله، الذين رموا ورقة وحدة الساحات في سلة المهملات، وهاجوا وماجوا ضد المطالبات بفتح الجبهة اللبنانية والسورية!

أما الشريحة الثالثة فهي الأقل صخبًا، يُركز أفرادها على الموقف النقدي، دون تجاهل مجريات الحدث، ولا يجدون أن ما يجري منفصل عن سياقات تاريخية، تشكل فيها وعي عام لدى الفئات الشعبية، لم يفصل بين فلسطين وبين سورية ولبنان والأردن ومصر ولا حتى ليبيا والعراق واليمن... إلخ.

كما أن تحليل أفرادها غالبًا ما يؤدي إلى الربط بين الصراعات المحلية في دول الطوق وبين استمرار الاحتلال، وبشكل منطقي فإن قول بعض أفراد هذه الشريحة بأن الربيع العربي ليس مجرد أحداث عابرة، بل هو مؤشر لا يرتبط فقط بالإقليم، بل بالسياسات الراهنة عالميًا أيضًا، ولا سيما محاولات حكومات الليبرالية المتوحشة السيطرة على مقدرات الشعوب، وجعلها مجرد أدوات مستهلكة، تضمحل ملامحها وثقافاتها في بوتقة الاندماج في النظام العالمي، حتى وإن أدى ذلك إلى التغاضي عن المآسي الكبرى، التي تحولت فيها الشعوب إلى جحافل من لاجئين، يغادرون بلادهم بسبب غياب التنمية والإصرار على قمع وقتل كل من يخالف سياسات القوى المحلية المسيطرة!

لا تحتاج الحرب إلى تعريف جديد يبسط مضامينها أمام من لا يعرف معناها، وربما يمكن الجزم بأن أحدًا في المعمورة لم يعشها أو على الأقل شاهد بعضًا من حوادثها، أو سمع بقصصها، وآثارها على البشر والطبيعة.

لكن المثقفين الذي يسجلون الملاحظات ويكتنزون الأفكار من أجل الكتابة عن الحرب وكوارثها، يحتاجون لأدوات مختلفة عما استعمله السابقون واستغلته الأنظمة واستهلكته، فالصراخ والعويل الذي تنطق به صور ضحايا مذبحة غزة غير مسبوق في مساره، لكنه كناية عما تعرضت له الشعوب المضطهدة ليس في المنطقة العربية فقط، بل في كل مكان. وهنا، يمكن استعارة عنوان كتاب الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ "الالتفات إلى ألم الآخرين" لمقاربته والخروج منه بأداة مختلفة تقول: تعالوا أيضًا نرى كيف نُخرج من آلامنا وآلام الآخرين معنى جديدًا لأصواتنا وقدرتنا على المقاومة.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.