}

الدراما: القوة الناعمة هل تطلق النار على نفسها؟

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 5 سبتمبر 2023
هنا/الآن الدراما: القوة الناعمة هل تطلق النار على نفسها؟
(gettyimages)

 

أدت الدراما العربية دورًا مميزًا في تشكيل وعي المشاهدين تجاه القضايا المجتمعية المزمنة والراهنة، وأسهمت، بالإضافة إلى دورها الترفيهي، بتقديم سيناريوهات الحل، أو المدخل إليه، للخروج من حالة الركود الفني ما بعد الهزيمة العربية أمام دولة الاحتلال إسرائيل والدول الحليفة لها عام 1967، ونجحت إلى حد ما، في تجسيد الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني في دول الإنتاج الدرامي آنذاك، وخاصة مصر، وسورية، بمصداقيته، ومعالجته، وفق "سيناريو" محبوك وجاذب وواقعي، واستطاعت في كثير من المسلسلات الاجتماعية الجادة الخروج من نفق المشكلات إلى مساحة من النور، عبر دعوة حقيقية لإعادة التماسك المجتمعي لمواجهة مصاعب الحياة عبر النص المتماسك والإخراج الناجح مع بساطة أدواته وضعف تمويله.

وتعرّفنا من خلال دراما التلفزيون على مدار عقود على مسارات جديدة لبث الأمل في نفوس المشاهدين، أي أنها مارست دورها التأثيري النفسي بوسائلها البسيطة سابقًا، وعبر شخصياتها المقبولة، والحاضرة كنجوم في عالمنا العربي، حيث تجاوزت أسماء بعض الممثلين بيئاتهم المحلية، ليكونوا حاضرين في الوجدان العربي من محيطه إلى خليجه من خلال الدراما التلفزيونية العابرة للحدود. 

وخلال عقود من الزمن نجحت الدراما العربية في احتلال مكانتها في حياة الأسرة العربية، وجمعت المشاهدين حول الشاشة الصغيرة، في ساعات البث المحددة، فكانت واحدة من أسباب الحوارات العميقة بين أفراد الأسرة الواحدة من جهة، وشرائح المجتمع المتنوعة من جهة مقابلة، وإحدى وسائل التقريب في وجهات النظر حول قضايا كبرى، فكرية ودينية ووطنية، دون أن يؤخذ عليها لفترات طويلة أنها مجرد (بوق) للأنظمة الحاكمة، على الرغم من أنها كانت تخرج من تحت رقابتهم وتوزع بموافقتهم، ما يعني أن الكتابة المتميزة للنصوص المصورة استطاعت تجاوز موانع ومقصات الرقيب (بحرفيتها، ومهنيتها)، لا بتهادنها أو شراكتها مع الرقيب "الحاكم"، كما يحدث اليوم في بعض من الأعمال التي يمكن تسميتها أقرب إلى المخابراتية من الفنية.

ويمكن ملاحظة أن بعض الأعمال الدرامية التي تأخذ سياقها العام من الأحداث الجارية في بعض الدول العربية، سورية أو مصر، مثالًا، تسير بنا من واقعية الحدث، المشوّق إلى لحظة انفلاته من بين يدي الكاتب أو المخرج، حين  يدخل عليه قسرًا معالجته لمواضيع شائكة كالحالة الأمنية، بما تحمله من مواجهة فعلية مع ملفين أساسيين: الإرهاب وتوصيفه، وانعكاساته الكارثية على الدولة والمجتمع والجوار، وطرائق مواجهته على المستويين الرسمي والشعبي، وقضية الثورات الشعبية (الربيع العربي) ضد الأنظمة الحاكمة، وتحوير مضامينها، لتدخل كجزء لا يتجزأ من مفهوم نشر الفوضى، واستخدام العنف لتحقيق غايات المتطرفين وليس الثائرين.

وحيث تأخذ قضية الإرهاب دور الأم الجامعة لما بعدها، في معظم الأعمال الدرامية الحالية، وتوظفها لتكون شماعة الأنظمة في محاربة أي اعتراض أو معارضة لها، من خلال تحميل الإرهابيين زورًا وعن - سوء نية- مسؤولية  بث الفكر الثوري ضد الحاكم، وبالتالي تحميل ثورات الحرية والبحث عن الحقوق، مسؤولية نشر الفوضى، والعنف، أي محاولة الدراما أن تكون لسان حال الأنظمة الحاكمة في أن أي تمرد عليها يدخل تحت عنوان نشر الإرهاب في المجتمع، ما يبرر مجابهة الثورات السلمية بالسلاح، لا التعاطي معها على أنها حاجة مجتمعية للتغيير وإنهاء حكم الديكتاتوريات، سواء الفردية، أو الجمعية الناتجة عن الحكم العسكري، أو الأحزاب الشمولية.   

من هنا يمكن وصف الخلط بين الثورات والحركات الإرهابية على أنه (سوط أمني) لتبرير جرائم القتل والتعذيب ضد المعارضين، وليس (ضرورة درامية) لتوعية المجتمع ضد أساليب الإرهاب، فعندما تغيب عن مجريات الأحداث الدرامية الأسباب الحقيقية وراء تحول الثورات من سلمية إلى عنف متبادل مع السلطة، بسبب استخدام "السلطة" لكل وسائل القمع للثورات، من أسلحة فردية وثقيلة وجوية وكيماوية، وذهاب  المعالجة الدرامية إلى تحميل الثورة عبء الإرهاب، وانتشاره، وتمدده في البلاد مساحة وثقافة، وتعدد مناهجه وسلوكياته وتنوع مظاهره، تسقط الدراما في مطب التسويق الأمني للأنظمة الحاكمة.

لا يمكن التشكيك بدور الدراما المهم والمتعاظم في معالجة مشكلة انتشار الفكر المتطرف الإرهابي، من خلال تقديمها لشخصياته وأفكاره ونقدها، وتحذير المجتمع وبخاصة الشباب من حيل الترويج الشائعة اليوم، بسبب تطور أدوات الإرهاب وتنوع منصاته، وقدراته المالية والبشرية والعلمية، حيث لم يعد مفهومًا تقديم شخوصه ببساطة المظهر وسطحية العقيدة، ووسمهم بالجهل، أو التخلف، ونحت الشخصيات على شكل فزاعات بشرية، بملابس جاهلية ووجوه ذميمة ولحى طويلة، في الوقت الذي تثبت فيه الأحداث، أن شبكات المنظمات الإرهابية تتعامل مع أكثر تقنيات التكنولوجيا المتطورة، وتنتمي لها شرائح متنوعة، وأخطرها من مبرمجين ومهندسين وأطباء وعلماء في مختلف المجالات، ومنهم في المجال النفسي حيث يطورون أساليب اقناعهم لفئات خارج ما يمكن تسميته (شباب البيئات المهمشة) أو الفقيرة.

ما يتطلب أن تكون الدراما التي تعالج قضايا انتشار الإرهاب مستعينة بمراكز ومعلومات بحثية، ووقائع، وليس فقط الاعتماد على إمكانات الكاتب/ة في صياغة حوارات، أو على إبداع مخرج/ة، قد تكون المشاهد في مسلسل ما مشوقة، وقادرة على تحريك المشاعر الآنية، لكنها في زمن المعلومة المتاحة عبر "غوغل"، وأخواته، يمكن للأخطاء التوثيقية والفكرية غير المقصودة أو المحملة على النص، أن تكون رصاصة في قلب الدراما، وليس رصاصة في مواجهة الإرهاب، وبخاصة عندما تطل من بين سياق الأحداث أصابع الأجهزة الأمنية، التي تخلط عن عمد بين الثائر الرافض لواقع المذلة واستلاب حقوق المواطنة، وبين الإرهابي الذي يريد أن يغتصب السلطة وحقوق المواطنين معًا، وتضعهما في خانة واحدة كما يحدث في زنازين الديكتاتوريات.

تبقى الدراما إحدى وسائل القوة الناعمة في تغيير سلوكيات المجتمع السلبية، ومجابهة المخاطر التي تواجهه، لكنها أيضًا يمكن أن تكون وسيلة عنف إضافية (إلى جانب الأجهزة الأمنية) ضد المجتمعات، عندما تتحول من مؤثرة إيجابية إلى بوق للأنظمة الديكتاتورية، وتطرح أفكارهم الترهيبية، بعيدًا عن دورها الترفيهي والتثقيفي والتوعوي الذي تحتاجه المجتمعات في وقت الحرب والسلم معًا.

*كاتبة سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.