}

"حريتنا ناقصة بدون القدس": درس مانديلا الذي وعيه أحفاده

عزة حسين 21 يناير 2024
هنا/الآن "حريتنا ناقصة بدون القدس": درس مانديلا الذي وعيه أحفاده
أبدى الفريق الجنوب أفريقي شجاعةً في عرض حيثيات الدعوى(Getty)
بالتزامن مع انعقاد أولى جلسات محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، إثر الدعوى التي أقامتها ضدها جنوب أفريقيا، تصدرت الأخيرة محرك البحث X (تويتر سابقًا) ليصبح اسم جنوب أفريقيا أكثر العبارات تداولًا على تلك المنصة، في عدد كبيرٍ من دول العالم، وضمنها الدول العربية.

خلال المرافعة، أبدى الفريق الجنوب أفريقي شجاعةً وإتقانًا وإلمامًا بحيثيات وإجراءات الدعوى، وبُثّت مباشرةً عبر موقع الأمم المتحدة الرسمي، ونقلته عنه كثير من وسائل الإعلام حول العالم، لتكون بذلك أول قضية من نوعها تنقل مباشرة، ويتفاعل معها جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، مجدِّدًا وبكثافة حملات الدعم للفلسطينيين، ضحايا الهولوكوست الإسرائيلي في غزة.
كانت المرافعة التي اجتمع لها من الأسباب ما يجعلها تاريخية، نقطة ضوءٍ أمام الأجيال الحالية المحاصرة بديستوبيا الواقع. كما كانت مناسبةً لاستعادة الأواصر المشتركة بين جنوب أفريقيا وفلسطين، من فداحة العدوان والتواطؤ العالمي وتاريخية النضال، ومظاهر الدعم الشعبي والرسمي غير المنقطع من جانب بريتوريا منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
استعاد المحتفون المشاهد التاريخية التي جمعت المناضليْن الراحليْن نيلسون مانديلا وياسر عرفات، الذي كان ضمن أوائل مستقبلي مانديلا بعد خروجه من المعتقل عام 1990، بزيه الوطني الفلسطيني المميز بين عدد من القادة الأفارقة الذين دعموا كفاح الزعيم الأفريقي ضد نظام الفصل العنصري. كما استعيدت كلمات مانديلا الخالدة عند انتخابه رئيسًا لبلاده بعد تفكيك ذلك النظام عام 1994: "إن حريتنا منقوصة بدون حرية الفلسطينيين والقدس"، وصورته مرتديًا الكوفية الفلسطينية.
وعلى أرض الواقع، استبق مئات الفلسطينيين إجراءات المحاكمة بتظاهرة حول تمثال مانديلا برام الله، كتعبير عن شكرهم لجنوب أفريقيا لانفرادها باتخاذ خطوات جدية لدعم قضيتهم، وتصدير مأساتهم للمجتمع الدولي، الذي اختلط عليه الأمر بسبب التخاذل العربي، والتواطؤ العالمي، اللذين أفسحا المجال أمام السردية الصهيونية الكاذبة.
وفي محاولة لنزع الدافع الأخلاقي عن موقف جنوب أفريقيا في دعمها لفلسطين، تبنت بعض الأصوات المنزعجة ـ على ما يبدو ـ من المقارنة التي فرضت نفسها بين الموقفين العربي والأفريقي من النكبة الإنسانية في غزة، روايةً تعد تحركات بريتوريا الأخيرة تكتيكًا سياسيًا للاستفادة من تحولات النظام الدولي نحو نظامٍ متعدد الأقطاب، وتفتيت الهيمنة الأميركية، فضلًا عن محاولة بناء وزن إقليمي أكثر تأثيرًا في القارة الأفريقية، مستدلين على ذلك بانضمام جنوب أفريقيا إلى تحالف "بريكس"، وتبنيها موقفًا مخالفًا لأميركا والغرب تجاه الحرب الروسية ـ الأوكرانية.
غير أن الموقف الأخلاقي اللافت لجنوب أفريقيا تجاه فلسطين ليس جديدًا ولا مفاجئًا، ربما ساهم في تبئيره الآن تناقضه مع الموقف العربي، ومواقف دول التشدق بحقوق الإنسان، بالتزامن مع بلوغ الجرائم اللا إنسانية في غزة مدى غير مسبوق، لكن المتتبع للشراكة الفلسطينية الجنوب أفريقية يعلم أنها بدأت منذ السبعينيات، حيث ارتبط حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بعلاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، منذ ما قبل حقبة حكم مانديلا  الذي زار فلسطين أواخر التسعينيات، وكشف عن العلاقة القديمة التي ربطت إسرائيل بحكومة بلاده العنصرية، وساند الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، رغم ما جره عليه ذلك من تضييقات دولية.
واليوم، يواصل أحفاد مانديلا البيولوجيون والروحيون ما بدأه وما علمهم إياه، من دعم ومؤازرة للقضية الفلسطينية على المستوى الرسمي والشعبي، والعملي والرمزي، وكأنهم من جديد ينوبون عن شعوب الأرض كافة في التصدي للأفكار والكيانات الاستعمارية الظلامية وأجنحتها، وفي الإعلان الصريح أمام العالم أن إسرائيل دولة فصل عنصري لا تختلف ممارساتها تجاه الفلسطينيين عن ممارسات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ضد السكان الأصليين.




المثير للدهشة الآن هو اندهاش المتشككين، هل من قبيل الجهل، أم التجاهل، أسقطوا أن مانديلا كان أحد أربعة فائزين بجائزة نوبل من جنوب أفريقيا، ساندوا القضية الفلسطينية منذ وقتٍ مبكرٍ، باعتبارها رديفًا لنضالهم ضد الأبارتهايد، وهم بالإضافة إليه: ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984، ونادين جورديمر الحائزة على جائزة نوبل في الآداب 1991، وجون ماكسويل كويتزي الحائز على الجائزة في الآداب عام 2003، والذين ربما ينضم إليهم قريبًا الفريق الحقوقي الذي يتولى قضية إسرائيل أمام محمكمة العدل الدولية الآن، بعد تعالي الأصوات المنادية بمنحه جائزة نوبل للسلام عن العام الجاري.
وكان ديزموند توتو الأكثر جرأةً في انتقاده لإسرائيل ودعم الولايات المتحدة غير المشروط لها، فشبه ـ منذ وقتٍ مبكرٍ ـ سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين بسياسة التمييز العنصري التي كانت تنتهجها حكومة بريتوريا ضد السود في جنوب أفريقيا زمن الأبارتهايد، محذرًا من أن العنف الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يولد إلا مزيدًا من الكراهية والعنف المتبادل.
وحتى قبيل وفاته عام 2021، كتب مقالًا في صحيفة الغارديان البريطانية دعا فيه إدارة الرئيس الأميركي المنتخب حديثًا في ذلك الوقت جو بايدن إلى التوقف عن التستر على سلاح إسرائيل النووي، والتوقف عن دعمها بـ "لأموال الضخمة"، واصفًا إسرائيل بأنها "دولة ذات سياسات قمعية تجاه الفلسطينيين"، وموقف الولايات المتحدة الداعم والمتستر عليها بـ"المهزلة" التي يجب أن تنتهي.
أما نادين جورديمر، وإن لم تصل في دعمها للقضية الفلسطينية إلى حد تشبيه الاحتلال الإسرائيلي بنظام الأبارتهايد الذي طالما انشغلت بمناهضته في رواياتها، كما يؤخذ عليها قبول المشاركة في معرض الكتاب الإسرائيلي الذي أقيم ضمن احتفالات إسرائيل بمرور ستين عامًا على نكبة احتلالها لفلسطين عام 2008، بعد ترددٍ وتحت إلحاح شديدٍ من الكاتب الإسرائيلي  المتلون عاموس عوز، الذي اشترطت عليه ترتيب لقاءاتٍ لها مع كتاب ومفكرين فلسطينيين لقبول الدعوة، إلا أنها كانت استبقت ذلك الموقف بمساندة النضال الفلسطيني وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وجلاء الإسرائيليين عنها قبل ذلك التاريخ بسنين، ربما قبل صديقها نيلسون مانديلا، ورفاق نضالها: ديزموند توتو، وروني كاسريلز.
فبحسب ما روت جورديمر، خلال إحدى الفعاليات التي جمعتها بجمهور معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2005، كانت هي الكاتبة غير العربية الوحيدة التي ساندت الوفود العربية في مؤتمر الأدب العالمي الذي عقد في الصين عام 1988، في المطالبة بالاعتراف بحق فلسطين في تقرير مصيرها، والتخلص من الاحتلال الإسرائيلي.
كانت جورديمر اليهودية الأفريقية البيضاء تؤمن بمبدأ حل الدولتين، وبإمكانية التعايش السلمي، كما جرى في بلادها، وكانت تجمع بين صداقة نجيب محفوظ، وإدوارد سعيد، وعاموس عوز، وربما لو امتدت حياتها لتشهد أحداث ما بعد طوفان الأقصى، أو لو كان أتيح لها التحرك بحرية داخل الأراضي الفلسطينية من دون وصاية الجانب الإسرائيلي، واحتيال عوز، مع الأخذ في الاعتبار أنها كانت في منتصف عقدها التاسع خلال تلك الزيارة، لتغير موقفها تمامًا.
لكن ما لم يتح لنادين جورديمر أتيح لمواطنها الأديب العالمي، جي. إم. كوتزي، الذي زار فلسطين عام 2016؛ للمشاركة في الدورة التاسعة لـ"احتفالية فلسطين للأدب ـ PalFest"، التي أسستها الروائية المصرية أهداف سويف عام 2008.
وخلال الاحتفالية، تنقل كوتزي ما بين القدس، وبيت لحم، والخليل، وحيفا، ونابلس، ثمّ رام الله، ليعلن بعدها أن أبارتهايد جنوب أفريقيا هو صورة مطابقة لأبارتهايد إسرائيل في القدس والضفة الغربية، بفارق أن الأول كان يقوم على العرق، أو الإثنية، بينما يرتكز الفصل القسري في القدس والضفة الغربية على الدين والإثنية.
في كلمته، التي ورد نصها ضمن مقال الناقد صبحي حديدي بجريدة "القدس العربي"، قال كوتزي إنه جاء إلى فلسطين لكي "يرى ويصغي ويتعلم"؛ وأنه، على امتداد أسبوع، "رأى وسمع وتعلّم الكثير"، وخرج بـ"انطباع راسخ حول شجاعة الشعب الفلسطيني ومرونته في ذلك الزمن الصعب من تاريخه".
وكان قد سبق كوتزي لزيارة رام الله عدد من كتاب نوبل الآخرين: وولي سوينكا، وساراماغو، اللذين زارا فلسطين للمساهمة في فك الحصار الثقافي عنها، بدعوةٍ من الشاعر الراحل محمود درويش، ووصلوا إلى الموقف نفسه تجاه إسرائيل، في زمانٍ غير بعيد، أخشى أن نترحم عليه الآن وسط عجزنا عن إيصال إمدادات الغذاء والدواء للمحاصرين بالجنون في غزة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.