}

سعد القرش مسافرًا للمستقبل: أي شعار يسلب الأدب روحه

عزة حسين 9 يونيو 2023
حوارات سعد القرش مسافرًا للمستقبل: أي شعار يسلب الأدب روحه
القرش: فشل ثورة 25 يناير أكثر مرارة من هزيمة1967
في ثلاثيته الروائية: "ليل أوزير"؛ "أول النهار"؛ "وشم وحيد"، اختار الكاتب المصري سعد القرش العودة بالزمن إلى الوراء، إلى أكثر من قرنين؛ منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة زمنية مفصلية في التاريخ السياسي المصري، حيث تم القضاء على حكم المماليك، تمهيدًا لصعود محمد علي، ومن ورائه أبنائه وحفدته، وما تخلل تلك الفترة من أحداثٍ جسام شغلت مساحاتٍ شاسعة في كتب التأريخ. أما التاريخ الاجتماعي للبشر العاديين، أبطال الحكايات الأكثر تشويقًا ودرامية، فقد شهد إهمالًا ملحوظًا في تلك الفترة، وهو ما اعتبره القرش منحةً لروايته، إذ كتب أحداثها بمخيلة أكثر تحررًا، تعتمد الخلق لا المحاكاة، فجاءت أحداث الرواية من فرط اتساقها الفني أقرب إلى سيرة اجتماعية لتلك الفترة، لكنها تتوسل الجمال والإبداع، لا التأريخ.
وفي روايته الأحدث "2067"، يعاود سعد القرش السفر عبر الزمن، ولكن هذه المرة إلى المستقبل، وتحديدًا إلى العام 2051، مستعيدًا أحداث ثورة 25 يناير 2011، التي غُيبت عمدًا، وتمت شيطنتها وتشويه رموزها، والتشويش على وقائعها، وذلك عبر قصة حب مبتورة يلتقي طرفاها في الوقت الخطأ، لكن يجمعهما بخلاف الحب كونهما من أبناء الثائرين، ممن يحملون ميراث الآباء، ويحلمون بفرصةٍ أخرى، متخففين من عقدة الذنب تجاه حلم لم يصنعوه، ولا أضاعوه، ولا تطاردهم مشاعر جلد الذات.
هذه الرواية هي المقاربة الثانية للكاتب لأحداث يناير بعد كتابه "الثورة الآن"، الصادر عام 2012، لكن ما بين كتابه الوثائقي وروايته الأحدث ليس فقط عشر سنوات، تبدلت خلالها وجوهٌ، وسقطت أقنعةٌ، وتغيرت مصائر ومسارات؛ لأنه خلال تلك السنوات استحالت ثورة يناير من حلمٍ جميلٍ إلى انتكاسةٍ وذكرى أليمة، أو على حد وصف الكاتب "جرح التأم على غير تطهير"، وهو ما يجعل أي كاتب يتردد في الاقتراب من هذه الفكرة؛ إذ "من يريد أن يقرأ" كتابًا عن انتكاسته؟... "الحالمون بالثورة يعانون الاكتئاب، أو السجن، والشامتون يسوؤهم ذكر الثورة إن لم تقترن بالتجريم"...
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الكاتب على نفسه، لكنها لم تصمد أمام إلحاح الرواية التي طاردته وحرمته "النوم". فكتبها غير مشغولٍ بسؤال التلقي. وبعد انتهائه من كتابتها، تصادف صدور الطبعة الثانية من كتاب ص. ر. مارتين "في تجربة الكتابة"، وضمنه مقال عن تجربة الكاتب الألماني إريش ماريا ريمارك التي وجد فيها القرش ما يدعوه لـ"الاطمئنان"؛ إذ كانت كل الظروف ضد نشر ريمارك لروايته المعنونة بـ"كل شيءٍ هادئ في الميدان الغربي"، التي تناولت الحرب العالمية الأولى بعد 10 سنوات على انتهائها:
حكى ريمارك لأحد الصحافيين عن الرواية، فنصحه بتمزيقها فورًا. وبعد موافقة دار النشر على طبع الرواية، لم يكن ريمارك متفائلًا: "من يريد اليوم أن يقرأ رواية تصف الجحيم الأرضي؟". كان الناشر يملك صحيفة "فوس"، التي بدأت في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1928 نشر الحلقة الأولى، وبعد الحلقة الثانية "بدأت برلين بأسرها تتحدث عنها... الأيدي تتلقف الجريدة، والجمهور في ذهول تام... ذهول في دار النشر الألمانية، وكان الناس ما يزالون يهتمون بقضية الحرب".
كانت رواية ريمارك عزاءً لجيل. هي بحسب كاتبها "مأساة الذين تحطموا من الحرب، حتى لو كانوا قد نجوا من قذائفها". وبالمثل، يرى سعد القرش أن روايته "2067" بمثابة "الوفاء للمعنى، والفرح بلحظة انتصار نادرة لحلمٍ مشروع بالحرية، آملًا أن تجيب الرواية عن سؤال قارئ سوف يصادفها عام 2067: ألا يستحق المهزوم الأسير بعضًا من الشفقة؟ ألا تجدر الرحمة بالعزيز المنكسر، ثورة 25 يناير 2011؟".
حول هذه الرواية، وموقعها ضمن المشروع الروائي المغاير لسعد القرش، كان هذا الحوار:



(*) هذه ثاني رواياتك التي يكون بطلها محاميًا. هل هو إلحاح فكرة العدالة؟
لعلها المصادفة. كان المحامي في "المايسترو" (دار العين 2019) حلًا لتسويغ ذهابه الموقت إلى دولة خليجية، بجواز سفر أميركي، في مهمة تتعلق بمهنته. وفي "2067" لبدء جسرٍ مع البطلة سونهام. ظننت المحاماة مهنة ستعمق علاقتهما بسرعة. والعدالة في تصوري مفهوم أكبر من قاعة محدودة يترافع فيها محامون أمام منصة يجلس عليها قضاة. لا أنظر إلى أية "مهنة" بقداسة، ولا أنسى أنني تعرضتُ لخياناتٍ من محامين أصدقاء بعضهم يمتهن الأدب. خبرتي مريرة، ولكن الروايتين اختارتا محاميين لا يدّعي أي منهما أنه منزّه عن الأخطاء.

(*) أوزير "ماكوندو" سعد القرش فارقتها في المايسترو، وعاودت الإشارة إليها في "2067".. هل موضوع الرواية هو ما شجعك على استدعاء المكان والشخصيات ذات الطابع الملحمي؟
لا يشغلني البحث عن مرجعية لمكان أو شخص حقق إنجازًا. أرفض الاستلاب والتعلق بالمركزية الحاكمة لمفاهيمنا عن أشياء، أو ممارسات، أو أنشطة. لماذا تكون مصر هوليوود الشرق، ومحمود المليجي أنطوني كوين مصر، ويوسف إدريس تشيخوف مصر، ونمنح جوائز أوسكار السينما المصرية والعربية. كانت "أوزير" اقتراحًا لاسم قرية محاها الفيضان ودفنها تحت الطمي. وليس لأوزير وجود، في حين توجد القرى والمدن المذكورة في "أول النهار"، وبالطبع في "ليل أوزير"، و"وشم وحيد".



فاجأني وجود "أوزير" في رواية "2067" في موقفين: رشيد المحامي ليس لديه حكاية. هو محام وكفى، ليس له كفاءة أبيه، ولا قوة أمه، ولا الثقافة التاريخية والأثرية لسونهام بحكم دراستها. ليس لدى رشيد حكاية كبيرة. وكان خائفًا فلجأ إلى حكاية عائلته، وجذورها في "أوزير". والموضع الثاني في الرواية جاء تلقائيا في شجاره مع زوجته، حين أخبرها بأن مقابر الأسرة في القاهرة إذا ضاقت به فإن للعائلة في أوزير مقابر.

(*) استوقفني تصريحك في إحدى المقابلات الصحافية بأن "هذا الجيل لا بد أن ينسف بالكامل"... هل كان موت آباء أغلب أبطال الرواية (رشيد، سونهام، لبنى) مقصودًا، وذا رمزية ما، كفكرة قتل الأب، أو التخلص من الجيل الذي أضاع الثورة؟
لا أتذكر متى قلت ذلك، ربما بعد تعثر 25 يناير. كنا ننتظر طيّ الصفحة بحاكميها ومعارضتها. أعطاب السلطة تصيب عدواها الضحايا. هذا الجيل يفتقد إلى البراءة اللازمة لنجاح الثورة. البراءة ضد مفهوم الغنيمة. مبارك وطبقته اعتبروا مصر غنيمة، وأخشى أن أقول إنه جرى ما يشبه "اغتنام الثورة"، وهو ما ورطنا في جولتين من الثورة المضادة، ولا نعرف المدى الزمني للخروج من المرحلة الأخيرة. وكان يغْنينا عن هذا المصير بعضٌ من التحلّي بالأخلاق الثورية، وإنكار الذات، ورهبنة تسمو بصاحبها إلى الزهد عن المكاسب، فليست الثورة وسيلة للشهرة، وحصد الأرباح. كان لافتًا قبل أيام من خلع حسني مبارك وصول البعض مصحوبًا بكاميرات تلفزيونية، وخروجه مختالًا بعد انطفاء الأضواء، وقد استُغل ميدان التحرير ديكورًا لتصريحات مدفوعة. وكان الاغتنام شاملًا، كلٌ حسب مهارته، فانتقل ضيوف الفضائيات إلى مقاعد المذيعين ومقدمي البرامج. وكان الاختبار قاسيًا وفاضحًا لنخبة أسكرها الشوق إلى احتلال موقع مبارك، وحلم أربعة منهم بمنصب الرئيس. الأربعة هم: أبو العز الحريري، وحمدين صباحي، والمحامي خالد علي، والقاضي هشام البسطويسي. أربعة ينتمون إلى اليسار بدرجات متفاوتة، وطمعوا فخسروا في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية 2012.
أما عن موت الآباء في الرواية فلم أنتبه إليه إلا من هذا السؤال. قد يكون المعنى راسخًا في اللاوعي، وخرج تلقائيًا، لكن هدى أم رشيد فاجأتني بقوتها.

(*) الطوفان في "أول النهار"، الحريق في ليل "أوزير"، الثورة في "2067"، خيارات شديدة الراديكالية والرومانتيكية للخلاص... كيف تستطيع مسايرة واقع أقل جرأة وإنصافًا في مساراته ومصائره من أحداث رواياتك؟
لا تتشابه النهايات والمسارات. في "أول النهار" فيضان كان يغرق سنويًا منازل ومساحات من الأرض في معظم القرى، خصوصًا في الدلتا. والفيضان في ثورته ظاهرة طبيعية، مثل الزلازل التي ربما تهدم قرى وتمحوها. ولا أميل إلى التفسير الخرافي، أو الديني الساذج، الذي يُرجع ذلك إلى غضب الله؛ لتطهيرهم من المعاصي، أو ابتلائهم، فما أكثر الكوارث في بنغلاديش مثلًا. كان اختفاء "أوزير" فرصة للحاج عمران ليؤسسها كما تمنى، وأظنه نجح. أما الحريق الذي قضى عليها في المشهد الأخير من "ليل أوزير" فهو سلوك بشري انتقامي. نشرت الرواية عام 2008، وفي 2011 سمعت سيف القذافي يحذر الشعب الثائر على أبيه العقيد "انسوا شيء اسمه بترول"، بمعنى لن تكون في ليبيا ثروة ولا دولة إذا انتصرت الثورة، كأنه يقول "عليّ وعلى أعداء أسرة القذافي". وفي "2067"، لا تحدث ثورة، ربما الحلم بها، وهذا طبيعي لأي ثورة تتعثر. لكن أسباب قيام هذه الثورة كامنة، في انتظار نمو الشرط التاريخي لانتصارها. الشرط التاريخي توفر بشدة في 28 يناير 2011. الآن، توجد أسباب الثورة، وأظن شرطها غير موجودة تمامًا.

(*) لا يستطيع قارئ رواياتك تجاهل مركزية المرأة والاحتفاء بالنساء، خاصة القويات صاحبات الحضور والقرار منهن. هل تحرص على خلق شخصية نسائية، أو أكثر بهذي الصفات، أم تكتب الشخصية نفسها وتفرض حضورها على الأحداث؟
مصر مجتمع أمومي. تبدأ رواية "2067" بالبحث عن تمثال "إيزيس ترضع حورس". إيزيس هي الأم والزوجة التي أعادت خلق زوجها الصريع، وحملت من روحه. وكان هذا الثالوث (إيزيس، أوزير، حورس) من الأساطير البشرية المبكرة، ولا أستبعد أن له أصلًا بشريًا واقعيًا في تاريخ مصر. وفي كتابه "مصر أصل الشجرة"، قال الباحث الكندي سيمسون نايوفتس إن هذا ثالوث (إيزيس، أوزير، حورس) هو النسخة الأصلية التي يشبهها الثالوث المسيحي. أيقونة السيدة مريم ترضع المسيح تكاد تتطابق مع تمثال إيزيس ترضع حورس.
المرأة عمود الخيمة في مصر، ولا يتأسس بيت على عمود ضعيف، أو أقل ثقة. ولا أتصور كاتبًا يتعمد خلق شخصية قوية، لكنه إذا نجح في ذلك يكون قد اقترب من الأصل الأكثر قوة من صوره في الفنون المصورة والكتابية. ولا تختلف قوة المرأة غير المتعلمة عن غيرها ممن وجدن فرصًا أفضل في تحصيل المعرفة.



غير المتعلمة لديها ذكاء فطري وقدرة على تدبير العيش، وتمثلها الحاجة سعادة في رواية "باب السفينة"، وأم لبنى في رواية "2067"، وحليمة التي تربي طفلًا أصغر منها بسنوات قليلة وتصير أمه وأم القرية كلها في "أول النهار". ولعل هدى في "2067" هي التي تحقق لها الذكاء والتعلم والثقة، حتى إنها تبدو أقوى من زوجها وابنهما رشيد.

(*) هل لذلك كنت شديد التسامح مع سونهام القوية ذات الشخصية البراغماتية، على العكس من سهير؛ رغم أن الاثنتين ليستا مثاليتين، بل ربما كانت سهير في نظر كثيرين أجدر بالتسامح ومحاولة الاحتواء من سونهام بنزقها وانتهازيتها؟
الكاتب آخر من يستطيع، أو يحق له، تأويل روايته. ولا علاقة لي بالتسامح مع هذه، أو التحامل على تلك. ذلك هو الراوي، وتلك روايته، عن محام لا يستطيع حسم حياته الشخصية، ويتفق في شعوره نحو سهير مع أمه التي لا تتعاطف معها ولا تكرهها. النفور بين سهير وهدى متبادل. وعلى الرغم من انجذاب رشيد إلى شخصية سونهام ـ ربما لأنها تستعصي على غيره، وأحس في هذا بنشوة الفوز والاصطفاء ـ فإنه لا يغفل أنها "عقل خالص" يضعف أحيانًا فيميل إلى العاطفة، ثم تنتبه فتعود إلى طبيعتها العملية، حتى في ذرى حالات يفترض أن يغيب فيها العقل. لا أفسر ولا أسوّغ، وإنما أنظر إلى شخصيات الرواية كقارئ بشيء من موضوعية القارئ لا المؤلف.

(*) ألم تخش التبشير بالثورة واستعادة الأمل عبر مشروع سونهام بصورتها المشوبة بالطبقية والاستغلال؟ ألا يمكن لذلك أن يضر بالفكرة؟ أو يعيد الجدل حول فكرة احتكار النخبة للثورة؟
هل تبشر الرواية حقًا بثورة؟ ربما تستعيد ثورة يجري الآن شيطنتها، وتجريم المشاركين فيها. استعادة لترميم الذاكرة. لديّ أمل أن يقول قارئ للرواية، وقد شارك في الثورة: "هذا أنا"، أو يقول ابنه الذي سمع قصة الثورة من أبويه: "هذا أبي، هذه أمي". في المشهد الأخير حوار بين رشيد وصديقه سامي الفنان التشكيلي عن مسوّغات الثورة الآن، ولكن هذا لا يكفي، لا بد من الظرف العمومي والشرط التاريخي لنجاح الثورة، ويأمل أن يكون ذلك في سنة 2067 بعد ستة عشر عامًا من وقائع الرواية التي تجري عام 2051.
أما عن النخبة، فلا تزال بائسة؛ سونهام إنسانية في الحب، طبقية في الزواج، ورثت عقلية أسلافها. ولا بد للثورة من نخبة، رموز مقنعة، هذا ما التفت إليه سعد زغلول فكتب لنفسه تاريخًا وامتدادًا، حين التقط أسرار روح الثورة الشعبية عام 1919. مثل هذا الذكاء لا يتمتع به محمد البرادعي، فكانت نهايته ونهاية الثورة.

فشل ثورة 25 يناير أكثر مرارة من هزيمة 1967
(*) التاريخ 2067 بعد مئة عام على النكسة... أليس مقبضًا قليلًا كموعدٍ للخلاص؟
كان لا بد أن تقع الهزيمة عام 1967 للإفاقة، وإعادة النظر في مسار ثورة خلط قادتها بين الشخصي العاطفي والوطني. وقعت الكارثة فبدأ الإصلاح، وإعادة بناء الجيش على أيدي كفاءات عسكرية احترافية، وليس أصدقاء للزعيم. وأظن المشهد العام بعد فشل ثورة 25 يناير أكثر مرارةً من المشهد بعد هزيمة 1967. في الماضي، أفاق القادة، وأصر الشعب على الحرب. كان العدو واضحًا، وله اسم محدد، ولا يتلون بلون سجاجيد الأرضيات. ولم ترتفع الأسعار بشكل يذلّ النفوس كما انتهت إليه أحوال تجعل من الثورة ضرورة، مثل الكيّ الذي يكون آخر فرص العلاج.




(*) روايتك الجديدة مغامرة على مستويات عدة، أهمها جرأة السرد عن المستقبل... فهذا سياق يتصدى له غالبًا كتاب الخيال العلمي، مسلحين برحابة الفانتازيا... لكن التأريخ لواقع اجتماعي مستقبلي مربك إلى حد ما؛ خاصة أنه مستقبل بعيد نسبيًا، يفصله عن الآن عقود.
أي خيال علمي ونحن لم نبلغ عصر العلم! أغرقَنا عصرُ الاستهلاك، وأفرطنا في التحديث لا الحداثة. لم أكتب عن مستقبلٍ بعيد. أحداث الرواية تدور في بدايات عام 2051. وكان "2051" عنوانًا مقترحًا، ثم عدلت عنه. وهذا المستقبل قريب؛ يفصلنا 28 عامًا عن عام 2051. نحن غارقون في هذا المستقبل بالدرجة التي يستهلكنا الماضي. من يظن أن اثني عشر عامًا مرت على اندلاع الغضب الشعبي في بلادنا؟ انطفأ الحلم وسرقَـنا الزمنُ، وسوف يسرقنا فنفاجأ بأننا في زمن أحداث "2067". ولست وصيًا على جيل سيعيش تلك المرحلة، فالرواية متورطة في زمن سابق، بحكم خيبة الأمل في أحلام التغيير.
لكن 28 عامًا يمكن أن تحدث فيها قفزات علمية هائلة، ولهذا السبب تفاديت ذكر طبيعة أو أسماء وسائل التواصل، لم أذكر فيسبوك، أو تويتر، وغيرهما، ربما تصير تاريخًا. ذكرت البريد الإلكتروني كوسيلة مهملة لمراسلات لا تجذب انتباه أحد، مثلما يكتب الآن أحدهم رسالةً بالخط الديواني أو الثلث ويرسلها إلى صديقه في مدينة على بعد ساعتين بالقطار، وأقل من ثانية بالإيميل.

(*) اللغة في روايتك الأحدث تكاد تكون بنت الآن؛ ليست غريبة، أو هجينة، بشكل يوحي بأنها لغة عقود مقبلة... إلى أي مدى انشغلت بمسألة اللغة، وما نسبة ذلك مقارنة بانشغالك بالتأريخ؟
أقرأ طه حسين، والدكتور هيكل، ومصطفى عبد الرازق، وسلامة موسى، وأبو العلا عفيفي، والمازني، ويحيى حقي، فأشعر بأنها لغة القرن الحادي والعشرين. أما التأريخ فلا يشغلني. للتأريخ رجاله ومناهجه، وأنا أحكي قصة تدور في شهرين اثنين تقريبًا.

(*) لماذا أتبعت صدور روايتك بـ"ما يشبه البيان"؟ ألم تخش أن يتم تصنيف أو اتهام الرواية بأنها بيان... خاصة بعدما ذكرته عن علاقة الرواية بكتابك "الثورة الآن"؟
لم أتبعها ببيان ولا كلام. الرواية الآن منفصلة عني. والمقال طمأنةٌ لنفسي، حين وجدت تشابهًا مع الأحوال الألمانية التي كتب فيها إريش ماريا ريمارك روايته "كل شيء هادئ في الميدان الغربي". مقالي نوع من التحايل على المتربصين، يلهيهم بإحدى قصص الحب الفاشلة المرتبطة بالإنسان، قصص مستمرة، أيًا كان شكل العلاقة بين طرفي قصة حب تنجح، ثم تصطدم بعوائق اجتماعية، أو عقد نفسية. أريد إلهاءهم بحكاية حب، لعلهم يتعاطفون مع الضعف البشري، ولا يتعالون عليه، أو يلعنونه. حكاية الحب في "2067" تنطوي على كثير من التعقيد، فيها طرف جريء متصالح مع سلوكه، وآخر يتورط ولا يغادره الشعور بالذنب. هذا التناقض يجري على خلفية الفشل العام، وربما يكون الفشل الشخصي نتيجة للإحباط العمومي.

(*) كيف يمكن للمبدع أن ينجو من فخ إغراء الأيديولوجيا على حساب الفن؟ 
بأن يخلص للفن وحده. أي شعار يسلب الأدب روحه، وينفّر القارئ من القراءة، وإذا تحامل على نفسه وقرأ إلى النهاية ليعرف "ماذا" حدث؟ فسوف يخرج من الرواية وهو خالي الذهن من الدراما الإنسانية، ولا يتذكر شخصًا ولا موقفًا. والرواية ليست أفكارًا، ولا تعنى بالسياسة، وإنما بالدراما... أن تكون الشخصيات من لحم ودم، نابضة بالحياة وهي تحكي حكاية ينخرط فيها القارئ.

(*) من خلال تجربتك، كيف يمكن لكتاب الرواية الواقعية، أو المشغولين بالتأريخ الاجتماعي والسياسي، الموازنة بين الجمالي الفني والفكرة؟
المشغول بغير الإبداع سيتورط بالضرورة، وتغريه أمور تبعده عن روح الكتابة. وليس قارئ التاريخ، أو السياسة، مضطرًا لهذا كله، سيبحث عنه في كتب المتخصصين لا في خيال الأدباء...

(*) أخيرًا، فإن آخر ما يرغب المبدع في حصاده من الإبداع هو الضرر، ماديًا كان أو معنويًا... ألم يشغلك ذلك؟ خاصة والوضع الآن مغاير كثيرًا للظرف الذي نجح فيه كتاب "الثورة الآن" في الظهور عبر جهة نشر حكومية؟
الخوف من الضرر يمنع الكتابة من الأساس. وتوقع الضرر بعد الكتابة يخيف. كان الجو العام يتيح نشر "الثورة الآن" في هيئة حكومية عام 2012. والآن يتم تغييب كتب الثورة؛ لأنها تمس عصبًا عاريًا في أوصال السلطة. والرهان دائمًا على الخيال، على كتابة أبقى من إرهاب المشهد الموقت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.