"نكون بخير أو لا نكون"، ربما كان يتعيّن على شكسبير أن يكتبها على هذا النحو، بدل "نكون أو لا نكون"، نعيش أو نموت، فكلاهما سيّان عزيزي شكسبير. سنحتفل من اليوم بعيد ميلاد الموت، سأسمّيه عيد الموت. هل تعرف أنه مرّ عام على "8 أكتوبر" منذ أن بدأ يُقتل كل يوم قرابة مائة فلسطيني ويُصاب مئتان، كثيرٌ منهم سيمضون حياتهم بلا يدين أو قدمين. هل تعرف أن الذين كانوا ينادون بالحقوق الإنسانية عدّلوا على قائمة "حقوق الإنسان"، فصارت "حقوق الإنسان بلا العربي"؟!
يقول دوايت ماكدونالد، وهو فيلسوف وناقد أميركي، عام 1945، إنه "يجب الحذر ممن يحترمون القانون أكثر ممّن ينتهكونه"، وهكذا يحترم العالم قوانين الحقوق الإنسانية إلا فيما يخصّ العربي، فحين يقترب الأمر من العربي، يتبدّل شريط الفيلم، تتشوّش الصور، يصبح الجانب الأكثر فتكًا في تاريخ الإنسانية هو صاحب الحق بالقتل، توحّشه مبرّر حتى لو اشتمل ذلك على قتل أطفال ونساء وعجائز، فتوراته المجيدة لا تأمر إلا بالقتل.
منذ عام، والموت يحدث يوميًا في غزة... كأن الغزّاويين ينتظرون الموت، أو ينتظرهم، ثمة موعد غير منسّق وغير متّفق عليه مع الموت. في غزة، كانت هناك حياة، حياة عادية، لأطفال عاديين، يذهبون إلى المدرسة صباحًا ويلعبون في الحيّ عصرًا ويساعدون أمهاتهم مساء، ويتشاجرون مع أخواتهم ليلًا، ويحلمون بالذهاب إلى البحر، هي رحلتهم الوحيدة إلى الفرح... ومع فقرها، لكنها كانت حياة، ونصدّق الآن أنها لن تعود لهم، خصوصًا بعد أن خسر الآلاف من الأطفال أطرافهم. وكلما انتابت نزوة مرضية أحد الجنود، يقصف خيام النازحين، فيرى الغرب أطفالًا محروقين وإمّا يصمت أو يشجّع. يكتب الفيلسوف البولندي/ الإنكليزي زيغمونت باومان: "يا لها من جرائم بشعة! كيف استطاع أناس هم عاديون مثلي ومثلك أن يفعلوا ذلك؟ لا بدّ من أنهم كانوا، بشكل أو بآخر، أناسًا من نوع خاص، أناسًا مختلفين، أناسًا غيرنا. لا بدّ أنهم تملّصوا من سيرورة الأنسنة والعقلنة التي يُحدثها مجتمعنا المتحضّر المستنير. ولا بدّ من أنهم كانوا جماعة فاسدة تلقت تعاليم فاسدة، فنتجت من ذلك شخصيات مريضة ومشوّهة"... عبارات باومان تتحدّث عن الهولوكوست لكنها تعني الهولوكوست الذي حلّ بالفلسطينيين أكثر بكثير مما تعني ما حلّ باليهود، ثم يقول "إن أخطر الحقائق المفزعة التي كشفها الهولوكوست لا تتمثل في إمكانية أن يحدث لنا هذا بل في إمكانية أن نفعل نحن هذا"، وهو ما يفعله الحداثيون بالنسخة العصرية التكنولوجية من الهولوكوست حيث يُباد شعب بقنابل أنتجتها بلاد الحداثة والتنوير، في عمى أخلاقي انزلق فيه الغرب فأنتجوا إسرائيل ووجهها المتوحّش... وها هم أخيرًا يريدون تطبيق النسخة الغزّاوية من الهولوكوست على لبنان.
كلما انتابت نزوة مرضية أحد الجنود، يقصف خيام النازحين في غزة، فيرى الغرب أطفالًا محروقين، وإمّا يصمت أو يشجّع (Abdel Kareem Hana/ AP) |
تكوّنت إسرائيل تاريخيًا بفعل التوحّش، وهذا ما جاء في توراتهم:
في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول (15 - 3): "فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلًا، وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا". وفي الإصحاح الثالث والعشرين من سفر صموئيل الأول: 2، نقرأ: "فسأل داود من الرب قائلًا: أأذهب وأضرب هؤلاء الفلسطينيين؟ فقال الرب لداود: اذهب واضرب الفلسطينيين وخلّص عقيلة". وفي الإصحاح الثالث من سفر صموئيل الثاني: 18 "فالآن افعلوا، لأن الرب كلّم داود عبدي أخلّص شعبي من يد الفلسطينيين ومن أيدي جميع أعدائهم"، ونقرأ في سفر صموئيل الثاني مرارًا كيف أن "الرب" أمر داود بضرب الفلسطينيين، وكيف تمكّن داود من ذلك. ففي الأصحاح الثامن: 1 "وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذلّلهم، وأخذ داود زمام القصبة من يد الفلسطينيين".
وتوسّعت إسرائيل تاريخيًا فصارت إسرائيل الكبرى، بفعل التوحّش، وها هي تحلم باستعادة تلك الإسرائيل الكبرى من البوابة الجنوبية اللبنانية بأساليب نووية وسيبرانية وفوسفورية، وحضّرت جيدًا لذلك. تحكي "واشنطن بوست" عن عقد من الزمن في التحضير لعملية أجهزة البايجر وأجهزة النداء. تلقت المقاومة في لبنان خسارات كثيرة في الآونة الأخيرة، ولا تزال، لأن عملية التنصّت لا تزال سارية في مكان ما حيث يتم الكشف عن أمكنة الاجتماعات المغلقة. هذا في الوقت الذي تتداول وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات عن إسرائيليين يحلمون بلبنان منها قصة "ألون ولبنان"، من تأليف عاموس عزاريا، أحد أعضاء حركة "جلود الشمال"، والهدف هو أن يبدأ الإسرائيليون بالتفكير بالاستيطان في جنوب لبنان. أعضاء هذه الحركة يعتزمون اجتياح الأراضي اللبنانية التي سيحتلها الجيش الإسرائيلي في لبنان، وإقامة المستوطنات هناك. وفي حركة الاستيطان في جنوب لبنان، سيحاولون إقناع الإسرائيليين بأن خطتهم ضرورية للأمن. ومن الناحية العملية، فهي مهمة دينية تعتمد على عدد كبير من الاقتباسات التوراتية، وهم على استعداد للتضحية بمئات من الجنود لتحقيق رؤيتهم المتطرفة.
قصة "ألون ولبنان" تحكي عن الطفل "ألون" الذي كان يعيش في الجليل الأعلى وهو يتأمل مناظر جبال لبنان الخلابة كل يوم، ومرّت الأيام واندلعت الحرب واضطر ألون وعائلته للانتقال إلى مستوطنة بعيدة، وذات يوم قال لوالده بأنه يريد العودة إلى بيته لأنه يشتاق لرؤية جبال لبنان، يجيبه والده: "هذا خطير جدًا... لم نحصل على الأرض بعد!". قصة تعزّز فكرة التوسّع الإسرائيلي وزرعها في نفوس الأطفال وهو ما يندرج ضمن استراتيجية لتشويه نفسية الطفل اليهودي عبر تعزيز الكراهية للعربي منذ الطفولة وتعريف الوطنية بقتل أكبر عدد من العرب، وهو ما يؤكّد عليه أحد الصحافيين الإسرائيليين ويُدعى رامي حازوت، ففي مقال له تحت عنوان "طلاب يكتبون: ‘عزيزي الجندي، لديّ طلب: اقتل الكثير من العرب‘" كشف عن تلقّي جنود الاحتياط في طولكرم رسائل من طلاب المدارس الدينية الحكومية، من الصف السابع إلى العاشر، يشجّعونهم على القضاء على العرب: "بالنسبة لي، اقتل عشرة على الأقل. ضع صليبًا على القوانين ورشّها" و"لتحترق أسماء الفلسطينيين في الجحيم. اثقبهم بـ M-16 واقصفهم"، وكتب آخر: "أطلب منك طلبًا خاصًا: أن تقتل أكبر عدد ممكن من العرب". وفي رسالة أخرى، تمنّى أحد الطلاب للجندي أن ينجح في مهمّته، ثم أضاف: "أخبرني، ما مدى متعة إطلاق النار على عربي؟ اسمع شعار: العربي الصالح هو العربي الميت"، و"أتمنى أن يموت كل العرب"؛ هي نفسها التعاليم الفاسدة، التي أنتجت شخصيات مريضة ومشوّهة التي تحدّث عنها باومان.
قصة ألون ولبنان تختصر الحلم الإسرائيلي الذي تتكاثر أصواته في إسرائيل وتدعو للاستيطان في جنوب لبنان، حيث تنتشر على مواقع التواصل صور منازل وأراضٍ في الجنوب اللبناني مع عبارة "حان وقت الاستيطان في لبنان"، تؤجّجها حركات وجمعيات، وإحدى هذه الحركات هي "حركة الاستيطان في جنوب لبنان" التي تضع أرزة خضراء في وسط نجمة داود، وتدعو إلى استغلال هذه الحرب واحتلال لبنان على اعتبار أنه جزء من أرض إسرائيل الكبرى، ولا ننسى هنا ما ذكره المتحدّث باسم الحكومة الإسرائيلية مؤخرًا بأن "حدود إسرائيل هي شمال نهر الليطاني، وعلى حزب الله الانسحاب من الجنوب إلى ما خلف الليطاني".
بتاريخ 4-4-2024، أي قبل أشهر من اشتعال "الجبهة الشمالية" بتوصيفهم، كتب إلياهو بن أشير، وهو أحد مؤسّسي "حركة الاستيطان في جنوب لبنان"، تحت عنوان "مفتاح الأمن الحقيقي: الاستيطان في جنوب لبنان"، يقول:
"إسرائيل سوكول، صديقي وأحد أقاربي، سقط في معركة في غزة في اليوم الصعب الذي سقط فيه 24 مقاتلًا معًا. اختارت العائلة أن تنقش على شاهد قبره في كرني شومرون الجملة القصيرة التالية: "رأيتكِ، غزة، في ظل أرز لبنان". كلمات قليلة لكنها ذات وزن كبير.
رأى إسرائيل سوكول هذه الحرب بوضوح. لم تكن بالنسبة له حربًا "ضد الإرهاب" أو "من أجل الوطن". كانت حربًا من أجل أرض إسرائيل ومن أجل قلبها: جبل الهيكل. أطلق العدو على الحرب اسم "طوفان الأقصى": حرب تبريرها بالنسبة لهم هو "تحرير" جبل الهيكل "المحتل" بأيدينا، كما كان إسرائيل سوكول يعرف تمامًا عمّا كان يقاتل: كان يقاتل من أجل استعادة مناطق أرض إسرائيل إلى أبنائها الحقيقيين، ومن أجل بناء الهيكل في قلبها.
أرض إسرائيل لا تتوقف عن كونها أرض إسرائيل إذا قررت الدولة الانسحاب منها. كما أنها لا تتوقف عن كونها أرض إسرائيل عندما ننساها. على العكس تمامًا! الأرض تطاردنا بقدر ما نحاول الهروب منها. هذا ما يحدث في غزة، وهذا ما يحدث منذ عقود في مكان شغف إسرائيل: لبنان. ما تحاول دولة إسرائيل أن تنساه كل يوم، عرفه إسرائيل سوكول دائمًا: النصر هو انتزاع الأراضي من العدو. هي أرض الوطن: سواء في غزة أو في لبنان أو في جبل الهيكل.
هناك قانون في التاريخ الإسرائيلي الحديث: كل مكان تنسحب منه إسرائيل يصبح دولة معادية من النوع الأكثر وحشية. وهذا صحيح في غزة، وهذا صحيح في لبنان. لقد انسحبنا من غزة حتى لا نرى سكان غزة مرة أخرى، وفي النهاية التقينا بهم وجهًا لوجه في عسقلان. لقد انسحبنا من لبنان لكي لا نرى حزب الله مرة أخرى، ولم ينقذنا إلا الله.
من المحاولات المتعثّرة التي قامت بها دولة إسرائيل منذ السبعينيات لإنشاء جنوب لبنان كمحمية إسرائيلية تحت قيادة مسيحية وحماية إسرائيلية، وصلنا اليوم إلى واقع حيث يقف على عتبة بابنا إلى الشمال جيش إيراني محصّن، مسلّح بما يزيد عن مائة ألف صاروخ وينتظرون بيقظة الفرصة لتجريدنا من جلودنا.
وما هو "جنوب لبنان" في الواقع؟ إنه ببساطة شمال الجليل. والحدود الطبيعية الواضحة بين إسرائيل وجبال لبنان التي تمر عبر نهر الليطاني - أكبر أنهار لبنان- الذي قال عنه موسى: "أرض العيون والهاوي تجرى في الوادي والجبل". إن حدودنا الحالية مع "دولة لبنان" - الدولة التي لا وجود لها ولا وظيفة في الحقيقة- هي نتيجة مساومة فرنسية ومحاولة توسيع أراضي محميّتهم المسيحية على حساب الانتداب البريطاني.
عند النظر إلى الحدود، لا يوجد فرق بين راميا اللبنانية وشتولا الإسرائيلية، ولا يوجد فرق بين يارون اللبنانية وكيبوتس يارون الإسرائيلي. الحدود الإسرائيلية الحالية مصطنعة تمامًا مثل الجدار الذي أقامته إسرائيل على طولها في السنوات الأخيرة. لا يوجد شيء مقدّس في اتفاقيات سايكس بيكو التي أنشأت هذه الحدود، ولا يوجد شيء قابل للدفاع في حدود لا تأخذ في الاعتبار حتى الجبال والوديان - مجرّد خط على الخريطة.
لقد أدركت إسرائيل مرات عديدة أنه لا خيار أمامها سوى غزو لبنان من أجل ضمان أمنها، في عملية حيرام، في حرب الاستقلال (1948)، في عملية الليطاني قبل حوالي 50 عامًا، وبالطبع في حرب لبنان الأولى عندما بقينا في جنوب لبنان لمدة 20 عامًا متتالية. طوال سنوات وجود الشريط الأمني، كانت الحاجة الأمنية إليه واضحة للإسرائيليين. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تراجعنا في النهاية؟ لماذا لم نتمكن من الصمود ودفع الثمن؟ لقد انسحبنا لأننا لم نستقرّ. لقد انسحبنا لأننا لم نتعامل مع لبنان على أنه أرض إسرائيل ووطننا. ولو أننا استوطنّا أرض جنوب لبنان مسبقًا، لما أقمنا حينها شريطًا أمنيًا لا يمكن الدفاع عنه، ولما وقفنا على شفا حرب وجود مع الدولة الشيعية في جنوب لبنان اليوم.
هذه المرة، يجب أن نصل إلى لبنان بفهم ورؤية واضحة: السيطرة الإسرائيلية الحقيقية على كامل منطقة جنوب الليطاني، والتي تشمل استيطانًا يهوديًا مدنيًا، هي المفتاح لضمان أن تضحية الجنود الذين سيهاجمون الجبال اللبنانية لن تكون عبثًا. مثل هذه السيطرة الإسرائيلية هي المفتاح للأمن الحقيقي الذي سيأتي من النصر الحقيقي.
حلم إسرائيل سوكول لسنوات عديدة هو وجود مستوطنة إسرائيلية في جبال لبنان يكون هو أحد مؤسّسيها. كان يعلم أن هذا سيحدث، كما كان يعلم أن الهيكل في جبل الهيكل سيُبنى. حتى عندما ذهب للقتال مع العدوّ الغزّاوي ليعيد قطاع غزة، كان يعلم أن الحرب في الجنوب (غزة) كانت مجرّد مقدّمة للحرب الكبرى في الشمال: كان يرى حرب غزة في ظل حرب لبنان القادمة، وكلتيهما في ظل جبل الهيكل.
يجب أن يكون لبنان لإسرائيل الدولة ولشعب إسرائيل، وكما تنبأ النبي إشعياء: "مجد لبنان سيأتي إليك - السرو، الصنوبر والشربين معًا -ليزيّنوا مكانَ مقدسي، وأمجّد موضع قدمي".
***
إن فكرة أن جنوب لبنان حتى نهر الليطاني هو جزء من أرض إسرائيل هي فكرة تنتمي إلى الأطراف الإسرائيلية المتطرّفة وإلى الصهيونية الدينية. لكن هذه الأطراف المتطرّفة هي من أعضاء الكنيست وهم قلب الحكومة الحالية. فقد تغيّر الوضع عمّا كان قبل عام 2000، يوم كان إيهود باراك رئيسًا للحكومة وكانت حركة "الأمهات الأربع" (نسبة إلى أمهات لجنود إسرائيليين دعين للانسحاب من لبنان) التي وعدها باراك بالانسحاب من لبنان بعد الخسائر المتتالية في الجنود بفعل استهدافات المقاومة، وتصريحات إسرائيلية عن جدوى البقاء في لبنان.
هكذا إذًا نفهم أن لبنان هو الحلم الثاني للصهيونية المتطرّفة، بعد فلسطين الكاملة التاريخية مع الضفة الغربية وغزة؛ حلم حسب منشورات حركات الاستيطان في لبنان سيطاول لاحقًا سورية حتى تركيا، وأقسامًا من العراق ومصر والأردن، والسعودية في استعادة لـ"بساتين خيبر" كما يرسمونها في خرائطهم وتطالب حركات إسرائيلية أخرى باستعادتها والتعويض لهم عنها.
لكن، إذا نجح الإسرائيلي في دخول لبنان والبقاء فيه، فهل سنشهد بعد سنوات، مع جيل يُسقى الدم بدل الحليب، وبدعم غربي فاحش، أن تمتد إسرائيل لتشمل البلاد العربية، خاصة عند حدودها الجنوبية، طوعًا أو كرهًا؟!
إحالات:
الحداثة والهولوكست (2019). زيغمونت باومان. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
https://www.ynet.co.il/articles/1,7340,L-1877130,00.html
https://headstart.co.il/project/78788