في بداية الأمر، عُرض الفيلم في الجمعية الوطنية الفرنسية أمام نواب يعدّون على الأصابع. عَكَس الفيلم، الذي تناول هجمات السابع من أكتوبر، وحشية الجنود الإسرائيليين؛ والذين شاهدوه بدوا متأثرين للتأكد من أن "وحشية" مقاومي حركة حماس ليست كما يُقال. أتحدث عن فيلم "غزة بعد السابع من أكتوبر" الذي أعدّه الصحافي إيمريك كارون معتمّدًا على صور الإبادة التي ما زالت ترتكب في غزة ورفح والضفة الغربية.
الصحافي الذي يعد من أنصار حزب "فرنسا الأبية"، والذي راح ضحية مكارثية قناة "سي نيوز" (فوكس نيوز فرنسا) التي تعترف فقط بإبادة واحدة حقيقية تتمثل في إبادة اليهود، ما زال يتجرّع حصته من التنكيل الإعلامي أكثر من الآخرين شأنه شأن كل من يعترف بإبادة غزة بدون معاداة السامية حتما كما يريد الإعلام الإسرائيلي إيهامنا.
عرض يتيم في المدينة الوردية
عاد مسلسل التهجّم على المدافعين عن فلسطين، والتنديد بالإبادة التي يتعرض لها شعبها على مرأى ومسمع غربيين وعرب لم تعد أشلاء ضحاياها تعنيهم، بمناسبة برمجة فيلم "غزة بعد السابع من أكتوبر" في قاعة "أتوبيا" لعرضه يوم السابع والعشرين من الشهر الجاري 2024 بمدينة تولوز الواقعة جنوب غربي فرنسا. الضجة التي تناولتها صحيفة "لا ديباش" يوم الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي في المدينة الجميلة التي خلدّها المغني الراحل الكبير كلود نوغارو، وترأس بلديتها الصحافي الراحل دومينيك بوديس، ما زالت مسرح تهديد يقوده جان، أحد الهواة السينمائيين المتعوّدين على مشاهدة الأفلام المبرمجة في القاعة الفرنسية المذكورة.
جان العازم على ملاحقة مسؤوليها بدعوى نشر الكراهية بعرض فيلم "غزة بعد السابع من أكتوبر"، والغيور على السلام الاجتماعي والوئام الإنساني كما يبدو من خلال تصريحاته، يؤمن أن "برمجة الفيلم يزيد في صبّ الزيت على النار، عوض تهدئة الوضع المشتعل"، وفي "شحن المشاعر، ونقل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى فرنسا".
لم يتوقف جان عند هذا الحدّ من التنديد، وراح بعيدًا بوضعه ما أسماها بجرائم حرب وليس إبادة بإضافته قائلًا في الصحيفة الفرنسية المذكورة: "إن صور الفيلم هي صور جرائم حرب دون شك، لكن عرض ذلك فقط بدون التحدّث عن جذور الصراع (ويقصد هجمات السابع من أكتوبر وليس احتلال فلسطين منذ عام 1948)، وذكر اسم صاحبها النائب في حزب "فرنسا الأبية" المعادي للسامية، لا يمكن إلا أن يزيد من تنمية الأحقاد في الوقت الذي تتزايد فيه الإعتداءات ضد اليهود في فرنسا".
أعدّ الفيلم الصحافي إيمريك كارون معتمّدًا على صور الإبادة التي ما زالت ترتكب في غزة ورفح والضفة الغربية |
ليست صور حماس
الفيلم الذي شاهدته - رغم بشاعة صوره التي لا تطاق إنسانيًا ـ علمًا أنني شاهدت صوره بانتظام منذ انطلاق الإبادة على قناة "الجزيرة"، عرضته الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) يوم التاسع عشر من أيار/ مايو الماضي، ووقتها، لم يتجاوز عدد نواب الشعب 17 ممثلًا من مجموع 577 نائبًا. الفيلم الذي تم تركيبه فنيًا بشكل مهني لافت بعيدًا عن وطأة الأيديولوجيا التي تعكس موقف صاحبه من إبادة غزة، يعكس بصدق الوحشية المنسوبة إسرائيليًا لحماس، وهو الجنون الذي أصاب "الجيش الأكثر أخلاقية" في العالم، وأدّى إلى حرق وتقطيع وتمزيق أجساد أطفال ونساء وشيوخ وكهول بأسلحة أميركية وأوروبية وألمانية بوجه خاص، حسب موقع "سيني موتان" الفرنسي. ردًّا على اتهام السلطات الإسرائيلية، جاء في الموقع نفسه "أن صور الفيلم قد وصلته من صحافيين كثر وليس من حماس، ومن بينهم معتز عزايزة الذي يعيش حاليًا في الخارج، ونال جائزة الحرية التي تمنحها منطقة نورماندي الواقعة شمال فرنسا والمعهد الدولي لحقوق الإنسان والسلام" (صحيفة "لوموند"، عدد السابع عشر من يونيو/ حزيران الماضي).
وحشية لا تبرر
إن مشاهد الفيلم، وحتى إذا كان من غير المحللين النفسانيين، يتأكد بسهولة من درجة الوحشية المرضية التي أصابت الجيش الإسرائيلي، وهي الوحشية التي تسيء إلى ذاكرة ضحايا المحرقة التي تعرّض لها اليهود أنفسهم على أيدي الجيش النازي ـ كما جاء في موقع "سيني موتان". وحشية مقصودة ومتعمّدة ومخطّطة بشكل مدروس ومحبوك لا يقبل أدنى تشكيك، وهي الوحشية التي ندّدّ بها مؤخرًا دومينيك دو فيلبان، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، الديغولي المعزول وغير اليساري مثل اليساريين الكثر الذين ما زالوا يبّررون همجية الجيش الإسرائيلي باسم الانتقام من هجمات حماس الإرهابية. جان لوييه بورلونج، النائب اليميني الوسطي وغير اليساري أيضًا، أكّد في تصريح نادر وجريء عقب هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر "أنه لا يمكن تبريرها في أي حال من الأحوال، لكنها الهجمات التي يمكن إيجاد جذورها في سياق الظلم التاريخي الذي ما زال يتعرّض له الشعب الفلسطيني"، وهو الرأي الذي زكّاه روني برومان، الناشط الإنساني اليساري الشهير والرئيس السابق لمنظمة "أطباء بلا حدود" في حديث مثير لـ"ضفة ثالثة" ندّد فيه بالموقف المخزي لمعظم المثقفين الفرنسيين من إبادة غزة.
برومان نفسه قال عن فيلم "غزة بعد السابع من أكتوبر": "إن هذا الفيلم ساحق، ومرعب، وها هي صور الحرب التي قيل إنها شنّت ضد حماس. هذا الرعب الوحشي، يجب أن يراه كل الناس كما حدث، ومن المفيد جدًا أن يشاهد على أوسع نطاق ممكن يشمل إسرائيل".
يجدر بالذكر أن الفيلم الذي قدّم عن هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في الجمعية الوطنية قد غصّت به قاعتها، واحتفت به الصحافة الفرنسية خلافًا لما حدث مع فيلم "غزة بعد السابع من أكتوبر" لإيمريك كارون المنبوذ إعلاميًا، والمتهم بمعاداة السامية مثله مثل جان لوك ميلانشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية". في حديث لقناة "بي إم تي في" قال كارون متحدثًا من مقر الجمعية الوطنية ردًا على سؤال يتعلق بغياب معظم ممثلي الشعب الفرنسي بقوله: "من الطبيعي أن لا يحضر ممثلون أغلبهم لا يعترفون بإبادة غزة". أما عن غياب العدد الكافي من ممثلي الحزب الذي ينتمي إليه، فقال الصحافي القدير لزميله المعروف في القناة المذكورة: "كنت أتمنى حضورهم بعدد أقوى. الفيلم موجّه للرأي العام العالمي والفرنسي وليس إليهم"، و"عدم حضورهم بالعدد المنتظر يتناقض مع موقفهم الواضح، والمنّدّد بإبادة غزة بدون تردّد كما تعلمون".