}

الحرب على غزة والأحزاب بأوروبا: فرص اليمين وارتباك اليسار(2-3)

هنا/الآن الحرب على غزة والأحزاب بأوروبا: فرص اليمين وارتباك اليسار(2-3)
(غزة، 19/1/2024 Getty)

تستمر الحرب على غزة بإثارة توترات إقليمية ودولية، حتى التعاطف أثار مخاوف من انتشار أفكار متطرفة معادية للسامية، وأخرى داعمة للإسلاموفوبيا، ويوفر تواصل الحرب وطول مدتها فرصًا لليمين الأوروبي المتطرف، لتأجيج الأوضاع الداخلية في أوروبا مع اقتراب موعد انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران/ يونيو 2024، عبر انتقاده التحولات في موقف الاتحاد الأوروبي باتجاه الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار أو حتى لعب دور الوسيط بين إسرائيل وحماس للتوصل إلى هدنة. عوامل كثيرة تعيق توازن موقف الاتحاد الأوروبي بشأن الحدث الراهن. في المقابل، أصبحت الحكومات الأوروبية الداعمة لإسرائيل موضع تشكيك ومحاسبة من قبل قوى سياسية وشعبية محلية، اتهمتها بمصادرة الحقوق الأساسية لمواطنيها لقاء موقف صارم داعم لحرب إسرائيل على ما تسميه "الإرهاب". لم تتمكن عديد من حكومات أوروبية تجاهل ذلك، حتى الحكومة البريطانية التي أظهرت انحيازًا سافرًا لإسرائيل، واضطر رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى إقالة وزيرة داخليته سويلا برافرمان، في سياق تعديل وزاري، بعد اتهامات منها للشرطة البريطانية بالتساهل مع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، التي وصفتها بـ "مسيرات كراهية داعمة للإرهاب"، كما وصفت المتظاهرين المناصرين لفلسطين بأنهم "مروّجو كراهية"، ومقارنتها للمسيرات الداعمة لفلسطين في لندن بمسيرات "طائفية" شهدتها أيرلندا الشمالية أواخر القرن العشرين في أوج صراعٍ قومي عُرف بصراع "المشاكل".

بريطانيا: محافظون في ثوب تقدمي

وداخل حزب العمال البريطاني احتدمت المعركة الداخلية، خاصة بعد الانحياز الجارف لإسرائيل الذي انتهجه كير ستارمر وقيادته، فيما بدا أنه استعادة لموقف عمالي قديم من إسرائيل. الأكاديمي والمستشار الإعلامي نواف التميمي يشير إلى أن علاقة الحزب بإسرائيل "كانت مبنية على الإعجاب بـ(ديمقراطيتها) الاجتماعية، وبحركة (الكيبوتس)، وبالحركة النقابية (لهستدروت)، لكنه إعجاب تحول لاحقًا إلى شيء من الاحتجاج والرفض لسياسات إسرائيل مع اندلاع حرب عام 1967، وما تزامن معها من صعود الحركات الشعبية الداعية للمساواة، والمناهِضة للإمبريالية في أوروبا".

يبين التميمي أن "الانعطافة الكبرى في علاقة حزب العمال بإسرائيل كانت بفوز الزعيم اليساري جيرمي كوربين بقيادة الحزب في عام 2015، وهو الرجل المعروف بمواقفه المؤيدة للحقوق الفلسطينية وانتقاداته الصريحة والجريئة لسياسات إسرائيل العدوانية والعنصرية. ولم تمر سنوات كوربين في قيادة العمال بهدوء، بل كانت عاصفة بفعل حملات التشويه والتحريض والابتزاز الشخصي التي تعرض لها من قبل منظمات اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، وقبل ذلك، بدأ هجوم منظمات اللوبي الصهيوني على حزب العمال في عام 2014، بعد تصويت كتلة الحزب في مجلس العموم البريطاني لصالح اعتراف غير ملزم بالدولة الفلسطينية".

 نواف التميمي: "الانعطافة الكبرى في علاقة حزب العمال بإسرائيل كانت بفوز الزعيم اليساري جيرمي كوربين بقيادة الحزب في عام 2015، وهو الرجل المعروف بمواقفه المؤيدة للحقوق الفلسطينية وانتقاداته الصريحة والجريئة لسياسات إسرائيل العدوانية والعنصرية" (Getty, 3/2/2024)


مع الإطاحة بكوربين وفوز ستارمر في عام 2020‏، ظنّ ستارمر واللوبي الإسرائيلي داخل الحزب، كما يضيف التميمي، أن "عملية تطهير العمال من إرث كوربين ورجالاته تمت بنجاح مع اتجاه القيادة الجديدة للحزب نحو التأييد الكامل لسياسات إسرائيل، وتجلى ذلك بالمواقف التي أعلنها ستارمر مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وقوله على سبيل المثال لا الحصر، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي: إن لإسرائيل الحق في معاقبة سكان غزة بشكل جماعي من خلال حجب الكهرباء والمياه عن غزة".

ورغم تراجع ستارمر لاحقًا عن هذا التصريح، بقي متهمًا من شخصيات بارزة في الحزب بالدعم المفرط لإسرائيل. بينما دعم كل من زعيم حزب العمال في أسكتلندا أنس سروار، وعمدة لندن صادق خان، دعوات وقف إطلاق النار، الأمر الذي عمق الانقسام ووضع ستارمر تحت ضغوط متزايدة لفعل نفس الأمر. العشرات من النواب عن الحزب، أكدوا لوسائل إعلام بريطانية أنهم عقدوا اجتماعات صعبة للغاية مع الناخبين الغاضبين خاصة من المسلمين، ومع كوادر حزبية ترى أن إسرائيل انتهكت القانون الدولي في ردها على حماس.

بالنسبة لنواف التميمي، فإن موقف ستارمر "أعاد تحريك عواصف الاضطراب والانشقاق لصفوف الحزب خاصة مع استقالة عدد من نواب الحزب في البرلمان، وفي المجالس المحلية، وتحدي 56 نائبًا أوامر الحزب، فصوتوا لصالح اقتراح الحزب الوطني الأسكتلندي في مجلس العموم الذي يدعو صراحة إلى وقف إطلاق النار. وتشير استطلاعات الرأي المستقلة أو التي أجراها الحزب نفسه الى احتمال خسارة الحزب للكثير من المقاعد والدوائر الانتخابية بسبب موقفه من العدوان على غزة، لا سيما وأن البريطانيين المسلمين أو المنحدرين من إثنيات عربية وإسلامية وأفريقية، يشكلون نسبة واسعة من القاعدة الانتخابية للحزب. بل تشير بعض المعطيات إلى إمكانية خسارة الحزب لنحو مليوني صوت من المسلمين مع احتمال خسارات فادحة في المناطق الغنية ذات الأغلبية البيضاء المتضامنة مع القضية الفلسطينية".

يضيف التميمي، أن "ما زاد الأمور تعقيدًا بالنسبة لحزب العمال، هو ظهور حزب المحافظين بمظهر أكثر تقدمية من حزب العمال فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لا سيما مع تولي ديفيد كاميرون حقيبة الخارجية وشروعه في حراك سياسي مكوكي لوقف الحرب ودعوته الصريحة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما يعني أن يكسب المحافظون ناخبين سيخسرهم العمال".

"مسؤولية ألمانية تاريخية"!

لفهم موقف اليسار الأوروبي من إسرائيل وحربها على غزة، والتباينات في مواقفه، يميز الكاتب الفلسطيني المقيم في ألمانيا، سامي حسن، بين "يسار راديكالي، ما زال يتحدث عن صراع الطبقات والقضاء على الرأسمالية، ومثاله أحزاب الأممية الرابعة (التروتسكيون)، ويسار يمكن وصفه بـ(إصلاحي) لا يعارض الرأسمالية ولا السياسات الليبرالية، كما هي حال معظم الأحزاب اليسارية الكبيرة كحزب العمال في بريطانيا والحزب الاشتراكي في فرنسا والحزب الديمقراطي الاجتماعي في ألمانيا".

يقول حسن: "لعل ما يميز اليسار الراديكالي عن غيره، هو ربطه بين ما حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وبين سياسات إسرائيل العدوانية والعنصرية. فجذر المشكلة كما يراها، تكمن في الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم المشروعة. أما اليسار (الإصلاحي) فقد أعلن منذ البداية انحيازه الأعمى لإسرائيل حاله حال أحزاب اليمين. بالنسبة لألمانيا يلاحظ أن التروتسكيين ومعهم بعض المجموعات اليسارية، لعبوا وما زالوا دورًا مهما في التظاهرات التضامنية مع غزة".

أظهرت ألمانيا بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر دعمًا مطلقًا لإسرائيل مدفوعة بما قال عنه المستشار الألماني أولاف شولتز أنه "مسؤولية تاريخية لحماية إسرائيل"، ورفضت بداية على لسان وزيرة خارجيتها أي وقف لإطلاق النار بحجة أن "الحرب على الإرهاب ضرورية"، وأن "تل أبيب لا تزال تتعرض لإطلاق الصواريخ". لم يكن الانحياز لإسرائيل لافتًا، بل كذلك تشديد الخناق على أي تصريح أو خطوة عملية من شأنها دعم الفلسطينيين، وتقليص المساعدات الألمانية لهم إلى ما دون الحد الأدنى، وآخرها وقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

لم يكن موقف الحزب اليميني المتطرف "البديل من أجل ألمانيا" الداعم لإسرائيل "مفاجئًا"، بل يراه الكاتب الفلسطيني سامي حسن "منسجمًا مع أهدافه وطموحاته" (Getty)


وفي مستوى الأحزاب السياسية الألمانية، لم يكن موقف الحزب اليميني المتطرف "البديل من أجل ألمانيا" الداعم لإسرائيل "مفاجئًا"، بل يراه حسن "منسجمًا مع أهدافه وطموحاته. فهذا الحزب يعرف جيدًا خصوصية موضوع إسرائيل، وحساسيته في ألمانيا. وبتأييده لإسرائيل ودفاعه عن عدوانها على غزة ينفي عن نفسه تهمة اللاسامية التي تلاحقه، وبالتالي يكسر أحد الحواجز التي تحول بينه وبين توسع نفوذه في المجتمع الألماني". ليس هذا وحسب "بل إنه يوجه هذه التهمة (معاداة السامية) إلى العرب والمسلمين الذين يتظاهرون ضد إسرائيل وممارساتها، وبالتالي يدعم مبررات دعواته إلى ترحيل العرب والمسلمين على اعتبار أنهم معادون للسامية، ويشكلون خطرًا على الإجماع الألماني".

يتابع حسن فيقول "إن ما يقال عن حزب البديل من أنه يحب إسرائيل ويكره اليهود، قد يكون صحيحًا إلى حد كبير. فهو حزب عنصري ووريث للنازية، وبالتالي فهو يرحب بخروج اليهود من ألمانيا، ولسان حاله يقول، كلما كانت إسرائيل قوية ومستقرة، كلما اجتذبت اليهود وشجعتهم على الهجرة إليها. لذلك لا بد من دعمها".  ولم يكن مستغربًا أن ينحاز كل من الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر لإسرائيل، لكن تماهي حزب اليسار مع موقف الحزبين السابقين ومع الأحزاب اليمينية، يثبت بحسب حسن "أنه يسار إصلاحي بامتياز، على خلاف نظيره حزب اليسار السويدي أو حزب بوديموس الإسباني. وإذ لا يتمتع اليسار الراديكالي في ألمانيا بشعبية وليس له نفوذ في المجتمع، فإن مواقفه من الحرب على غزة وتضامنه مع الفلسطينيين، قد تزيد من شعبيته في صفوف العرب والمسلمين، لكنها لن تؤدي، كما أظن، لتحوله إلى أحد الأحزاب الكبيرة والمؤثرة". أما اليسار "الإصلاحي"، فيرى حسن أنه "في أحسن أحواله، سيحافظ على وضعه وحجمه، ومن غير المستبعد أن تتراجع شعبيته، بسبب التحاقه باليمين، سواء فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، أو موقفه من الحرب على غزة".

توازنات صعبة لليسار الإسباني

في إسبانيا، تصاعد التضامن من الإدانة للحرب الإسرائيلية، إلى إعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أن حكومته الجديدة ستعمل من أجل اعتراف بدولة فلسطينية. لكنه مع ذلك اضطر إلى تخفيف الأضرار الناجمة عن تصريحات زعيمة حزب "بوديموس" اليساري الراديكالي، إيوني بيلارا، بأن الحملة العسكرية الإسرائيلية ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية"، ودعوتها لمحاكمة بنيامين نتنياهو، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. تنصلت الخارجية الإسبانية من تصريحات بيلارا، وأعاد سانشيز تشكيل حكومته الجديدة، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مستبعدًا حزب "بوديموس".

الباحث المغربي محمد أحمد بنيس يرى في موقف الاشتراكي العمالي الذي يتزعمه سانشيز، رغم تناغمه مع التوجه العام لأحزاب اليسار، "واقعية نسبية"، نظرًا "لموقعه داخل الحكومة ومؤسسات الدولة. فلم يخرج عن الخط العام للبيان الذي أصدره مجلس الاتحاد الأوروبي بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو بيان دان هجوم حماس ووصفه بالإرهابي، وطالب بحماية المدنيين وإقرار حل الدولتين وضمان حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضمن قواعد القانون الدولي الإنساني". لكن ذلك، برأي بنيس، "لم يمنع الحزب من التشديد على ضرورة الفصل بين إدانة حماس والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنته، فيما بدا إشارة إلى اختلافه مع طروحات حزب بوديموس، وهو ما تأكد عندما استبعد زعيمُه، بيدرو سانشيز، حزب بوديموس من تشكيلة الحكومة الجديدة".

يضيف بنيس: "وجد اليسار الإسباني نفسه أمام تحدي التوفيق بين إدانة الهجوم الذي سقط فيه ضحايا إسرائيليون، وإدانة منسوب العنف غير المسبوق الذي اتسم به رد الفعل الإسرائيلي، مع المطالبة بتطبيق حل الدولتين كخطوة ضرورية لإنهاء الصراع". أما موقف زعيمة حزب "بوديموس" اليساري، إيوني بيلارا، فكان "متقدمًا" في التعاطف مع الطرف الفلسطيني، حين "اعتبرت ما يحدث في غزة حرب إبادة جماعية تقودها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ودعت إلى محاكمة بنيامين نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية وقطعِ العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال".

 محمد أحمد بنيس: "موقف زعيمة حزب "بوديموس" اليساري الإسباني، إيوني بيلارا، كان "متقدمًا" في التعاطف مع الطرف الفلسطيني، حين "اعتبرت ما يحدث في غزة حرب إبادة جماعية تقودها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني" (Getty, 20/1/2024)


ويعتقد بنيس أن موقف الحزب اليساري الكاتالوني لا يبتعد "كثيرًا عن موقف بوديموس. فعلى الرغم من إدانته هجوم حماس، رأى في العدوان الإسرائيلي على غزة حرب إبادة جماعية، بالتوازي مع تشديده على عدم المساواة بين ما تقوم به إسرائيل وما تقوم به حماس". بينما بدا موقف حزب سومار "أقل راديكالية نسبيًا، إذ أعلن تضامنه مع ضحايا العنف من الجانبين، وطالب بإنهاء الفصل العنصري والاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق قرارات الأمم المتحدة"، في حين كانت أحزاب اليمين، كما يقول بنيس، "أكثر انحيازًا للسردية الإسرائيلية، فعبّر الحزب الشعبي عن دعمه الصريح لإسرائيل في مواجهة حركة حماس (الإرهابية). بل أكثر من ذلك، لم يتردد الناطق الرسمي باسمه بورْخا سيمبِر، في انتقاد ما أسماه التقارب الأيديولوجي لبعض حلفاء الحكومة في البرلمان مع حركة حماس. ما يسمح، إلى حد كبير، بموضعة الحزب الشعبي ضمن الخط العام لليمين الأوروبي؛ فقد كان لافتا، منذ بداية الأحداث، انشغاله بالبحث عن تناقضات مواقف خصومه داخل اليسار، ومن ذلك انتقادُ عدم إدانتهم، بشكل صريح، هجوم حماس أو محاولتهم تبريره، فضلًا عن انتقاده عدم وقوف الحكومة إلى جانب إسرائيل". وبالمثل، دان حزب "ثيودادانوس" هجوم حماس، ورفض المساواة بين منظمة ''إرهابية'' وحكومة "ديمقراطية تدافع عن أراضيها ومواطنيها".

ويتابع بنيس فيقول: "كان موقف حزب فوكس اليميني المتطرف، أكثر راديكالية في انحيازه لإسرائيل، فإضافة إلى أنه دان الهجوم (الإرهابي) لحماس، وأكد وقوفه إلى جانب إسرائيل، دان موقف الحكومة الإسبانية التي ادعى بأنها ’صفقت لوحوش حماس’، ومواقف سومار التي لم تُدن هجوم حماس"، ويخلص الباحث إلى أن هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم "وضع النخبَ والأحزابَ السياسية الإسبانية أمام أسئلة جديدة بشأن الصراع ومآلاته على المدى البعيد. فقد أربكها الهجوم ووجدت نفسها بحاجة إلى إعادة تركيب الوقائع وصياغة مواقفَ وفق منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية، مع الحرص على قدر معين من التوازن بالنظر لطبيعة الصراع وتعقيداته التاريخية والسياسية".

يوضح مالك ونوس أنه "خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، صنفت ميلوني في تغريدة لها العدوان كمجزرة أخرى بحق أطفال غزة... غير أن الحسابات تغيرت عند الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي، آخذة بعين الاعتبار نفوذ إسرائيل وتأثيرها على نتائج الانتخابات" (Getty)


"أصدقاء إسرائيل" والحسابات الانتخابية في إيطاليا

دافع السياسي والبرلماني الإيطالي بيتينو كراكسي، صديق ياسر عرفات الشخصي، عن حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة، وانخرط فرانكو فونتانا مناضلًا في صفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وندد الرئيس الإيطالي الأسبق ساندرو بيتريني بمجازر صبرا وشاتيلا بأقسى العبارات. كأنها بصمة وراثية تلك التي تدفع إيطاليا إلى تأييد القضية الفلسطينية. ورغم الانحياز الرسمي والإعلامي الكامل لصالح إسرائيل، كان بالإمكان تلمس الشرخ الذي أحدثته الحرب على غزة بين النخب والشعب في إيطاليا، إذ ارتفعت مبكرًا أعلام فلسطين في محيط الكولوسيوم الشهير في روما، وردد المتظاهرون "الحرية لفلسطين"، وكتبوا على يافطاتهم "أوقفوا الإبادة الجماعية".

يؤكد الكاتب السوري مالك ونوس أن القضية الفلسطينية تاريخيًا "حاضرة في الوجدان الشعبي الإيطالي أكثر من الدول الأوروبية الأخرى، بسبب قوة موقف الأحزاب اليسارية المتعاطف مع القضية والداعي لنصرة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودعوتها لحل النزاع سلميًا انطلاقًا من مبدأ حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كما يرجع حضورها إلى مواقف تعاطف فردية لعدد لا يستهان به من مناصري الأحزاب اليمينية التي تخالف في موقفها هذا موقف زعماء أحزابها"، ويشير إلى "أصدقاء فلسطين" الذين شهدتهم الساحة السياسية الإيطالية بعد حرب عام 1967، وإلى "أصدقاء إسرائيل" الذين باتت البلاد تعج اليوم بأصواتهم. إذ في مقابل مواقف اليسار التي تندرج ضمن "الموقف الأخلاقي والإنساني المعادي للحرب"، تجسد جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الحالية "نموذجًا للدور الهام الذي تلعبه المصالح الحزبية والسياسية في توجيه مواقف اليمين الإيطالي". وقد شكلت ميلوني حكومتها عقب فوز حزبها "إخوة إيطاليا" اليميني ذي النزعة الفاشية، بالانتخابات التشريعية عام 2022.

يوضح ونوس أنه "خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، صنفت ميلوني في تغريدة لها على منصة إكس العدوان كمجزرة أخرى بحق أطفال غزة... وأرفقت تغريدتها بوسم (دولتين لشعبين). غير أن الحسابات تغيرت عند الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي، آخذة بعين الاعتبار نفوذ إسرائيل وتأثيرها على نتائج الانتخابات في البلاد، وارتباطها بعلاقات وطيدة مع صناع السلاح والصناعيين في إيطاليا، والمؤثرين في الشأن السياسي". لذلك سارعت لزيارة نتنياهو عقب "طوفان الأقصى" وشددت على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وهو ما اعتبره رئيس الحكومة السابق جوزيبي كونتي من حركة خمس نجوم بمثابة ترخيص لإسرائيل بالقتل".

وبشأن بقية الخارطة السياسية لليمين الإيطالي الباحث عن مكاسب انتخابية، يقول ونوس إنه "في فترة صعوده الحزبي والانتخابي، زار زعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف ماتيو سالفيني، دولة الاحتلال عام 2018، لنيل المباركة، وهو الذي صرح أنه سينقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. اليوم لا يجد هذا الحزب غضاضة وسط القتل الإسرائيلي في غزة من تنظيم مسيرة دعم لإسرائيل لحماية القيم الغربية التي تمثلها، على حد تعبير المشاركين بالمسيرة في ميلانو، في مواجهة مظاهرة نظمتها أحزاب يسارية منددة بإسرائيل وداعية لوقف الحرب على غزة وإيصال المساعدات للغزيين". وفي السياق نفسه، "أنكر أحد أعضاء حزب فورزا إيطاليا اليميني الليبرالي الذي أسسه رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو بيرلسكوني الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، فقال العضو المشارك بتأسيس الحزب، وزير الخارجية الحالي، أنطونيو تاياني، في حوار إذاعي: إن الإبادة الجماعية غير موجودة لأنه لا توجد رغبة في إبادة شعب". تلك التصريحات يصفها ونوس بأنها "ناشزة لا يراد منها سوى المزاودة على الإسرائيليين لضمان دعمهم في أي انتخابات مقبلة".

يضع ونوس موقف اليسار الإيطالي من الحرب على الشعب الفلسطيني في سياق "الموقف الأخلاقي والإنساني المعادي للحرب، والمندرج في إطار النضال من أجل الحقوق والحريات التي بدأت تتآكل في الغرب بفعل الهجوم المعاكس لقوى السوق وقوى اليمين الشعبوي والمتطرف". ويشير إلى التظاهرات ضد الحرب التي نظمتها قوى اليسار الإيطالي، منها الحزب الشيوعي، والحزب الشيوعي لإعادة التأسيس، بالتنسيق مع حركات يسارية أخرى، وإلى أن "بعض أدبيات هذه الأحزاب والحركات نوهت إلى إمكانية أن يساهم النضال من أجل وقف الحرب وحماية الفلسطينيين في إعادة الروح لهذه الأحزاب التي تراجع حضورها وأثرها في الحياة السياسية والاجتماعية لأسباب ذاتية فاقمتها الأسباب الموضوعية التي عصفت بالقارة والبلاد مع ظهور اليمين الشعبوي".

يذكّر ونوس بأن الحزب الديمقراطي (يسار وسط)، الذي شكل الحكومة مرارًا، لم تصدر عنه سوى مواقف فردية تنتقد موقف الحكومة من الحرب على غزة. لذلك لا يمكن، برأي ونوس، "التعويل على موقف اليسار الإيطالي، على الأقل في الفترة الحالية، في التأثير على موقف الحكومة أو في إقناع اليمين بأنه يقف في صف القاتل".

(يتبع: قسم ثالث وأخير)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.