نشهد في الآونة الأخيرة إشارات بشأن ازدياد الاستقطاب حول تداعيات الحرب على غزة في أوروبا، ومعها اتساع الهوة بين المطالب الشعبية الأوروبية عامة وقرارات الحكومات السياسية. كما نشهد عودة، وإن جزئية، لليسار الأوروبي الذي استغل هذه النافذة للتعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين، ولحشد الرأي العام المضاد للسياسات التي تنتهجها الحكومات، لا في الشرق الأوسط وحسب، بل حتى في مستوى إدارتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبلاد. لكن يبقى السؤال مطروحًا حول أصالة مواقف الأحزاب الأوروبية من الصراع، أخلاقيًا وأيديولوجيًا، والدور الذي تلعبه المصالح الحزبية والانتخابية في رسم توجهات تلك الأحزاب من يمين ويسار.
التضامن مع غزة قضية المهمشين في أوروبا
الكاتب الفلسطيني، المقيم في السويد، سمير الزبن، لا يرى "أن العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة شكل حالة استقطاب أوروبية، إنما تم استغلال ما يجري لأهداف تتعلق بالسياسات الداخلية، من قبل اليمين العنصري والشعبوي الذي يشهد مدًا كبيرًا في هذه البلدان، لتعزيز خطابه بمعاداة اللاجئين، الذين يحملون معهم خطر الإرهاب وتغير قيم المجتمع الغربي. فالقضية الملحّة كما تجلت في السنوات الأخيرة، هي قضية اللاجئين بوصفها أساس لكل الأزمات التي تعيشها هذه البلدان". ويعتقد الزبن أنه إن كان ثمة استقطاب كشفه العدوان، فهو "ليس بين يسار ويمين، بل هو استقطاب على خلفية مشكلة اللاجئين، بين مواطنين/ لاجئين، مقابل أصليين، لذا نشاهد الأغلبية الكبرى من المتضامنين مع الفلسطينيين، هم أوروبيون من أصول لاجئة. بالمقابل نجد سياسات حادة من اليمين الأوروبي بمواجهة اللاجئين من قبل الأحزاب اليمينية والعنصرية الصاعدة، وتبين ذلك بشكل فاضح بالاجتماع الذي عقده حزب البديل اليميني الألماني مع قوى عنصرية وأصحاب مال، للبحث عن مشاريع، لترحيل اللاجئين حتى الذين حصلوا على الجنسية الألمانية".
ويوضح الزبن: "لا يمكن الحديث عن استقطاب يسارـ يمين في أوروبا، بعد تحطم الأحزاب الكبرى خلال العقود التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، وتذرر الخارطة السياسية الأوروبية، مما أفقد ساحاتها أحزابًا كبرى (انهيار أحزاب اليسار) تعبر عن سرديات يمينية أو يسارية، الذي ترافق مع صعود يمين شعبوي وعنصري في جميع الدول الأوروبية تقريبًا، والشعار واحد، خطر اللاجئين". أتت الحرب على غزة، برأي الزبن "لتعزز هذا الخطاب، الذي لا يخدمه اليوم تكرار خطابه العنصري تجاه اليهود، بل تسويقه عبر توظيف اسرائيل لخدمة خطابهم (الراهن)، من خلال تصوير ما جرى على أنه محض إرهاب قوى إسلامية، للقول إن هذا هو المستقبل الأوروبي مع اللاجئين المسلمين، الذين يشكلون الكتلة الأساسية من موجات اللجوء في العقدين الأخرين".
يختم الزبن بأن "غزة اليوم في الخارطة السياسية الأوروبية، هي قضية المهمشين في هذه البلدان، قضية الظلم المغطى بانتقام الضحية، بحسب الميديا الأوروبية، في الوقت الذي تتراجع فيه القوى السياسية في أوروبا عن حقوق الإنسان التي أقرتها هذه الدول بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، مستهدفة اللاجئين وقضايا الشعوب التي جاؤوا منها".
دعم إسرائيل كممارسة يمينية
يذهب الباحث الأردني سامر خير أحمد إلى أن "التغييرات الجارية في مواقف وآراء الأحزاب السياسية في أوروبا تجاه القضية الفلسطينية، تمثل نتيجة إيجابية أخرى أفرزتها معركة طوفان الأقصى، التي بدأت يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وسلطت الأحداث الأخيرة الضوء على البعد الإنساني للقضية الفلسطينية، سواء من حيث إظهار إسرائيل كقوة احتلال غاشمة وظالمة بسبب حربها الهمجية على قطاع غزة، أو من جهة إبراز المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في القطاع، والمعاناة التي عاشها خلال السنوات السابقة بسبب الحصار والتضييق، فضلًا عن ممارسات القتل والتهجير وهدم البيوت ومصادرة الممتلكات التي تقوم بها دولة الاحتلال".
أمام ذلك كله يرى أنه "بات طبيعيًا أن تجد الأحزاب اليسارية في أوروبا نفسها أمام مأزق أخلاقي إن هي أيدت القوة الظالمة وتخلت عن الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم، لهذا لا تجد قوى أقصى اليسار بدًا من الوقوف إلى جانب حقوق الفلسطينيين. الإشكالية اليوم تتركز في أحزاب يسار الوسط، حيث تنقسم الآراء بين دعم الفلسطينيين أو اتخاذ مواقف متوسطة تسمح لإسرائيل بخوض الحرب لكن من دون قوة مفرطة. الانقسام واضح هنا، لكن مواصلة إسرائيل اتجاهها المتسارع نحو اليمين المتطرف، واختفاء اليسار من حياتها السياسية، يمكن أن يساعد مستقبلًا على مزيد من توضيح الرؤى لأحزاب يسار الوسط في الدول الأوروبية الرئيسية. هذا الحراك السياسي لم يبدأ مع الحرب الأخيرة على غزة، ولن ينتهي عندها، لكنها ستكون نقطة مركزية فيه".
أما دعم أحزاب اليمين الأوروبية لدولة الاحتلال بزعم "حقها في الدفاع عن نفسها"، فلا يراه خير أحمد "يمثل نقطة سلبية مطلقة، فمن الناحية السياسية لا بد من وجود مثل هذا التمايز، ومن الجيد أن يظهر دعم إسرائيل باعتباره ممارسة تنتمي لليمين ذي الجذور الفاشية والنازية غير المنحازة للإنسانية وأفكار الحق والعدل، خصوصًا مع وجود حكومة يمينية متطرفة تحكم إسرائيل ويشغل المتدينون المتطرفون مواقع حساسة فيها"، لكنه يستدرك: "صحيح أن التغييرات في المواقف السياسية تلك لها جذورها في تاريخ معاناة الشعب الفلسطيني، خصوصًا منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، إلا أن ما أفرزته الأحداث الأخيرة يجعلها حلقة جديدة أساسية في تغيير الرأي العام في الغرب".
حرب غزة في صناديق الاقتراع الأوروبية
ينبه الكاتب السوري، المقيم في فرنسا، عمر قدور إلى أنه توافر إجماع أوروبي على التضامن مع إسرائيل مباشرة عقب هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أما "الافتراق بين اليمين واليسار، وبين الحكومات والشارع، فأتى بعدما اتضحت ملامح الانتقام الإسرائيلي من غزة. أي أن الاتفاق على حق إسرائيل في الوجود، ضمن حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، يحظى بشبه إجماع غربي. اليسار ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي 1967 من ضمن منظومة مؤيدة عمومًا لتصفية الإرث الاستعماري، ومناوئة بدرجات مختلفة (حسب نوعية اليسار) للمركزية الأوروبية، ما يجعله خارج تأثيرات الدعاية التقليدية لإسرائيل بوصفها قطعة من الغرب في قلب الشرق".
ولكن كيف نفسر هذا التحول في موقف اليمين الأوروبي من متهم بمعاداة السامية إلى محب للسامية؟ برأي قدور "اليمين العنصري لم يتغير في العمق، لكنه صار أكثر خبثًا باستغلال الموضوع اليهودي للتغطية على عنصريته، فإظهار التعاطف مع إسرائيل هو لغسيل الماضي العنصري من جهة، وللقول إن العنصرية الحالية تجاه المهاجرين ليست عرقية، وإنما هي موجّهة لنوعية خاصة من المهاجرين لأسباب اقتصادية، والذين يريدون فرض نموذجهم الثقافي على الغرب. ويساعد اليمين على مزاعمه هذه أن عدد اليهود في أوروبا قليل ولا يصلح للاستثمار السياسي بتحميلهم المسؤولية عن البطالة والعديد من الأزمات الاقتصادية التي يستخدمها اليمين ذريعة للتصويب على اللاجئين".
من التداعيات المباشرة لحرب غزة، انقسام اليسار الأوروبي على نفسه تجاه الموقف من الحرب، مما زاد من ابتعاد القارة عن مكانتها كوسيط نزيه في عدد من القضايا المصيرية جنوبًا. التناقض في التصريحات الأوروبية بشأن الحرب على غزة كان واضحًا، في مستوى السياستين الخارجية والداخلية، وبات صناع السياسة الأوروبيون متهمين بـ"ازدواجية المعايير"، مقارنة بمواقفهم من الحرب الأوكرانية مع تلك التي جاهروا بها تجاه غزة.
وانطلاقًا من الحسابات التقليدية، يستبعد قدور "أن يكون لحرب غزة تأثير مباشر على أوروبا، خاصة إذا توقفت الحرب دون الوصول إلى ما يتمناه اليمين الإسرائيلي لجهة تهجير الفلسطينيين، وهذه ستكون نقطة افتراق بينه وبين اليمين الغربي الذي لن يقبل تهجيرهم إلى الغرب. من هذه الجهة تبدو الآثار المباشرة لحرب غزة ضئيلة إذا ما قورنت بحرب الأسد على السوريين، وتسببه بلجوء الملايين، ومن ثم حرب بوتين على أوكرانيا التي تسببت بموجة لجوء ثانية، فضلًا عن الأضرار الاقتصادية، إذ استنزف دعم أوكرانيا الاقتصاديات الغربية المنهكَة سلفًا من تأثيرات وباء كورونا".
ويخلص قدور إلى أن "ما يجدر الانتباه إليه أن موجة التعاطف الغربي الحالية، رغم أهميتها وقوتها ووعد البناء عليها، لن تُتَرجَم بالدقة المأمولة في صناديق الاقتراع. فحسابات الانتخابات الأوروبية، أو المحلية في كل بلد، تخضع للعديد من الاعتبارات والأولويات الداخلية، ويندر أن تحتل الصدارة فيها قضيةٌ خارجية، ما لم تكن قضية أمن قومي. لقد أمكن ضبط الحرب بحيث لا تنذر بصراع واسع أو بخروجها عن السيطرة، وطالما بقي الوضع هكذا ستكون التأثيرات القريبة أدنى من تعاطف الشارع الغربي".
منذ عقود، يعاني الحضور الأوروبي في قضايا العالم والمنطقة تآكلًا متواصلًا، مخترقًا بالهيمنة الأميركية، وبالمنافسة الصينية والروسية، مع ذلك بدت في خضم العدوان الإسرائيلي على غزة في صلب التداعيات الأوسع للحرب، بسياسات مربكة بالصراع الداخلي بين يمين ويسار، وبتصدعات المعسكر الأيديولوجي الواحد، وثبت أن أوروبا لا تتمتع بنفس النفوذ الذي تملكه واشنطن في ملفات الشرق الأوسط. وعقب الموقف الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي من الحرب، ورغم محاولات تصويبه بضغط العامل الشعبي، خسر الثقة الكاملة من جانب الفلسطينيين.
لقد أشعلت الحرب في غزة حرب سرديات أجّجت التوتر داخل كثير من المجتمعات، خصوصًا في أوروبا، وزادت من حدة الانقسام الداخلي، وعمّقت الهوة بين شمال وجنوب، لكنها فضحت أيضًا ازدواجية المعايير الدولية، وكانت امتحانًا أخلاقيًا حقيقيًا على الصعيدين الشخصي والجمعي. ذلك كله لخصته يومًا عميرة هاس ("الشرب من بحر غزة": 1999)، حين قالت: "تختزل غزة كل فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتسلّط الضوء على التناقض الجوهري الكامن في إسرائيل، بين من يراها منارةً للديمقراطية، ومن يعتبرها رمزًا للظلم والحرمان؛ غزة هي جرحنا المفتوح". مع غزة عادت القضية الفلسطينية لتتصدر كافة قضايا السياسة والفكر والثقافة، بل حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية لكثير من أبناء الحياة عابرة للحدود والأعراق والإثنيات. لكن، مع كل غصة ومرارة.