}

عن أسئلة الكتابة الذاتية لدى النساء العربيات

مها حسن 6 أكتوبر 2023
آراء عن أسئلة الكتابة الذاتية لدى النساء العربيات
(Getty)
أسئلة كثيرة أثارتها السيدات المشاركات معي في ورشة الكتابة، أسئلة لا تُطرح سوى من قِبل النساء العربيات، حيث لا تزال الكتابة بمثابة إثم، وخاصة الكتابة الذاتية.
كنتُ قد أعلنتُ قبل قرابة شهرين عن إقامتي لورشة كتابة موجهة إلى النساء السوريات، ورغم الاحتجاجات العديدة التي وصلتني من جمهور الرجال، والنساء اللاتي يحملن جنسيات عربية أخرى، فقد وضّحت غرضي من الأمر، وبيّنت لماذا تتوجه ورشتي إلى النساء، ولماذا للسوريات فقط: للنساء، لأنني مؤمنة أن لدينا كثيرًا من المواهب النسائية الدفينة، التي تمنعها شروط اجتماعية قامعة من التعبير، وتقلل من ثقتهن بأنفسهن وبإمكانياتهن، وللسوريات فقط، لأن التجربة السورية، خاصة في السنوات الأخيرة، غنية واستثنائية، بحلوها ومرّها، وبالمفاجآت وعدم التوقعات التي أصابت كثيرًا منا، نحن السوريين، وتحتاج إلى رعاية خاصة، وانتباه مختلفين عما يحدث في ورشات الكتابة العادية التي تركز على الأدب فقط. التجربة السورية قادرة على إنتاج كتابة مختلفة وجديدة.
تحت عنوان "نكتبُ لنَلد أنفسنا"، أطلقت مشروع ورشتي التفاعلية، وتلقيت أكثر من خمسين طلب انضمام إلى الورشة، خلال أقل من أسبوع، خاصة أن الورشة مجانية تمامًا، فقط طالبت الراغبات بالاشتراك أن تكتب كل منهن ورقة تشبه حكاية دافعها للورشة، وما تعنيه لها هذه المشاركة.  ومع صعوبة عملية الاختيار بين أسماء عديدة، جميعها تقريبًا لها تاريخ سابق مع الكتابة، لكنها لم تنشر، فقد أُجبرت على اختيار تسعة نساء فقط، للعمل ضمن مجموعة منسجمة، نقوم بتحليل علاقتنا الذاتية مع عالم الكتابة.

أسئلة الكتابة الذاتية لدى النساء العربيات
بدأنا من الأسئلة القديمة الجديدة، حول الخوف من التعبير عن الذات في مجتمع يبدو فيه أدب المرأة مختلطًا بشخصها، وحيث يتلصص القارئ العربي على حياة المرأة الشخصية، وحيث تتدخل العائلة، أعني تابو العائلة... نتحدث عن آني إرنو، عن إيزابيل الليندي، عن مارغريت دوراس، عن أناييس نن، عن كاتبات غربيات كثيرات، ثم لا أجد الأمثلة العربية، سوى ربما لدى غادة السمان، التي تكتب من دون مواربة. بينما نجد أمثلة عديدة لدى الكتاب الرجال العرب، كمحمد شكري، وبعض الكتاب الذين طرحوا سيرتهم الشخصية من دون تجميل، كحال الكاتب العراقي عبد القادر الجنابي، والذي قال عنه أنسي الحاج: حين يكتب هذا المجنون كأنما فضيحة.
هي الفضيحة إذًا! قالت لي شابة سورية تعيش في هولندا وتكتب بالهولندية سرًا، حتى تضمن أن أحدًا من أقاربها لن يتمكن من قراءة ما تكتب لو وقع على كتاباتها رغمًا عنها: أخاف من أهلي، أخاف من إخوتي الذكور إذا قرأوا ما أكتب.
الموقف ذاته تكرر معي في بلد عربي، ذهبت على هامش فعاليات معرض كتاب هناك، لألتقي بطالبات مدرسة وأحدثهن عن الكتابة، حين قالت لي إحداهن: أخبئ ما أكتب في دفتر تحت فراشي، لو رأته أمي، لمنعتني من الذهاب إلى المدرسة.
هكذا أصغي إلى أسئلة النساء معي، حول تابوهات تتعلق فقط بنا نحن الكاتبات العربيات، عن حاجز الأمومة، عن الخوف من عيون الآخرين وتأثيمهم لنا، وعن جميع هذه الأحكام القاتلة، لأشدّد على أهمية نصوصنا وتجاربنا، وأهمية تحويل هذا النص الداخلي الخاص إلى نص عام، مكشوف، مضيء، وربما مُلهم للأخريات.




أتساءل بيني وبين نفسي لو أنني كنت استجبت لبعض الضغوطات العاطفية من الأصدقاء، وقبلت بأن تكون ورشتي مفتوحة للرجال والنساء معًا، هل كنت سأحقق هذا القدر الهائل من فضفضة وبوح النساء؟ أم أن كون المشاركات جميعهن من النساء، استطاع خلق عامل الثقة بالأخريات، ثم الثقة بالذات، للكتابة والتفكير، من دون قلق وجود الآخر؟
هذا ربما ما أستطيع الإجابة عليه في ورشة قادمة أخطط لها، يكون فيها المشاركون من الطرفين، من النساء والرجال أيضًا.

خوف النساء العربيات من الكتابة عمومًا ومن الكتابة الذاتية خصوصًا 
حين نشرت مقطعًا من إحدى رواياتي على وسائل التواصل الاجتماعي، تلقيت انتقادات حادة، تتعلق بالأفكار التي تطرحها الشخصية الروائية في المقتطف المنشور، ووجدتني مضطرة للشرح بأن هنالك فارقًا بين الشخصية الروائية وكاتب الرواية.
الرواية ذاتها، حين تمت مناقشتها في مجموعة قراءة خاصة بالسيدات، تم انتقادها من بعض المشاركات، وخاصة شخصية أمينة التي تخلت عن أمومتها من أجل الفن. إحدى السيدات كانت تبكي وهي تتحدث معي، أثناء الجلسة، وتلومني عما فعلته بأمينة، لأشعر بالذنب صوبها للحظات، ثم أتذكر أن القصة محض خيال.
من تجربتي الطويلة في الكتابة والنقاشات مع النساء، سواء الصبايا الصغيرات في السن، أو السيدات اللاتي يملكن الرغبة في الكتابة منذ سنوات طويلة، ولا يستطعن تحقيق هذه الرغبة، فهن يكتبن في السر، لأنفسهن، ولكن لا ينشرن، ولا يجرؤن على مشاركة نصوصهن مع الآخرين، وجدت أنه من المؤلم جدًا، والمعيق بشدة، لعالم الإبداع العربي، وعالم أدب المرأة العربية بالذات، حضور هذا الجدار الكبير أمام الكاتبات القادمات، أو المتوقعات، وهو جدار الخوف من رأي المجتمع المحيط بالمرأة الكاتبة، أو الكاتبة المرأة، رأي المجتمع المؤثم والمعاقب أحيانًا، بما تكتبه المرأة، نتيجة الخلط بين شخصية هذه المرأة الكاتبة وبين ما تقوله شخصيتها الروائية.
إذا كانت هذه هي الحال في مثالي حول تقييم ومحاكمة شخصية الكاتبة في عمل روائي تخييلي محض، حيث تعاني الكاتبات العربيات من تلصص القارئ على حياتهن، من خلال ما تكتبنه، فإن الكتابة الذاتية المباشرة، التي تذوب فيها شخصية الكاتبة مع شخصيتها السردية، تكون عرضة للمحاكمة بشكل أقوى.
حين كنت شابة مقبلة على الكتابة، ولم أكن قد نشرت وظهر اسمي في الصحف وعلى أغلفة الكتب، أرسلت أولى محاولاتي الكتابية إلى مجلة مشهورة آنذاك، هي مجلة الناقد، التي كان يملكها ويديرها الصحافي والناشر المرحوم رياض نجيب الريس، كانت سعادتي كبيرة حين رأيت اسمي بالخط العريض على غلاف المجلة مع أسماء الكتاب العرب: الصادق النيهوم، سميح القاسم، وغيرهما.
من الطبيعي في حالتي هذه، أي حين يُنشر لي نص في مجلة مهمة، برفقة كتاب مهمين، وأنا في بداياتي، أن يتم الاحتفاء بي في وسطي وبين أصحابي ومعارفي. هذا ما يجب أن يحدث لتشجيع المواهب الطازجة، لكن ما حدث معي خارج الخيال، لأنني وصلت إلى عملي، فوجدت رئيسة القسم الذي أعمل فيه قد قامت بدعوة باقي الموظفات النساء فقط في المؤسسة، وكنّ جميعهن بانتظاري، في موقف لا أُحسد عليه، ليتم استقبالي بطريقة مخيفة، ومحاكمتي عن ذلك النص.
حادثة كهذه يمكنها تحطيم الموهبة تمامًا، وخلق اليأس، فقد تم التهكم على أفكاري، واتهامي بالتمرد "من وجهة نظر سلبية"، وعدم احترام المجتمع الذي أعيش فيه، وعدم احترام النساء...
لم أبك أمامهن، بل حافظت على نرجسيتي المُفتعلة، وبكيت بصمت، لكنني لم أتراجع. أقول هذا الكلام اليوم ليس لإظهار قوتي، لكن على العكس، لتقديم افتراض عدد حالات النساء المبدعات المنكفئات عن الظهور في المشهد الإبداعي، بسبب هذا النوع من المحاكمة، وخاصة، ويا للكارثة، من النساء.

خلاص الأدب العربي
قلت مرة أمام أصدقاء، إن البوح لدى الكاتبات العربيات هو الثورة الحقيقية في الكتابة، فهو يتطلب شجاعة مواجهة قوانين المجتمع الذكوري والأهل والعادات التي لا تزال تضع إبداع المرأة في خانة التعبير اللطيف المحايد البعيد عن المواجهة وهزّ الثوابت التقليدية.
من هنا أعرف بأن الجهد الذي تبذله النساء المشاركات معي في ورشة الكتابة الذاتية، حيث لا أشتغل فقط على النص المُنتَج، بل على الذات المُنتِجة لذلك النص، هو جهد كبير، أضع فيه شريكاتي في الورشة في وجه المدفع، للتعبير عن ذواتهن الإبداعية المخالفة للمتوقع والمنتظر، وهذا هو أس الإبداع كما أشرح لهن: كلما كان صوتك خاصًّا بك، فأنت أقرب إلى تقديم نسختك الإبداعية، لأن الإبداع هو الاختلاف.
ومع ذلك، أعترف، وبحسرة، إذا كنت أنا التي تكتب منذ ثلاثين عامًا، أشعر بالحاجة إلى التوضيح أحيانًا، مع أنني لم أكتب بعد هذه الرواية الذاتية المحضة، كما فعلت آني إرنو، أو مارغريت دوراس، أو غيرهما من الكاتبات الغربيات، فما حال الصبايا المقبلات على الكتابة، المحاطات بعيون تترصد حيواتهن الشخصية، وتحاكم شخوصهن، وتحاكمهن هن قبل كل شيء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.