}

الأحلام التائهة... النوم المرغوب

بلال خبيز 8 مارس 2024
هنا/الآن الأحلام التائهة... النوم المرغوب
باتت النهارات مجرد سعي لا ينتهي (Getty)
الأحلام التي بوّأها سيغموند فرويد موقعًا مهمًا في يوميات البشر كانت، على الدوام، بحسب فرويد، ومن سبقه أيضًا من مفسري أحلام، استتباعًا كاملًا لليوميات التي يعيشها المرء ـ الحالم، خلال ساعات يقظته. كان العالم برمته يرعى آمالًا كبيرة تضمر احتمال تحقيق مستقبل مطمئن وزاهر للبشر جميعًا. في تلك الحقبة من تاريخنا البشري، لم يكن ثمة ما يعيق تحقق البهجة والسعادة والكفاية غير "جشع الرأسماليين وتعصب القوميين وتخلف الكنيسة". أحلامنا في تلك الفترة من الزمن كانت تعبيرًا عن الرجاء الذي نرعاه في يومياتنا، أحيانًا، وفي أحيان كثيرة تأويل مبدع للصعوبات التي عانيناها، أو تلك التي تلوح نذرها الداكنة في مستقبلنا القريب.
لقد ارتبطت أحلام تلك الفترة من الزمن بآمال يقظتنا وخضعت لمترتباتها على نحو شبه كامل. كان النوم موتًا صغيرًا، تقطعه أحلام تمت بكل صلاتها للحياة التي تسبق هذا الموت الصغير، وتعقبه كل يوم. بدت تلك المحاولات الفكرية المبدعة كما لو أنها تحاول تثبيت أزمان كل متعنا وأفراحنا وراحتنا ورخائنا في وقت يقظتنا. أما الليل، فلم يكن في فحواه العميقة أكثر من زمن ضائع، لا يرعاه القانون، ولا يكون زمنًا معاشًا إلا للضائعين واللصوص والخارجين على القانون.
سرعان ما نحت الأفكار إلى محاولة احتلال الليل. بات الليل المضاء، بمصابيح الغاز في بداية الأمر ثم بالمصابيح الكهربائية، كما لو أنه في طريقه إلى أن يسلس قياده للنهار. لقد صنعنا نهارات اصطناعية، وبذلنا كل جهد ممكن لنجعلها عامرة باليقظة والانتباه، ومزدانة بالنشاط. وفي هذا القلب الذي بذلنا كل جهد لتحقيقه، نجحنا في توليد بعض المتع التي تنشأ من صلبه. وجلها كانت تتعلق بكسر السائد ومقاومة الطبيعة، ورفض الأعراف والتقاليد. وإذ بدا الليل في تلك الفترة بمثابة مباشرة للعالم من الجهة المعاكسة للجهة التي درجت البشرية على مباشرته منها، فإن قسر الطبيعة على أداء يخالف طبيعتها جعل من هذا الانتصار الصغير جالب متعة ثورية لم تكن في حسبان الأجيال التي سبقت. قبل إضاءة الليل كان البشر يتركون الليل للموتى والأشباح والغيلان والجن، ويكتفون بالنهارات لتكون مسرحا لنشاطاتهم. وحدها الألفة بين كائنين أو أكثر تحت سقف متين، وخلف أبواب موصدة، كانت تجعل الليل معاشًا، إنما ليس أكثر من اعتباره استعدادًا لا بد منه للنهار المجهد والطافح بالنشاط.



استعمرنا الليل فلم يبق منه حيزًا لا يحتله النهار أكثر من جزء يسير من وقت ضائع، يُملأ أحيانًا بالهواجس والهموم. هذه الهواجس والهموم احتلت في ما بعد موقعًا أساسيًا في يومياتنا أيضًا. لم تكن الآمال العريضة التي حركت السعي البشري في عصر الأنوار الأوروبي، قابلة للتحقق. ما حدث أن المصاعب والإخفاقات هما من احتل حواضرنا ومستقبلنا. وعاما بعد عام كانت السعادة المرتجاة تتراجع إلى الخلف، وتتقدم في مكانها المفترض إخفاقات لا تحصى وصعوبات لا يمكن تخطيها. ومع تراجع البهجة والسعادة المرتجاة، باتت النهارات مجرد سعي لا ينتهي، تعقبها ليال ملأى بكل أسباب القلق والخوف من الغد.
هكذا أصيبت البشرية عمومًا بإدمان المنبهات. القهوة التي تمدح ليلًا نهارًا في يومياتنا المعاصرة، أصبحت وسيلتنا الأهم لإجبار أجسامنا على الاستمرار في مزاولة النشاط. هذا النشاط الذي لم يعد، في المدن الحديثة، مفضيًا إلى شيء أكثر من إفضائه إلى مراكمة الأموال في الحسابات المصرفية. وهي مراكمة مطلوبة لذاتها، وليست وسيلة لتحقيق الأمان والشعور بالطمأنينة، والاطمئنان إلى الغد. اليوم ليس ثمة ثروة نقدية كافية لأي كان. حتى جيف بيزوس يسعى بكل جهده، ويقوم ليله لمراكمة ثروته. ذلك أن المستقبل يبدو غير آمن على أي نحو. ووسيلتنا لمواجهة مفاجآته، أي تلك المتمثلة بالحسابات المصرفية، تبدو بالغة الهشاشة وقابلة للعطب في أي وقت. في العصر الحديث ليس ثمة ما يمكن أن نؤمن بأنه استثمار في المستقبل. كل شيء قابل للعطب، يستوي في ذلك الجيوش المعتمدة على التقنيات الحديثة، والحكومات التي تطبع عملاتها ولا تتحكم بقيمتها، والمؤسسات التي تحقق أرباحها الفعلية بعيدا عن قيمة السلعة، واعتمادا على السمعة والانتشار. وهذه كلها حالات غير ثابتة ولا يمكن التنبؤ باستقرارها.
مع تراجع الأحلام عن يومياتنا، أصبح ما تبقى من ليالينا مجرد غياب، وحيث أن بهجتنا في أوقات يقظتنا أصبحت بعيدة المنال، ذلك أننا لم نعد نملك الوقت لرعايتها وتربيتها، أصبح النوم هو المتعة الوحيدة التي يمكن أن نحققها منفردين، والتي لا تخذلنا إذا ما نجحنا في تحقيقها.
نومنا اليوم بلا أحلام، ذلك أن ما كنا نحسبه تحققًا للبهجة في اليقظة، أسفر عن إحباطات لا تنتهي، تبدأ باستحالة التقدير الصحيح لهوية شركائنا في العمل والحب واللذة والمتع العابرة. ولا تنتهي بإحباطاتنا المتكررة من الطعام، الذي رغم أنه ما زال يقاوم تحوله إلى مجرد سد لخلة الجوع، لم يعد قادرًا على إثارة المتع التي رافقته على مر التاريخ. لم يعد اجتماع العائلة على طاولة العشاء متاحًا كل ليلة، ولم يعد لدينا وقت كاف للتذوق. لقد باتت مذاقاتنا كلها محكومة بالسائر والشائع ولم يعد ثمة من يملك وقتًا لاكتشاف أسرار المذاقات والنكهات.
على هذا يبدو أننا نسعى بكل ما أوتينا من رغبة بالعيش لجعل نومنا بلا أحلام، نوم بتنا نريده تكريما للجسم وإزاحة للدماغ. تكريمًا للعضلات والجلد والأعضاء، ورفضًا لتدخل الدماغ في شؤون الجسم العابرة. هذا النوم، الذي لم يعد فرويديًا، قد يكون آخر ما تبقى لنا من مصادر الحرية. حرية أن نكون لا أحد ولا شيء. مجرد أجسام مستلقية في عتمة الليل، تركن هواجسها ومصاعبها على رف الصباح.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.