}

الإبداع الفلسطيني بين أسيرَين: دقّة وخندقجي

عمر شبانة 2 مايو 2024
هنا/الآن الإبداع الفلسطيني بين أسيرَين: دقّة وخندقجي
باسم خندقجي ووليد دقّة

 

لحظات عاطفيّة حارّة ومؤثّرة سادت حفل إعلان أسماء الفائزين بجائزة البوكر للرواية العربية هذا العام، حفل شهدته الملايين ربّما، لحظات درامية بدأت بدمعة رئيس لجنة التحكيم، الروائي السوري المعروف نبيل سليمان، وهو يعلن اسم الفائز الأسير باسم خندقجي، وروايته "قناع بلون السّماء"، وتدارُك الموقف الدراماتيكيّ من قبل الشاعر والإعلاميّ المغربي ياسين عدنان (مقدّم الحفل) الذي قال إن من المعتاد أن تدعو اللجنة الفائزين إلى المنصّة، لكنّ هذه الدورة تشهد للأسف غياب الفائز الأول بسبب تغييبه وراء قضبان سجون الاحتلال، وبكاء شقيق الفائز، والتصفيق الذي شهدته قاعة الاحتفال، وغير ذلك من مظاهر الفرح والحزن، فرح بالفوز وحزن لغياب الفائز عن الحفل... والاضطرار لتسليم الجائزة إلى شقيقه وإلى ناشرة الرواية رنا إدريس (دار الآداب).

هذه لحظات لا تُنسى في حفل مهيب، حمل الكثير من المعاني التي تحيل، بصورة أساسية، على واحد من معاني الحريّة وقيمتها العالية. لكنّنا، في المقابل، وقفنا قبل أسابيع قليلة، على مشهد استشهاد الكاتب والفنّان الأسير وليد دقّة. مشهدان يجسّدان حالتين من حالات الإبداع والنضال التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ ومبدعوه.  نحن إذًا أمام حدَثين فلسطينيّين، في الحياة الثقافيًّة- السياسيًّة والوطنيّة، شغلا الساحة الثقافية الفلسطينيّة والعربية في الأيام القليلة الماضية، ويرتبطان بسؤال الإبداع الفلسطيني الذي ينمو خلف جدران سجون الاحتلال الصهيوني، وفي ظلمات زنازينه. وهذا كلّه ونحن نعيش حرب الإبادة للشعب الفلسطينيّ، في غزة خصوصًا، وفي فلسطين التاريخية بصورة عامّة.

قبل كلّ شيء، وبخصوص وليد دقة، فأن يُستشهد كاتب مناضل في السّجن، بعد أن أمضى ما يقارب أربعين عامًا وراء القضبان، في عملية اغتيال بطيء من قبل سلطات السجن ومن ورائها السلطات السياسية، يضعنا هذا الأمر أمام جريمة ضد الإنسان، وأمام إعدام للإبداع وللنضال. وهذه مجرد محاولات لمحو الوجود وليس مجرد محو للهوية. وفي المقابل فأن تذهب جائزة "البوكر" العالميّة للرواية العربيّة لرواية الأسير الفلسطيني باسم خندقجي "قناع بلون السماء"، هو انتصار جديد لسردية فلسطين، السردية التي تقاوم، بكلّ الأدوات، محاولات طمسها، في صراع وجودي مع سردية خرافية تم توظيفها من المشروع الإمبريالي وما بعد الكولونياليّ، هو فعلًا صراع لن ينتهي إلا بانتصار إحدى السرديّتين- القوّتين.

وليد دقة عميد المعتقلين المبدع

ليس بعيدًا عن العقلية الاستعماريّة الكولونياليّة، بأجنداتها التي لا تعير اهتمامًا لاحتجاجات العالم، ولا لأي قانون دوليّ أو إنساني، كان اغتيال الأسير وليد دقّة، قبيل انتهاء مدّة حكمه بأيام قليلة، هو الذي أمضى ما يقارب ثلثي عمره أسيرًا... الاغتيال بشتى أصناف السلوك العدواني والهمجي خلف القضبان، بما في ذلك منع معالجته من سرطان النخاع الشوكي في الدماغ، ما أدّى إلى تفاقم حالته ثم رحيله. وحتى برحيله تعرض لحملة عنصريّة تمثلت في تعليق صدر عن وزير الأمن العنصريّ المتطرّف بن غفير الذي قال إن وليد دقّة كان ينبغي أن لا يموت بالسرطان، بل إعدامًا.

أمثال وليد لا يغيبون، فهو حاضر في إبداعاته، كما هو حاضر في صورة ابنته الوحيدة "ميلاد" (4 سنوات)، التي جاءت إلى الحياة من "نطفة محرّرة" جرى تهريبها من السجن، وهي طريقة بدائيّة، وفدائيّة، من طرق الإنجاب بالأنابيب. لكنّه قبل ذلك كان قد أرغم سلطات السجون على إقامة حفل لعرسه في السجن. كما شاهدنا وشاهد العالم "ميلاد" هذه، بسنواتها الأربع، في الفيديو واليوتيوب، تهتف لحرية "بابا" الذي لم تعرفه عن كثب أبدًا. "ميلاد" التي لم تحظَ ولو بقبلة من وليد... فكتب لها من سجنه: مَن يأخذ بقيّة عمري ويمنحني لحظة عناق لتطوّقيني بذراعيك الصغيرتين... مَن ملّودتي مَن... من مسحت بكفيها الصغيرتين على قلبي فانتظم النبض وصحّ البدن وتلاشت عقود من الألم. مَن يا مهجة قلبي ستأتي لتغفو على صدر والدها ليداعب شعرها الناعم... إلى حبيبتي ميلاد... كل عام وأنتِ بألف خير وعيد ميلاد سعيد".


ولأنّ وليد دقّة، وهو ينتظر الحريّة، لم يكن انتظاره عبثًا وفراغًا، فقد استثمر حتى الزنزانة لينجز ما قام بإنجازه، من استكمال لدراسته الجامعية، وحصول على شهادة الماجستير في العلوم السياسيّة، ثم كتابة الرواية والقصة في سلسلة من "الأسرار"، أو ثلاثيّة (سرّ الزيت، سرّ السيف، سر الطيف). المشروع الذي يبدو موجّهًا للفتيان، ويمكن قراءته من الكبار، وصدرت ثلاثيّته عن مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي، يحيل على كاتب يمتلك فكرًا فريدًا.

هي رسائل وكتابات تذكّرنا برسائل وكتابات أنطونيو غرامشي من سجنه لعائلته، حيث يبدو أنّه تأثر بها في بداياته. وفلسطينيًّا تذكرنا بكتابة عدد من المبدعين الكتاب والشعراء ومنهم المتوكل طه. رسائل وروايات تسطع فيها حميميّة خاصّة. وثلاثية دقّة القصصية تلخص رؤية الكاتب الأسير، للعالم الذي يعيشه الإنسان الفلسطينيّ، ولتفاصيل علاقته بما حوله، وبمن حوله. 

خندقجي: النضال والإبداع

ومجدّدًا أيضًا، وبالعودة إلى باسم خندقجي، فأن تنال روايته "قناع بلون السماء" جائزة البوكر للرواية العربية، فهذه معجزة من معجزات الأسر والأسرى، معجزة فلسطينية جديدة في زمن كفّ العالم عن تلقي المعجزات، وهي  تعبير عن إمكانيّة أن يتجاوز الإبداع القيود والأصفاد، وأن يتجاوز المبدع الأسير القابع خلف ظلمات سجنه هذه الظلمات والقيود، ويخرج إلى فضاءات الحرية صارخًا بالحقيقة، ومعلنًا عمق هويته وسرديّته كما يفعل (نور) بطل هذه الرواية، حين يكشف القناع عن زيف السردية الإسرائيلية، المتمثلة في شخصية (أور)، ويقدم سرديته هو، سردية الفلسطينيّ صاحب التاريخ وصاحب الجغرافيا.

تستوقفنا ابتداءً سيرة باسم خندقجي، سيرة شخص مفعم بالعطاء والطموح، هو المولود في مدينة نابلس سنة 1983، بوصفه أحد أبرز مثقفي الحركة الفلسطينية الأسيرة. تتنوّع نتاجاته بين الكتابة الإبداعية، شعرًا ورواية، والكتابة الفكرية، السياسية والتاريخية والنظرية، خصوصًا في مجال دراسات السجن. واعتُقل خندقجي في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، وحُكم بالسجن المؤبّد ثلاث مرات بتهمة العمل الفدائي خلال انتفاضة الأقصى. ولا يزال قيد الأسر في قسم العزل الجماعي في سجن عوفر الإسرائيلي، قرب بيتونيا جنوب غربي مدينة رام الله. وعلى الرغم من انقطاع مسيرته الأكاديمية كطالب في قسم الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية بعد أسره، فهو تمكّن من الحصول على درجتَي البكالوريوس والماجستير في "الدراسات الإقليمية - مسار الدراسات الإسرائيلية" من جامعة القدس (2016)، ويسعى حاليًا لاستكمال دراسة الدكتوراه وهو في الأسر. وروائيًّا كانت صدرت له رواية "خسوف بدر الدين" وغيرها أيضًا.

لن أخوض في تفاصيل الرواية الفائزة لأنها تتطلب قراءة متمعّنة ومعمّقة، وهي بين يديّ في نسختها الورقية، وسأكتفي اليوم بما جاء في نهايتها من إشارة إلى تاريخ انتهاء كتابتها في "سجن جلبوع الكولونياليّ" يوم 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ثمّ بـ"شكر وعرفان... للدكتور الحيفاويّ البهيّ جوني منصور الذي زوّدني بالبيانات الخاصّة بمستوطنة مشمار هعيمق وقرية اللجّون المهجّرة وثورة باركوخبا وموسم التنقيب عن الفيلق الرومانيّ السادس ومعهد أولبرايت للأبحاث الأثرية"، ويختم هذا كله بالقول "مع العلم أنني وحدي أتحمّل المسؤولية عن معالجة هذه البيانات روائيًّا". ما يعني أنّنا حيال عمل يجمع التوثيق والتخييل، وهي سمة من أبرز سماتها كما يمكن لأيّ قارئ جادّ أن يستنتج، فضلًا عن سمة التجريب على غير صعيد، خصوصًا على مستوى تقديم شخوص الرواية.

وربّما من المفيد أن نختم بما قاله عن الرواية رئيس لجنة التحكيم نبيل سليمان: "يندغم في ‘قناع بلون السماء‘ الشخصي بالسياسي في أساليب مبتكرة. روايةٌ تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى: وعي الذات، وعي الآخر، وعي العالم، حيث يرمح التخييل مفككًا الواقع المعقد المرير، والتشظي الأسري والتهجير والإبادة والعنصرية. كما اشتبكت فيها، وازدهت، جدائل التاريخ والأسطورة والحاضر والعصر، وتوقّد فيها النبض الإنساني الحار ضد التحيون، كما توقدت فيها صبوات الحرية والتحرر من كل ما يشوه البشر، أفرادًا ومجتمعات. إنها رواية تعلن الحب والصداقة هويةً للإنسان فوق كل الانتماءات". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.