عقدت منظمة القلم الدولية PEN - International مائدة مستديرة عن "حرية الرأي والتعبير" وندوة شعرية في كيبيك (كندا) يوم السبت الفائت 25 أيار/ مايو 2024، حيث جمعت ممثلين عنها من الشعراء: دارين حوماني من منظمة القلم- لبنان، وراي ماري تايلور من منظمة القلم- سانت ميغيل (المكسيك)، وماييل دوبون من منظمة القلم- أوكسيتان (فرنسا)، إضافة إلى فيليكس فيلينوف من منظمة القلم- كيبيك، وذلك على خشبة المسرح في "بيت الشعر" La Maison de La Littérature في الحي التاريخي في مدينة كيبيك، حيث "تم تقديم هذه المائدة المستديرة كجزء من مبادرة الكتابة خارج الحدود، والحق العالمي في حرية التعبير"، كما ذكرت منظمة القلم الدولية على صفحتها.
وقد استهلّ فيليكس فيلينوف الندوة بعرض شريط مصوّر وصفه بأنه موجع عن صحافيين قُتلوا خلال ممارسة عملهم الصحافي في عام 2023 الفائت حول العالم، وتضمّن عشرات الصحافيين الذين استُشهدوا في قطاع غزة.
وخلال المائدة المستديرة، سلّط المشاركون في كلماتهم الضوء على التحديات التي تواجه الصحافيين والكتّاب حول العالم، ثم شارك الشعراء الأربعة في الندوة الشعرية، وألقوا قصائد إنسانية مؤثرة، حيث تفاعل الحضور بشكل ملحوظ مع الكلمات ومع القصائد.
وكانت للزميلة دارين حوماني كلمة تناولت فيها ما يواجههه الصحافيون والكتّاب في فلسطين. وهنا نص الكلمة:
فلسطين تواجه إبادة ثقافية عميقة
إذا نظرنا اليوم إلى قطاع غزة، يمكن أن ندرك فورًا أهمية الصحافيين في نقل الأحداث هناك. صحافيون يعرّضون حياتهم للخطر، ولكنهم لا يزالون موجودين، ينقلون الألم بواسطة الكلمة وبواسطة الصورة، إلى كل العالم. فإذا كان هناك من صوت لأولئك الأطفال العالقين، أحياء أو أمواتًا، تحت ركام منازلهم في قطاع غزة، فهو صوت الصحافيين. إن تقارير الصحافيين تقدّم صورة نموذجية عن ثنائية الحياة/ الموت في غزة، فلا حياة في سجن مفتوح على السماء، تتساقط منه خيوط من القنابل الذكية التي تقتل الأطفال بذكاء وتُرعبهم بذكاء.
إن حرية التعبير والصحافة تواجه تحديات كبيرة في فلسطين، وفي جنوب لبنان، حيث يتم استهداف الصحافيين الذين يواجهون مخاطر كبيرة لنقل الصورة على حقيقتها ولكشف انتهاكات حقوق الإنسان. تقول منظمة "مراسلون بلا حدود" إنه قُتل 140 صحافيًا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، علمًا أنه قُتل 69 صحافيًا خلال كل سنوات الحرب العالمية الثانية من عام 1939 حتى عام 1945. ولم تكتفِ إسرائيل باستهداف الصحافيين، بل استهدفت أيضًا أفراد عائلاتهم بالكامل، ومنازلهم. كما دمّرت 70 مقرًا لوكالات أنباء عالمية ومؤسسات إعلامية في قطاع غزة، وأوقفت نشاطات مؤسسات إعلامية في الضفة الغربية. أيضًا عملت إسرائيل على الإخفاء القسري لعدد من الصحافيين ومنهم نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد اللذان لا يزال مصيرهما مجهولًا وترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي الكشف عنه. كما اعتقلت سلطات الاحتلال في الضفة الغربية 100 صحافي من منازلهم، بحسب تقرير لنقابة الصحافيين الفلسطينيين، مع مصادرة أجهزتهم الخليوية والاعتداء بالضرب عليهم وعلى أفراد من عائلاتهم، ومعظمهم لا يزال في السجون الإسرائيلية.
وفي لبنان، استهدفت الصواريخ الإسرائيلية على الحدود مع فلسطين المحتلة مجموعات من الصحافيين، فقتُل الصحافي عصام العبد الله من قناة فرانس برس في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كما قُتل الصحافيان فرح عمر وربيع المعماري من قناة الميادين في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
نتساءل هنا: لماذا تستهدف الطائرات الإسرائيلية الصحافيين؟ لا شك في أنها عملية "المحو"، فالمحو لم يستهدف فقط الفلسطينيين بأجسادهم، بل هناك أيضًا محو للسردية الفلسطينية، وهي عملية قديمة متجدّدة تستخدمها إسرائيل كسلاح آخر لفرض سرديّتها الخاصة فيما يحصل هناك.
إن ما يحصل في فلسطين، ليس فقط تطهير عرقي وإبادة للمدنيين وقتل للصحافيين، بل هناك إبادة ثقافية عميقة، تستهدف الكتّاب والفنانين والأكاديميين الجامعيين. لقد أدّت حرب الإبادة الجماعية والثقافية التي يشنّها الاحتلال على قطاع غزة إلى قتل العشرات من المثقّفين والمؤرّخين والكتّاب والشعراء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والصحافيين، والأكاديميين والعلماء، حيث وثّقت منظمات حقوقية دولية مقتل نحو مائة كاتب وفنان وأستاذ جامعي في غارات مباشرة استهدفت منازلهم من دون سابق إنذار.
هل تسمعون بـ "أدب السجون"؟
هذا الأدب ازدهر في السجون الإسرائيلية، حيث ابتكر الكتّاب الفلسطينيون طرقًا للكتابة، ولتهريب ما يكتبون، فصدرت كتب شعر وروايات لكتّاب مقيمين في السجون منذ سنوات، أحدهم هو الكاتب باسم خندقجي الموجود في السجن الإسرائيلي منذ عام 2004، وفاز منذ أقل من شهر بجائزة بوكر العربية عن روايته "قناع بلون السماء"، وهي ليست الرواية الأولى له، فقد استطاع تهريب أوراق رواياته وأبحاثه من داخل السجن على مدى عشرين عامًا، وله 4 روايات و3 دراسات جامعية. أما الكاتب وليد دقة، فقد مات بسبب المرض في السجن في 7 نيسان/ أبريل الماضي، وله 3 روايات وكتابان في مجال الفكر، وكان في السجن منذ عام 1986. هناك الكاتب محمود عيسى الموجود في السجن الإسرائيلي منذ عام 1993 والكاتب عبدالله البرغوثي الموجود في السجن منذ عام 2003 وثمة أسماء عديدة لكتّاب اعتُقلوا بسبب تعاونهم مع المقاومة الفلسطينية. هناك اعتقالات أخرى حدثت مؤخرًا خلال الحرب على قطاع غزة، لفنانين وكتّاب في الضفة الغربية، واعتقالهم يشكّل قمعًا لحرية التعبير لأنهم اعتُقلوا لأسباب تتعلق بتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد نادت منظمة القلم الدولية بضرورة العمل على وقف الحرب على قطاع غزة، وأنا أناشد من هنا، أن تعمل منظمتنا بقوة وإعلاء الصوت لوقف هذه الإبادة، من أجل العدالة التي هي من أهداف منظمتنا الرائدة في حق التعبير. إن الكتّاب في السجون الإسرائيلية يستحقون أن تصل أصواتهم في ظل إعلام عالمي قوي أحادي الجانب يجد دائمًا أن إسرائيل ضحية، فيما هناك ضحايا كثر لا يزالون عالقين، أحياء أو أمواتًا، في السجون الإسرائيلية، أو تحت ركام منازلهم في غزة.
أسماء كثيرة بين يديّ، لكتّاب وفنانين وشعراء قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية في غزة خلال الأشهر الماضية، الفنان علي نسمان/ الرسامة هبة زقّوط/ الشاعرة والروائية هبة أبو ندى/ الفنانة المسرحية إيناس السّقّا/ الرسامة التشكيلية حليمة الكحلوت/ الشاعر عمر أبو شاويش/ الفنان محمد سامي قريقع/ الفنان الكاتب والعازف يوسف دواس/ الفنانة التشكيلية نسمة أبو شعيرة/ الفنان طارق أحمد ضبان/ الفنان والخطّاط مهند أمين الأغا/ الشاعر والباحث التربويّ شحده البهبهانيّ (73 عامًا)/ العالِم والأكاديميّ سفيان تايه/ الشاعر سليم النفّار/ الكاتب والمخرج رياض عبد الرحمن/ الفنانة التشكيلية ضياء البطل... وكثيرون غيرهم. ومن أجملهم بنظري الطفلتان شام أبو عبيد (8 سنوات)، وليلى عبد الفتاح الأطرش (8 سنوات)، من فرقة "تشامبيونز" للدبكة الفلسطينية. كانت لديهما أحلام كبيرة، كانتا موهوبتين وكانت تنتظرهما بالتأكيد حياة جميلة.
أخيرًا، أود أن أقرأ لكم آخر قصيدة كتبها البروفيسور الجامعي والشاعر رفعت العرعير ونشرها على صفحته في إنستغرام بالإنكليزية قبل استشهاده بغارة إسرائيلية في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2023 في غزة:
If I must die/ you must live/ to tell my story/ to sell my things/ to buy a piece of cloth/ and some strings/ make it white with a long tail/ so that a child/ somewhere in Gaza/ while looking heaven in the eye/ awaiting his dad who left in a blaze/ and bid no one farewell/ not even to his flesh/ not even to himself/ sees the kite, my kite you made, flying up/ above/ and thinks for a moment an angel is there/ bringing back love/ If I must die/ let it bring hope.. let it be a tale..
إذا كان لا بد أن أموت/ لا بد أن تعيش أنت/ لتروي حكايتي/ لتبيع أغراضي/ لتشتري قطعة قماش/ وبعض الخيوط/ فلتكن بيضاء بذيل طويل/ حتى يرى طفل/ في مكان ما بغزة/ وهو يحدّق في السماء/ منتظرًا والده الذي رحل بلمح البصر/ دون أن يودع أحدًا/ ولا حتى جسده/ ولا حتى نفسه/ يرى الطائرة الورقية، طائرتي الورقية التي صنعتها، تطير إلى الأعلى/ فوق/ ويفكر للحظة أن في السماء ملاكًا/ يستردّ الحب/ إذا كان لا بد لي أن أموت/ فليحمل موتي الأمل.. فليكن حكاية...