}

في رحيل خليل طافش: مؤسس المسرح الوطني الفلسطيني

راسم المدهون 8 مايو 2024



رحلة خليل طافش مع الحياة قاربت في كثير من تفاصيلها الدراما في وجهها الأقدم، حيث "أبو الفنون" يستحوذ على روحه وتفكيره ويطبع حياته بتفاصيله إلى الحد الذي جعل فن المسرح مسعاه الدراسي ومن بعده العملي أي منذ تخرج من "المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة عام 1969، وبدأت رحلته في السعي اليومي لا لتحقيق حضوره الفني الشخصي وحسب، ولكن لتأسيس "المسرح الوطني الفلسطيني" كغاية فنية وكرافعة ثقافية وطنية في مواجهة محنة وطنية كبرى عاشها بعيدًا عن وطنه منذ نكبة 1948، وواجه خلالها الشعب الفلسطيني ظروف النكبة، وفي الأساس منها تمزق المجتمع واغتراب الشعب في مناف ومهاجر شتى.

ولد الراحل خليل طافش في قرية "عاقر" جنوب فلسطين عام 1943 ولجأت عائلته بعد النكبة إلى قطاع غزة حيث أستقرت في "مخيم الشاطئ" وتعلّم في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ومنها انتقل إلى العاصمة المصرية لدراسة المسرح دراسة أكاديمية ولمعايشة الحركة المسرحية المصرية التي شهدت ذروة صعودها وتألقها بسنوات الستينيات التي هي سنوات وجوده في القاهرة. خليل طافش هو بهذا المعنى ابن التجربة المسرحية المصرية الذي امتلك موهبته المتميزة وسعى كل الوقت لتنميتها وتوظيفها في تجربته بعد ذلك كمخرج مسرحي أراه الأهم والأكثر تميزًا بين أقرانه ومجايليه من المسرحيين الفلسطينيين.

عاش الراحل ظروفًا فلسطينية بالغة القسوة شهدت اضطرابًا وعصفًا سياسيًا سنوات سبعينيات القرن الفائت، بما انعكس على الجميع ومنهم الفنانين والحركة الفنية بسبب التنقلات والحروب وما تشكله من كوابح قسرية للإبداع الفني، وبالذات المسرح الذي يمتاز عن غيره من الفنون بحاجته إلى المكان أو بالأدق إلى "الخشبة" حتى ولو كانت مؤقتة أو مستأجرة لأسابيع أو حتى لأيام. وهنا أتذكر القلق الذي عاشه خليل طافش مطلع السبعينيات وهو قلق تمتزج فيه قسوة الظروف العامة وهموم المبدع المثقف والتي كانت تبدو للآخرين ترفًا غير مفهوم ولا مقبول.

تجارب خليل طافش المسرحية الأولى كانت مع فرقة أسّستها "فتح" لكنها سرعان ما تطورت على يديه، وبالتعاون مع بعض المسرحيين الآخرين وأبرزهم الممثل الراحل عبد الرحمن أبو القاسم أصبحت "المسرح الوطني الفلسطيني" الذي استقطب فن وجهود أعداد متزايد من الفنانين الفلسطينيين ومنهم يوسف حنا، جميل عواد، حسن عويتي، زهير حسن، داوود جلاجل، حسين أبو حمد، تيسير إدريس، نصر وانتصار شمه، مفيد أبو حمدة، ولاحقًا زيناتي قدسية وغيرهم من الذين حققوا بدايات النشاط المسرحي الفلسطيني انطلاقًا من دمشق وتجوالًا لعروضهم في عدد كبير من العواصم والمدن العربية. خلال إدارته للمسرح الوطني الفلسطيني حققت الفرقة أولى عروضها المسرحية وكانت "محاكمة الرجل الذي لم يحارب" تأليف الشاعر الراحل ممدوح عدوان ومن إخراج حسن عويتي والتي قدّمت، إضافة لعروض دمشق، عروضًا في تونس والجزائر. ومن بعدها مسرحية معين بسيسو "العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع" والتي عُرضت باسم "الكرسي"؛ هذه المسرحية بالذات جسّدت نجاحًا فنيًا كبيرًا ومثّلت فلسطين في "مهرجان المسرح العربي" في الرباط المغربية عام 1974 ووصفتها صحيفة "لوموند" الفرنسية بأنها "أكثر مسرحية عبّرت عن فلسطين وقضيتها"، كما أشادت بالإخراج الفني وما حمله من شاعرية وتقنيات عالية. وقد قدّم المخرج الراحل مع المسرح الوطني الفلسطيني مسرحية "العنب الحامض" للكاتب البرازيلي جولورميه فيجيوريدو، ومسرحية "جسر آرتا" للكاتب جورج ثيوكوتا.

هو أيضا من أوائل المخرجين الذين أسّسوا "المسرح الجامعي" في دمشق، وقد قدّم له مسرحية اللبناني العالمي جورج شحادة "مهاجر بريسبان" وحقّقت كما مسرحياته مع المسرح الوطني الفلسطيني نجاحات كبرى وأشاد بها النقاد ورواد المسرح وهو المسرح الذي شهد البدايات الأولى لعدد من أبرز نجوم الدراما في سورية ومنهم سلوم حداد وعباس النوري والراحل محمد حوراني ورشيد عساف.

حياة خليل طافش شهدت ما شهده وعاشه الفلسطينيون، فقد تعدّدت محطات حياته في الجغرافيا العربية متنقلًا حتى استقر به الترحال في نواكشوط عاصمة موريتانيا عام 1977 وهي الفترة التي امتدت حتى عام 1994 وكان خلالها يقوم بالتدريس في المعاهد الفنية الموريتانية ليعود بعدها إلى غزة بعد غربة طويلة حيث عمل مسؤولًا عن "إدارة التنشيط المسرحي" في وزارة الثقافة الفلسطينية فعمل مع أحد أبرز أصدقائه، الشاعر الراحل أحمد دحبور، ورافق الأجيال الجديدة من المسرحيين والفنانين والشعراء من أبناء غزة والضفة الغربية، حتى أحيل للتقاعد عام 2003 وهي المرحلة التي أحسّ خلالها بالاستقرار بين أهله وفي مدينته الأولى التي عاش فيها سنوات صباه وشبابه الأول وأعتقد أن تلك الفترة كانت أغنى أيامه وأقربها إلى روحه.

خليل طافش الفنان والإنسان ابن التجربة الكفاحية الوطنية الفلسطينية ومن رواد الفن والأدب الذين آمنوا بالدور الكبير الذي يقع على كاهل الأدباء والفنانين، ظلّ وفيًا لالتزامه وفنه وقضيته، وعمل بهمة كبيرة على ترسيخ القيم الفنية وترسيخ مؤسسات فلسطين الثقافية، فداهمته الأحداث الكبرى التي عصفت بقطاع غزة وما عاشه القطاع من حروب تدميرية وتقلبات سياسية عاصفة وضعت الفن والفنانين في مآزق لا تحصى، وأقامت أمامهم سدودًا من الإحباط ومناخًا من اليأس.

هو مثال ونموذج لمخرج فنان امتلك الموهبة الكبرى، وحقّق القليل الذي سمحت به الظروف القاسية من طموحه وحلمه الكبير حتى غادر عالمنا قبل أيام.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.