}

الإعلام الثقافي ومساحات التأثير

ليندا نصار ليندا نصار 21 يونيو 2024
هنا/الآن الإعلام الثقافي ومساحات التأثير
الإعلام الثقافي هو نقد صحافي يقوم على التواصل(Getty)

لا شك في أن الإعلام الثقافي هو أداة فعالة وجوهرية لتحقيق ما يسميه وليام ماركس بـ"العيش في مكتبة العالم"(1) من أجل الحق في التعرف على الآخر عبر "الانفتاح، والهجرة نحو الأمكنة البعيدة، وارتياد المجهول الذي يُنعش المرء، فيما هو يحرره من وهم النزعة التفوقية في مواجهة الآخر، ويعمق فيه الشعور بالغرابة بإزاء ذاته"(2) في أي شكل من أشكال الهيمنة وتجسيدها ثقافيًا(3)؛ فهو يسعى إلى بناء الفكر النقدي حتى في تلك المنطقة التي تفترض وجود احتمالات عديدة في ظل تدافعات أيديولوجية على المخيلة العربية وطرائق تصويرها، ما دام هذا الفكر الذي يخضع إلى التلقي هو نفسه "نتاج عمليات ذهنية وتمثيلات تسعف في الانتقال من الحساسية وحالات الانفعال إلى العقل والمفهوم، والانطلاق من العيني إلى المجرّد من دون استعمال لغة مفتعلة في تجريديتها"(4) عبر مختلف الوسائط بما فيها الوسيط الإعلامي الثقافي.
إن الرغبة في تقليص الهيمنة الثقافية من داخل "النظام العالمي بما يتسق مع أهداف النظام العام وغاياته وبما ييسر تحقيقها"(5)، يدفعنا من موقع المساءلة إلى البحث في استراتيجيات الخطاب الثقافي في ضوء نظريات الإعلام الجديد التي تتيح إمكانات لتوسيع آليات القراءة المنتجة للأفكار والتصورات بهدف تمرير وعي مفارق لكل ما هو جاهز ونمطي إلى المستهلكين كافة بهدف تقريب التراث الثقافي والهويات الفنية المعاصرة كونها واجهة للفكر(6)، وتحصينًا للمجتمعات العربية من سياسات المحو التي تنهجها مختلف الجغرافيات الثقافية لنشر العولمة كشكل واحد لضرب الخصوصيات الثقافية المحلية وجعلها مهددة.

الإعلام الثقافي والتلقي المنتج
في دراسة "الإعلام الثقافي وإشكالات التأثير" يعمد الباحث إلى تحليل مستويات التلقي المنتج في ضوء الطفرة النوعية التي يشهدها الإعلام الثقافي الرقمي؛ إذ بات واضحًا أن التأثير لم يعد يرتبط بذلك النمط التقليدي من الإعلام الثقافي، سواء كان عبر محمولات ورقية، أو سمعية بصرية، أو رقمية، الأمر الذي يقدم مقاربات تسعى إلى تفكيك الأنساق المضمرة للخطابات والنصوص والأجناس والفنون، وإنما أضحى الأمر يتعلق بمواكبته بصورة تراعي الرغبات والأهواء، وكذلك حجم الدعاية للسوق الثقافية العربية.
كذلك يتوخى الباحث تقديم تمظهرات هذا التأثير في علاقتها الوطيدة ببعض التجارب الإعلامية الثقافية العربية التي استطاعت أن تتفاعل على نحو منتج مع فئات ظلت خارج تفكير هذه المؤسسات الإعلامية. ومن شأن هذه الدراسات أن تسهم في بناء صورة واضحة حول طبيعة هذه التحفيزات التي تجعل من الإعلام الثقافي أداة لبلورة الذوق، والمساهمة الفاعلة في دعم الصناعات الإبداعية.




وعلى هذا الأساس، تبرز مجموعة من الأسئلة، أو الإشكاليات: ما هي الآليات التي تتحكم في صوغ هذا التأثير عبر الوسائط الإعلامية الثقافية وتقنياتها؟ هل يتعلق الأمر بتصورات مضمرة تستجيب لشروط القراءة المنتجة، أم تعمل على تجسيم معرفة جاهزة ودمجها داخل الخطاب الإعلامي الثقافي بما يحقق دينامية على مستوى الأثر، بما يعنيه ذلك من سطوة على العقول والتلاعب بها؟ وما هي مساحات هذا التأثير داخل الإعلام الثقافي العربي؟
فإذا كان الإعلام الثقافي هو عبارة عن نقد صحافي يقوم على مبدأ التواصل مع المنجز الثقافي بمختلف أشكاله النصية والبصرية، والعمل على تقديمها داخل الفضاءات الإعلامية، فإن الخطاب الإعلامي الثقافي يمكن أن يوجه القارئ العام والمفترض نحو هذا الخطاب بهدف التأثير والهيمنة. فهل يمكن أن يخضع هذا الخطاب إلى مقومات معرفية تبعده عن أي نزوع ذاتي، أو أيديولوجي، أو تجاري محض، أم أن التوسطات التي ينهجها الخطاب الثقافي الإعلامي قادرة على أن تجعل المتلقي في وضعية نشاط ذهني حقيقي يمارس عبره ما أسميه بالقراءة المنتجة؟
من هنا، يمكن أن نسائل الخطاب الثقافي الإعلامي العربي من موقع نقدي مزدوج(7) يسمح بالتفكير في البرنامج المفاهيمي الذي تستند إليه التجارب الإعلامية الثقافية العربية وآلياته الإنجازية، كما هو الأمر مع الحوارات والسير الغيرية والوثائقيات والقراءات والبورتريهات والمتابعات، سواء كانت عبر الوسيط الورقي، أو المحولات الرقمية، بما فيها المنصات التي تقوم على التفاعل المباشر بين منتجي الخطاب الثقافي والجمهور داخلها.
لقد وضَّح دانيال بونيو سيرورات التحول التي يعرفها الوسيط الإعلامي في سياق الأزمة حين يقر بالثمن الباهظ "للخبر الباهظ وللمعلومة الموثوقة المؤكدة، ونظرًا لتزايد تَحَكُّم دور العلاقات في العملية التواصلية، يمكن أن نفهم لماذا تفضل وسائل الإعلام الاختيار الكثيف والعددي للمعلومة وللفعل التواصلي على الخبر ووظيفته الإخبارية، وفقًا لضوابط ومحددات الوظيفة الإعلامية"(8). ومن هنا يتسنى لنا فهم طبيعة الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي الإعلامي.

الإعلام الثقافي: نحو وعي جديد في ضوء أسئلة التحولات
بات من المؤكد أن الحاجة إلى إعلام ثقافي عربي قوي من أجل الإسهام في تغيير الواقع التاريخي الذي "انتهى بالفكر العربي إلى أن يعالج قضاياه الثقافية من الموقع الذي ينظر فيه إلى حالته الحضارية، وهو مركون إلى الزاوية الدفاعية، فلم يعد في وسعه أن يجرؤ على إلقاء السؤال الحضاري الأكبر"(9)، فلا غرابة في أن نعيش ثورة صناعية ثالثة ترتبط بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل التي نجحت في خلخلة طرق الإنتاج والاستهلاك بفضل سرعة انتشار المعلومة وقوة التفاعلية والعلاقة الجديدة من حيث الزمان والمجال إلى درجة أن ثقافة الولوج أصبحت متصلة بالشعور الترابطي؛ فـ"الأيديولوجية الممررة من طرف الرقمي تتطابق، على ما يبدو، في كل النقاط مع فترة الحداثة التي يتحدث عنها المحلل الأميركي جيريمي ريفيكين: لقد أصبحت عملية الربط أكثر أهمية من كل الأمور الأخرى؛ فثقافة العلاقة، واستهلاك التجارب المعيشية، فوق كل اعتبار"(10).




إن الإعلام الثقافي يرد على نمط من النمذجة الحاصلة في ما يتعلق بالنشر المفتوح لبعض مراكز الوسائط المستقلة. "إن أهمية الانتقاء الطبيعي إلى ارتباطه بإحدى القصص الأساسية المروعة المتصلة بالشبكة ــ الزعم بأن المعلومات الموجودة على الشبكة لا يمكن الوثوق بها ــ وهو ادعاء شائع ــ لأنه ليست هناك رقابة جودة مركزية، أو تحكيم، أو انتقاء تحريري"(11)، وعلى هذا النحو، يسعى الإعلام الثقافي إلى الاهتمام "بقضايا الثّقافة وأسئلة الإبداع، ويناقش قضايا المعرفة وهمومها، ويطرح أسئلة الحضارة وإشكاليّاتها والهويّة"(12)؛ إن تدفق الثقافة بصورة معينة عبر الوسائط يجعلها تعاني عيوبًا بفعل هذه السهولة، وبخاصة التي تدعي استقلاليتها تصبح موضعيتها "خاضعة إلى صخبها الترويجي المتضارب"(13). فقد تراجع الإعلام الثّقافيّ جراء عدم احتضان المواهب الحقيقيّة، إذ سادت الفوضى، خصوصًا إثر غياب الملاحق الثّقافيّة العريقة الّتي أشرف عليها أدباء وصحافيّون كبار. وما أثّر في هذه الأزمة أيضًا، سهولة النّشر في المواقع الإلكترونيّة الّتي لا تهتمّ بنوعيّة العمل"(14) على الرغم من وجود مواقع ثقافيّة جادّة استطاعت أن تبلور وعيًا جماليًّا مفارقًا، ثمّة مواقع ثقافيّة رقميّة يشرف عليها أشخاص غير مؤهّلين تمامًا للقيام بذلك، ولا يستطيعون تمييز الموادّ والنّصوص، وهذا مجال آخر يحتاج إلى قوانين منظّمة أكثر من رؤى ثقافيّة ونقديّة يمكن أن تكون مسعفة في تحليق هذا الإعلام، والدّفع به نحو ممارسة دوره التّنويريّ، وبناء المسافة النّقديّة، والتّشجيع على التّحليل، والاختلاف، والرّأي والرّأي الآخر(15).
إن حضور الأعمال الفنية من داخل هذا الإعلام الثقافي يمارس نوعًا من التأثير لإبراز مناحٍ حياتية على نحو مغاير تجعل الإنسان في حالة تلق منتج يتسم بتحقيق المتعة والفائدة؛ ذلك أن الأعمال الفنية تجعلنا نستعيد علاقتنا بـ"متعة الإثارة بما في الحياة، ونرى بذلك الأشياء المألوفة على نحو جديد"(16). وعلى هذا الأساس، يتيح الفن الإسهام في بناء رؤية جديدة للعالم بما يمكن أن يغير طبيعة النظر إلى الحياة نفسها انطلاقًا من سؤال الوعي بهوية هذه الأنا وتفاعلاتها مع عناصر الحياة وكينونتها عبر الإدراك.

هوامش:
(1) - وليام ماركس، العيش في مكتبة العالم، ترجمة: إدريس الخضراوي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2024.
(2) - المرجع نفسه، ص: 12.
(3) - هربرت شيلر، الاتصال والهيمنة الثقافية، ترجمة: دكتور وجيه سمعان عبد المسيح، مراجعة: محمد مختار التهامي، مكتبة الأسرة، ط1، القاهرة، 2007، ص: 73.
(4) - محمد نور الدين آفاية، في النقد الفلسفي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2014، ص 11.
(5) - هربرت شيلر، الاتصال والهيمنة الثقافية، مصدر سابق.
(6) - فريد الزاهي، فتنة الحواس: كتابات عن الفن العربي المعاصر، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2016، ص 16.
(7) ونقصد بالنقد المزدوج كما يطرحه المفكر عبد الكبير الخطيبي.
(8) -Bougnoux D. Communication et vérité. Dans Etudes. Juillet-Août 1995. pp 47-57.
(9) - عبد السلام المسدي، نحو وعي عربي ثقافي جديد، كتاب دبي الثقافية، العدد 34، ط1، مارس، 2010، الإمارات العربية المتحدة، ص: 91.
(10) ـ ريمي ريفيل، الثورة الرقمية، ثورة ثقافية، ترجمة: سعيد بلمبخوت، مراجعة: الزواوي بغورة، سلسلة عالم المعرفة، العدد 462، يوليو 2018، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص: 17.
(11) ـ جون هارتي، الصناعات الإبداعية: كيف تُنتَج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة؟، سلسلة عالم المعرفة، العدد 338، الجزء الأول، ربيع الأول 1428- أبريل 2007، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص: 110.109.
(12) - عبد الله تايه، الإعلام الثّقافيّ في الإذاعة والتّلفزيون، منشورات دار الماجد للطّباعة والنّشر، رام الله، فلسطين، ط1، 2006، ص: 25.
(13) ـ جون هارتي، الصناعات الإبداعية: كيف تُنتَج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة؟، سلسلة عالم المعرفة، العدد 338، الجزء الأول، ربيع الأول 1428/ أبريل 2007، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص: 110.
(14) - سعيد يقطين، "الإعلام الثّقافي"، جريدة القدس العربيّ، لندن، بتاريخ 16 تمّوز 2014.
(15) - ليندا نصار، تحولات النقد الأدبي في الصحف العربية، دار خطوط وظلال، الأردن، ط1، 2020.
(16) - أرثر أيزابرجر، النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية، ترجمة: وفاء إبراهيم ورمضان بسطاويسي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ط1، 2003، ص 73.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.