يرى عالم اللغة وقواعدها د. نهاد الموسى أن اللغة العربية الفصيحة كانت لغة الجاهلية، وهي لغة التنزيل العزيز أيضاً. ويضيف: العربية الفصيحة - كأية لغة – كينونة محايدة. أما العامية في الحالة العربية فهي غير صالحة إلا في نطاق تداولها في البيئة المحلية. ولن يكون عملياً أن نتخذ لهجة عامية عربية واحدة لساناً جامعاً، إذ سيواجه أبناء العربية الناطقون باللهجات الأخرى صعوبة لعلها تفوق تعلم العربية الفصيحة. أما عنا نحن أبناء اللغة فكأننا في برج بابل.
في هذا الحوار يوضح د. نهاد المزيد من رؤيته وأفكاره في ما يتعلق باللغة العربية وما تعانيه في هذا العصر، وهو الباحث والمؤلف والمدرس لأزيد من نصف قرن في رحاب اللغة العربية.
* دعنا نتحدث عن هذا اللغز: طفولة اللغة العربية! ما عرفناه منها، سواء في الشعر الجاهلي أم في القرآن، هو نضجها وتبلورها إلى حد كبير. أين كانت هذه اللغة من قبل، وهل هناك أدبيات بها قبل الشعر الجاهلي؟
-قد تدلنا صورة العربية التاريخية - وهي الفصيحة التي نتداولها في وجوه التأليف والتعليم والإعلام الآن – قد تدلنا على ملامح من أطوار سابقة مرت بها العربية ومن ذلك هذه الظواهر القليلة أو الشاذة في صورة العربية المتعارفة، وقد تدلنا النقوش الباقية على بعض ملامح العربية في أطوار سابقة كما تكشف لنا مقارنة العربية بأخواتها عن ملامح أخرى، وتظل الدراسات الباحثة عن اللغة السامية الأم هي السبيل المنهجية التي قد تفضي بنا إلى تاريخ هذه الأطوار السابقة من حياة العربية، وتظل الدراسات القائلة بأن العربية هي أصل اللغات مستأنسا في هذه السبيل بما يوافينا بمعطيات مستطرفة قد ينتسب بعضها إلى المعرفة، ولكن كثيراً منها قد يكون تخمينا وخيالاً.
بين الفصحى والعامية
* من مشاكل اللغة العربية التي نعانيها اليوم الفصل، شبه التام، بين لغة القراءة والكتابة ولغة الكلام في العاميات العربية التي يصل الاختلاف بينها الى حد الاستعصاء أحياناً، هل من حل لهذه الازدواجية التي تجعلنا كأننا نتكلم لغتين ونفكر بطريقتين؟
- ظاهرة الازدواجية تتمثل في مستويين من العربية: الفصيحة والعامية؛ وهي ظاهرة نجمت قديماً أشار إليها ابن خلدون منذ القرن الثامن في حديثه عن اللسان المضري (اللغة الفصيحة) ولغات أهل الأمصار (العامية) وقد جدد القول في هذا وليم مارسيه. وكان تشارلز فرجسون في بحثه في مجلة (وُرد) Word 1959 بعنوان Diglossia أشار إلى العربية وثلاث لغات أخرى تتمثل فيها هذه الظاهرة، وجعل الفصيحة على أنه مستوى (عال) وعلى العامية على أنه مستوى منخفض. وهذان المستويان يتقاسمان الوظائف في حياتنا؛ فالفصحى لغة القرآن والحديث والتراث الأدبي والإبداعي؛ وهي ما تزال لسان التأليف أو الإبداع، وما تزال لسان جل نشرات الأخبار والبرامج الوثائقية. أما العامية فهي عاميات شتى تكتسب في الطفولة ويجري اللسان بها عفواً وتلقائياً في محيطها المحدود. إذ إن الانتقال من العامية إلى الفصيحة يقتضينا تدريباً وتعليمياً منهجياً؛ وذلك أنه إذا أحسن تحقيقه تحققت لنا به مزايا الفصيحة في أنها لسان التراث والوحدة الجامعة ومزايا العامية في حميميتها في نطاقها المحلي. قد يعاني أهل العربية الذين اكتسبوا لهجاتهم العامية في الطفولة، وجل التداول في المحيط الاجتماعي قد يعانون عند الانتقال إلى الفصيحة؛ وهذا يحمل عليهم عبئا إضافياً. ولكنهم يجدون أن العامية لا تسعدهم في التواصل إلا في نطاق ضيق من خطاب المشافهة. وتصبح مزايا الفصيحة أغلب وتستحق الجهد المنهجي الذي يبذل لاستدخال نظامها.
لسنا نتكلم بلغتين بالمعنى الحرفي؛ فالعلاقة بين الفصيحة وكل عامية ظاهرة؛ ولهذا يظن كثير من الناس أنهم ليسوا محتاجين إلى تكلف الجهد اللازم لاستدخال نظام الفصحى، أما التكلم بلغتين فيحتاج إلى تدبير ودراسة، ولو صح فإنه يمثل مزية كالذي يتمتع به من يتحدث لغتين أو أكثر مثل اللغة العربية واللغة الإنكليزية مثلاً.
* يرى العالم النفسي المصري الفرنسي مصطفى صفوان في كتاب له بعنوان "لماذا العرب ليسوا أحراراً" أن تأخرنا نابع من ازدواجية اللغة، واستخدام اللغة الرسمية لغة قمع من قبل النظام السائد سواء كان سياسياً أم تربوياً أم دينياً، لذلك يدعو الى الكتابة بالعاميات العربية، وهو ترجم، فعلا، مسرحية لشكسبير بالعامية المصرية.. ماذا تقول في هذا الرأي؟
-إذا كان المقصود باللغة الرسمية هي اللغة الفصيحة فليس هذا حقاً. كانت الفصيحة لغة الجاهلية وكانت لغة التنزيل العزيز أيضاً. العربية الفصيحة - كأية لغة – كينونة محايدة. أما العامية في الحالة العربية فهي غير صالحة إلا في نطاق تداولها في البيئة المحلية. لن يكون عملياً أن نتخذ لهجة عامية عربية واحدة لساناً جامعاً، إذاً سيواجه أبناء العربية الناطقون باللهجات الأخرى صعوبة لعلها تفوق تعلم العربية الفصيحة، فكيف أن يتفقوا على لهجة واحدة أصلاً. ولم تنجح محاولات ترجمة شكسبير إلى العامية المصرية ولا غيرها من المحاولات في هذا الاتجاه أن ترسم بديلاً لغوياً يقوم مقام اللغة العربية الفصيحة في شمولها المكاني وامتدادها الزماني وفضائها الإبداعي وارتباطها بالمقدس والتراث والهوية الجامعة.
* تُطرح بين حين وآخر أفكار ومقترحات لتيسير اللغة العربية وتسهيلها في الدراسة والكتابة، منها اقتراحات المعجمي العراقي الراحل هادي العلوي في كتابه "المعجم العربي الجديد" الداعي إلى تبسيط المكتوب وتفصيح المنطوق.. وهناك دعوات تصل إلى ما يسمى بالنحو الساكن.. وهو الأمر الذي عليه الكلام اليومي الذي لا يخضع لحركات الإعراب.. أين تقف كلغوي مرموق بين هذه الدعوات؟
-تفصيح المنطوق فيقوم على محاولات لم تنجح في البيان عن وجوه التقارب بين العاميات العربية وتأصيلها في الفصحى، ولعله يتمثل في أن العربية الفصيحة كانت في الأصل لغة منطوقة، ويمكن توجيه التعليل إلى صورة العربية كما نجدها في كتب علماء العربية؛ إذ هي هناك لغة مرتبطة بسياق استعمالها. وقد عرضت لذلك في بعض بياني عن الفرق بين العربية المنطوقة والعربية المكتوبة ثم تناوله الدكتور محمد رباع، وأنشأ عليها أطروحته للدكتوراه (الفصحى المنطوقة) التي تمثل مشروعاً جديراً بالإحياء العملي.
أما تبسيط المكتوب فدعوى إن نحن تناولنها في براءة قلنا أين الصعوبة في نظام الكتابة وتدبرنا تيسيرها بوسائل التعليم. وأما ما عدا ذلك فيحيلنا إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني لحل مشكل الكتابة العربية غير مشكولة، وقد أثيرت هذه المسألة وجرى فيها سجال كثير وقدمت مقترحات، ولعل أيسر تدبير يتمثل في شكل المواطن الملبسة في الكلمة العربية غير المشكولة.
* "اللغة في ضوء اللسانيات الحاسوبية"، واحد من مؤلفاتك المعروفة، هل يمكن أن تبسط لمن لم يقرأ الكتاب خطوط العريضة؟
-يدور الكتاب على مسألة تمثيل نظام العربية ومهاراتها للحاسوب ليصبح قادراً على أداء العربية ووظائفها، كما يؤديها العربي الذي يتحلى بالكفاية اللغوية في العربية جميعاً، فيصبح الحاسوب قادراً على قراءة المكتوب وتحويل المنطوق إلى مكتوب إلى آخر المهارات والكفايات التي يتحلى بها المتكلم المثالي للغة.
الإعلام والعاميات
* يساهم الإعلام، المرئي والمكتوب،، في هذه المرحلة، من جنوح للعاميات على حساب الفصحى حتى إن بعض الفضائيات تبث نشرات أخبار بالعامية؟ لم نعد نسمع الفصحى إلا في دروس الدين، وهذه أيضاً صارت تلقى بالعامية لتيسير الفهم لجمهور نصفه لا يقرأ ولا يكتب، كما هو الوضع في الحالة المصرية الأكثر جنوحاً وتكريساً للعامية على حساب الفصحى.. ماذا تقترح في سبيل بقاء الفصحى في الإعلام الشعبي؟
-حديث الإعلام حديث ذو شجون إذ يتصدر الإعلام بوسائله المختلفة المشهد العربي الحاضر. فإذا كان مكتوباً (كما في الصحافة) كانت الفصيحة لسانه وإذا كان مسموعاً مرئياً تمثل في مستويات: الفصحى في تلاوة التنزيل، والفصيحة في نشرات الأخبار والبرامج الوثائقية وإنشاد الشعر وبعض الغناء به، والوسطى في خطاب المتعلمين، والعامية أو العاميات في خطاب المشافهة في شؤون الحياة اليومية وكثير من المسلسلات الدرامية التلفزيونية. حقاً إن تنامي النزعة الجهوية قد أدى إلى تنافس العاميات مع حالة نادرة من التواصل فيما بينها. ليست واضحة عندي حدود المراد بالإعلام الشعبي؛ إذ إن العامة تتلقى المسلسلات المدبلجة من أميركا اللاتينية وكوريا بالعربية الفصحى، وتتلقى الإعلانات بالفصيحة والعامية على حد سواء. إن التلقي يختلف عن الأداء؛ فالعامة يتلقون الفصيحة كما يتلقون العامية لما بينهما من القربى، ولكن الأداء لا يتيسر لهم. إلا بالتدريب المنهجي والممارسة العملية. إن اختيار المستوى اللغوي تحكمه شروط متباينة لن تتقبل العامة أن تكون خطبة الجمعة بالعامية، ولا تتقبل أن تكون نشرة الأخبار بالعامية مثلاً.
* يعاني الطلبة، حتى في الجامعات، من ضعف لغتهم العربية، ويتخرج كثير من هؤلاء من دون أن يستطيع كتابة رسالة قصيرة على وسائط التواصل الاجتماعي من دون كومة من الأخطاء.. في ضوء تجربتك الطويلة في التدريس الجامعي.. ما الأسباب التي وراء هذه الظاهرة المقلقة؟
-لعل للازدواجية أوفر النصيب في هذه الحالة لأنها توهم أن العامية أو الوسطى تغني في أداء مهمة اللغة، ولعل الميل الفطري لدى الإنسان للاقتصاد في الجهد وغياب الحافز العملي إلى إتقان الفصيحة يمثل وجها من التفسير. إن موقف أبناء اللغة منها وهو موقف تتجاذبه قيم وقوى متنوعة هو أحد الأسباب الرئيسة لهذه الظاهرة.
المعجم التاريخي للغة العربية
* أنت عضو في هيئة "معجم الدوحة التاريخي". أعطنا فكرة عن هذا المعجم، من هم أبرز علمائه، وما هو تصورك لدوره في الحفاظ على اللغة العربية وتقدمها في عالم تتراجع فيه، أو تنقرض، اللغة التي لا تحافظ على مجاراة منجزات العصر العلمية والتكنولوجية؟
-المعجم التاريخي للعربية مشروع جليل ومسعى لتحقيق هدف جليل؛ وهو هدف مأمول طال انتظاره ولم تنجح المحاولات حتى الآن في إنجازه. هو باختصار معجم يمكن الناظر فيه إذا التمس (مفردة) أن يعرف أول ما استعملت عليه، وماذا كانت تعني ثم يعرف ماذا طرأ عليها في دورة الزمان، وما التحولات التي طرأت عليها، كما يعرف أصلها إذا كانت معربة، ومتى دخلت إلى العربية، إنه معجم لأنساب اللفظ وسلالاتها عبر الزمان العربي؛ وهو يطلعنا على تاريخ الكلمات وحياتها ووسائل ازدهارها وعوامل انحسارها؛ وهو ضروري لرصد منجز العربية وأهلها. وهذا ما يؤملُ أن يحققه معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وقد رسم له أن ينجز في خمس عشرة سنة؛ وهو ينتظم مجلساً علميّاً يتكون من خمسة وعشرين من علماء العربيةِ المرموقين، كما ينتظم لجاناً مركزية وإقليمية تسعى في إنجازه، بعد أن استوفى الشروط الإجرائية والتراتيب الفنية والمنهجية والمدونة اللازمة لإنجاز الحلقة الأولى الممتدة خمسة قرون من عمر العربية حتى نهاية القرن الثاني الهجري؛ وهي حلقة من خمس حلقات ويقدر له أن ينجز بهذا الحساب في خمس عشرة سنة. ولا ريب أنه في حال إنجازه سيكون إسهاما مشهوداً في حياة العربية وبث الثقة بقدرتها على مجاراة العصر.
* كيف ترى المشهد اللغوي الآن، بعد ما يقارب نصف قرن من تدريسك اللغة العربية؟
-كأننا في برج بابل، تتنازعنا في أمر اللغة قيم وقوى تفيء في نهاية التحصيل لعاملين: الاقتصادي، والثقافي. من يعول على البعد الثقافي يفيء إلى الفصحى، ومن ينشد المردود الاقتصادي يتردد بين العامية والفصحى، وحسب قوى كل منهما في القدرة على بلوغ غايته! برأيي الشخصي ليس ثمة خوف على اللغة العربية بالرغم من الأحداث الكبيرة التي تمر بها الأمة، واللغة ليست مهددة من قبل الآخر.