}

الكرسي

جميلة عمايرة 13 أغسطس 2024
قص الكرسي
"كرسي الديكتاتور"، أسامة حجاج

 

يا إلهي.  ما أجمله من كرسي!.

أسّر الإمبراطور لصديقه المقرّب، والزهو يملؤه، حتى تكاد أوداجه الحمراء المنتفخة أن تنفجر، وكان يجلس بقامته الطويلة، على كرسيه العظيم مرتديًا حلّته الإمبراطورية، مستندًا بظهره للوراء، وبيده عصا الإمبراطورية المعدّة له من خشب السنديان، المرصّع بالذهب الخالص في صورتها الأخيرة.
أسّر قائلًا:

لم يسبق لي أن تذوقتُ حلاوة كرسي مثله من قبل.  ولم أكن أتخيّل حتى في أكثر أحلامي تفاؤلًا، أنني وحين ساقتني الظروف، بالصدفة المحضة، للظفر به، والتربّع على فرشه الوثير، بأنني ومنذ المرة الأولى، سأقع في غرامه. حالة من العشق بيننا أبدية. الكرسي. أعني الكرسي. حدث هذا، منذ أن اعتليته للمرة الأولى، ولم أبلغ العشرين من عمري.  فصار ماضي وحاضري وغدي.

الكرسي؟ سأله صديقه.

أجل. الكرسي. الكرسي هذا.

إنه جذابٌ. نُسج مقعده الوثير، من خيوط حريرية رقيقة ودقيقة، قادرٌ على جذبكَ إليه بقوة مغناطيسية خفية، بحيث تجدُ صعوبة بالغة في القدرة على مغادرته بسهولة، حتى لو كان الأمر ملحًّا، أو لحاجة طارئة، أو مستجدة. الكرسي، حينها أغادره مرغمًا، على أمل العودة إليه، في أقرب وقت.

الكرسي؟! سأل صديقة للمرة الثانية، وملامح الدهشة ترتسم على وجهه.

الكرسي، ولماذا تسأل بدهشة؟

الكرسي. أجل الكرسي.  إنه كل حياتي. منحني الكثير، ولا يزال يمنحني، بدون تعب أو شكوى أو تذمّر، أو ملل.

يدعني أبقى في دائرة التوازن النفسي، خاصة عند مقابلة الآخرين. ولهذه الأسباب وغيرها الكثير، وضعتُ كرسيًا، بصورة مطابقة لمواصفاته، في جناحي بالقصر البيتي. وكثيرًا ما أضبط نفسي منسحبًا بهدوء، من بين أفراد الأسرة، للجلوس عليه. أنا الملك المتوّج بحلّة من الزبرد والياقوت والعسجد، من بين الجميع. حتى إنني قمت بشراء الأثواب القديمة والنادرة، التي تعود إلى ملوك وأباطرة الزمن القديم.

المثير للدهشة، أعترفُ لك هنا أنني بت على استعدادٍ لأن أدع كل شيء ورائي: بدءًا من الأسرة الصغيرة، مرورًا بالعائلة، والأصدقاء، والناس، وكل شيء. كل شيء، أقول لك، ليذهب للجحيم، ما دمتُ أتربعُ بكبرياء وقوة، بسلطة ومهابة وجاهٍ، على هذا الكرسي الوثير الذي، وكما أخبرتك، وقعتُ في غرامه منذ المرة الأولى حين جلست عليه.

ورغم مرور عديد السنوات، على الألفة والتعوّد بيننا، أعني بيني وبين الكرسي الذي وصفته، بمعنى آخر الدخول بالروتين أو النمطية، إلا أنني في كل مرة أجلس بها، أحسُ وكأنها المرة الأولى. وأنسى كل شيء: التعب والإرهاق، النزاعات الكبيرة قبل الصغيرة، العائلة، الأفراد الذين تربطني معرفة أو صداقة أو صلة بهم. كل شيء أقول لك. كل شيء ما عدا هذا الكرسي.

أحقًا ما تقوله، أم مزاحًا؟!

أحيانًا يتناهى لسمعي، ما تتمتم به الحاشية، فيما بينهم، على سبيل المزاح، فيصيبني الضحك. أضحك كثيرًا. وأحيانًا يصلني ما يتهامسون به سرًا ورائي أو علنًا، من المبغضين، والحاسدين، وكذلك الطامعين والطامحين، القريبين بالداخل، أو الأعداء بالخارج، أتجاهله تمامًا ولا أكترث، بل لا يعنيني الأمر بشيء.

لهذا الكرسي "السحري" مكاسبٌ وفوائدٌ، لا تعدّ ولا تحصى. بعضها يمكنك معرفته، وبعضها الآخر لا يدركه سواي: إذ ما أن أجلسُ عليه، وأسند ظهري للوراء، محرّكًا قدميّ يمينًا ويسارًا، وأصابع يدي متشابكة حينًا، وحينًا أخر تذرع الهواء، أمام الجميع الذين يسارعون بالوقوف بين يدي، محنيّي الرؤوس، ينتابني إحساسٌ بالقوة وشعور طاغٍ يغمرني بالسيطرة والتحكم بالأفراد، بل وتحديد مصائرهم، ورسم أدوارهم.

يا إلهي ... ما أعظمه!!

الكرس.......؟

عرفته عن قرب، واستمتعتُ بمذاقة من أضواء وشهرة، وعزٍّ ومعارف، ومريدين ومقربين، وحاسدين، وكارهين، بتّ على استعداد لأن أدفع كل ما أملك في سبيل الاحتفاظ بهذا الكرسي. بل إنني بتّ لا أتورّع عن قتل أو تدمير ومعاقبة من يجرؤ على الاقتراب منه، أو من محيطه، أو حتى مجرّد التفكير به.

ومع إنني قرأت لكتّاب وشعراء يذمّون الكرسي، إلا أنني أتغاضى عن هذه الأقاويل والأفكار، دعك من هذا الهراء، أضعه في باب "الحسد" أو الغيرة، وأجلس هانئًا مرتاحًا مطمئنًا.

في الآونة الأخيرة، أقول لك، بأنني أحيانًا أنهض في الليل فزعًا من كابوس أسود ثقيل، رأيتني فيه، وأنا أبحث عنه في أرجاء القصر، بدون أن أعثر عليه، فيصيبني الهلع، وأخشى من فقدانه، أفتش كل الأمكنة وأنا أهذي: الكرسي الكرسي الكرسي  الـ .... لأجدني جالسًا عليه.

الكر....؟

تكرّر الكابوس، في ليال عديدة أخرى، فأُصاب بأرق لم أشهده من قبل، ولكي أتخلص من هذه الكوابيس السوداء، والأرق الذي يليها، والشك والظنون وما ينتابني من مخاوف وقلق وهواجس، قررت ألا أنام. أعني النوم في سريري، بل أن أبقى جالسًا عليه، إلى أن أغفو حتى الصباح.

أحس بأنني الإمبراطور الأول، سبق أن أخبرتك بأنه كرسي جذابٌ وساحرُ، حتى إنه بات يعرفني من مؤخرتي الكبيرة والثقيلة.

ولكن، - قال صاحبه أخيرًا -:  ألا تخشى يا صديقي من أن يهرم هذا الكرسي، وتهرم معه؟!

*قاصة وكاتبة أردنية.  

 

مقالات اخرى للكاتب

قص
13 أغسطس 2024
قص
10 أغسطس 2023
قص
1 يوليه 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.