}

الفنان العراقي ستار نعمة:أعتمد التشظي كتعبير عن غربتنا

علي لفته سعيد 23 مارس 2018

لم يكن الفنان التشكيلي العراقي المغترب ستار نعمة ذلك الفتى الذي تدور في رأسه فكرة أن يكون فنانا، أو أنه مجبول على أن يكون متميزًا، بل كان مسكونا بالإصغاء والإنصات إلى الظلمة الحالكة في أعماق كل الناس. ولعل تلك المرحلة الإنصاتية هي التي حفّزت في داخله مرحلة الانتباه إلى سؤال الوجود، سؤال الكيفية التي تواجه بواسطتها المعاناة أو الهرب أو المجتمع أو الطغاة أو أي شيء يخالف الجمال. لكن الإجابة لم يكن يريدها كما هي لدى البعض من المتدينين والفلاسفة والمفكرين حين يحاولون الإجابة عن مثل هذا السؤال بطرق التفكير الكتابي، بل أرادها بطريقة الخيال الذي يمنح الدهشة، فوجد في اللون والفرشاة واللوحة مادة للإجابة عن سؤال المعنى.

يرى نعمة أن الآخرين يأخذون الجواب والسؤال على محمل الجدّ ومن ثم يديرون ظهورهم وكأن شيئا لم يحدث. هو يرى الإجابة بطريقته حين يركز على اكتشاف السؤال الذي لا يحتاج إلى إجابة، يحرك الذات باتجاه الفن والأدب، ويصر على كتابة فلسفته الخاصة بين قوسين (أنا أعلم أن هناك سؤالًا ملحًا يحتاج إلى إجابة، أحمله في جعبتي لكنه لا يعنيني كثيرا) ليقول إنه منشغل عنه بمحاولة رسمه أو نحته. بل يؤكد أن فوزه بالجائزة البلجيكية أعطاه دافعا لكي يستمر والشعور بأن أحدهم يحمله مسؤولية كونه فنانا. 

المخيلة لا تحتكم

إلى شروط الواقع

(*) ثمة ما يتعالق ما بين الذاكرة والمخيلة في اللوحة التشكيلية، وثمة ما هو مفترق طرق بين الاثنين؟ ماذا تعني إقامة المعارض في عواصم العالم بالنسبة لك. هل هي ضمن البحث عن سؤال وإجابته؟

 - الذاكرة واقع ماض واضح المعالم، لكن المخيلة حدث مفتعل ومنفلت لا يحتكم إلى شروط الواقع، وهو ما تحتاجه اللوحة أكثر. ورغم أن الذاكرة تشكل الكثير من معالم المخيلة فينا باعتبارها المعلم الحسي الأول، فإن الخيال كثيف بالصور والمعاني والتي تتلاعب بالذاكرة لتنتج أشكالا جديدة. يقول أرسطو إن الموضوعات التي تعالجها الذاكرة تنتمي كلها إلى عالم الخيال الذي تصنعه قوة المخيلة.

وبالنسبة إلى سؤال المعارض يمكن لنا القول إنه عادة ما يحاول الفنان إخراج أعماله إلى العلن عن طريق إقامة معرض، وهو الشكل الكلاسيكي للتماس مع الجمهور، وطبعا هناك مسألة المردود المادي، والفنون التشكيلية سوق عالمية كبيرة، لذا نبحث عادة عن أماكن تكون احترافية من حيث نوعية الجمهور وقدرته على التقييم الفني والمادي للأعمال. أما قضية العرض في العراق فهي شيء مختلف، محاولة لكي نتنفس نحن وأعمالنا هواءً عبقًا برائحة التاريخ والذكرى. حين عرضت في العراق كان ذلك شيئا ساحرًا، وكانت نشوة لا توصف ولا تخضع أبدا لشروط الأسئلة أو التأويل.

(*) هناك من يعتقد أن الفن التشكيلي وبسبب عمليات التجريب أضاع فرصة فهم المتلقي؟ هل يعد هذا الفن نخبويا أم أن تشعب المدارس الفنية يعد مرحلة من مراحل التجريب والتطوير وما بعد الحداثة؟

- لا أؤمن كثيرا بأن الفن يحتاج إلى الفهم بقدر الحاجة إلى التذوق، والحاجة إلى أن تمرّ الإشارات الجمالية بلا تعقيدات الفهم، أما التجريب بنظري فقد أصبح مدرسة فنية مستقلة، تغرف من جميع ما سبق كما تغرف أيضا من اتساع رقعة الخيال والتقنيات. لا أعد التجريب نخبويا، لأنه واسع وعفوي في أحيان كثيرة ويدفع الكثيرين لاستسهال العملية الإبداعية ومد أصابعهم نحوها للمشاركة، وهذا ليس سيئا.

(*) ما الذي يشغلك ويأخذ تفكيرك أكثر، اللوحة وألوانها، أو اللوحة وفكرتها، أو الغلاف الذي اتجهت إلى تصميمه بتقنية رائعة لتكون واحدًا من مصممي الأغلفة الذين تتسابق عليهم دور النشر؟

- عادة أشتغل على التجريد التعبيري وهو يمنح التقنية حيزا كبيرا، أقصد اللون والمادة، والموضوع والفكرة هنا تحصيل حاصل، كما أنني من الذين لا يركزون كثيرا في تأطير المادة بالفكرة أو بأن الفكرة هي ما يمنحه اللون وذاكرتنا معه، ولأنني هنا سأكون أكثر حرية في تجاوز الفكرة لجعلها هائمة، مشتتة ومتشبثة بالمادة. أما الأغلفة فاتجهت لتصميمها لأن اختصاصي الأصلي هو الديزاين وتصميم الأغلفة جزء من عملي كمصمم، أتاح لي المشاركة في الإنتاج الأدبي لأصدقائي الكتاب، وهنا يدخل التشكيل على الخط، لأني لست فقط حرفي تصميم، باعتباري من داخل دائرة التشكيل، وهذا منحني أفقا واسعا في تصميم غلاف الكتاب لأن الغلاف جزء بصري مهم من عملية إنتاج أي عمل مكتوب، يتفاعل معه وقد يضيف إليه.




اللوحة عالم شخصي بحت

بخلاف تصميم الأغلفة

 (*) هناك دائما صعوبات مثلما هناك تفضيل فن على فن آخر أو جزء من موهبة على جزء آخر. أين تجد الصعوبة، في تصميم الغلاف أو في رسم اللوحة؟

- العملية مختلفة رغم اقتراب الأدوات، فالتصميم فن حرفي يتعامل مع منتوج، حتى وإن كان منتوجا أدبيا، فتدخل عملية التسويق والترويج كجزء من عملية التصميم، ولذا فهو عمل تكليفي، بعكس اللوحة، فهي عالم شخصي بحت والعمل عليها متعة، ومع اللوحة هناك تواصل من شكل خاص قد يشبه الصلاة أو التجلي. والشغف والمادة الحية التي تنساب فوق سطح القماش يصنعان سحرًا ما في روح الفنان.

(*) منذ سنوات وأنت تعيش في الغربة، وهو ما يولد معادلة صعبة بشأن كيفية الإمساك بالغربة والذاكرة أو البيئة القديمة.. هل تعاني من هذه المشكلة؟

- أنا هنا لا مفر لدي، فتكويني الفيزيائي والمعرفي صنعته بيئتي الأصلية حتى لو تعمدت إدارة ظهري لها باعتبارها صانعة للحسرة والألم في داخلي، لكن سرعان ما تتكشّف على العمل الفني متجاوزة تحفظي فتعلن عن نفسها بشكل أو بآخر بخط هنا أو لون هناك. بالنهاية هذا هو أنا بكل ما أحمله من رصيد أخلاقي أو ثقافي.

(*) معادلة الفن تعني معادلة الحياة والجمال. هل الفن التشكيلي يدخل في هذا المفهوم؟ وهل يشترط بالفنان التشكيلي أن يكون ملما بفلسفة رسالته على الأقل، بمعنى أن يكون مثقفا مطلعا؟ وهو ما يحيلنا إلى سؤال آخر: هل هناك فنانون غير مثقفين لا يدركون معنى اللوحة لكنهم يجيدون مزج الألوان أو يجيدون العلاقات العامة؟

-  في نواح كثيرة وجودنا ووعينا به فلسفة بحد ذاته، كل منا يحمل ذاك الثقل وذاك السؤال الوجودي العظيم "من نحن"؟ الفنان، وباعتباره مشتغلا بالفن، يتعامل مع حساسية عالية تحتاج إلى الكثير من الوعي والمعرفة وقد تأتي الفلسفة لتفتح أفق السؤال وتعيد إنتاجه بصيغ جديدة ومتجددة، وهذا هو زاد الفن ووقوده الذي لا ينضب. أتذكر جيدا مقولة أستاذي للفن المعاصر روبان بوربيه في أكاديمية سانت جيل في بلجيكا يوم كنت أدرس الرسم، حيث قال لي "تذكر أن هناك فرقًا بين أن تكون فنانا أو أن تكون حرفي رسم". ويومها كنت أحاول جاهدا رسم الموديل ومهتم كثيرا بإخراج التفاصيل. وقال لي أيضا: "حاول إخراج شيء يتحدّث عن الجسد لا الجسد نفسه"، ولذا هناك الكثير من حرفيي الرسم لكن بلا عمق وبلا إضافات تثير دهشة السؤال.

(*) يقول بعض النقاد عن لوحاتك إنها محتشدة بالكثير من استعارات اللغة التعبيرية عبر وجوه الشخصيات الغائمة وعبر ما توحي به أجسادهم المتشظية والغامرة، إذ تمثل هذه اللغة تقصيا صوفيا للكشف عما في دواخلهم من اغتراب. وأنت قلت مرة إن الفن هو مفتاح التصدي للعنف. كيف يمكن التأثير على المتلقي بمثل هذا القول؟

- أعتمد التشظي كتعبير عن غربتنا، ولا أقصد الغربة الجغرافية فقط بل غربتنا كبشر في عالم غامض مسكون ومحتشد بالأسئلة والظلمة العميقة في ذواتنا، وأنا هنا لست بصدد الإجابة عن الأسئلة بقدر الإلحاح على إعادة السؤال ليكون محورا أساسيا لبعث الفضول والتقصي، فهذا هو عزاؤنا. وبالتأكيد أنا لم أقصد أن العملية هي عملية ميكانيكية مباشرة بل إن شرطها الأول هو إرادة سياسية اجتماعية تنبّهت إلى خطر العنف والانغماس في الرجعية لأنه خطر وجود بالنهاية والشعوب يجب أن تكون لديها مستشعرات لمثل أخطار كهذه. المستشعرات التي تنبه هنا هي النخبة التي تشتغل بالفكر والأدب والفن، لكن يبدو أنه صراع كحال كل الصراعات يحتاج إلى التحشيد والتوعية والمواجهة. أتمنى أن يرسم شاب رسمةً كبيرة عن الحب والجسد في إحدى أعظم ساحات بغداد إشارة إلى استمرار الحياة.

(*) ما يلاحظه البعض عن لوحاتك أنها تجنح إلى المواجهة لتعرية الواقع بكل المسميات المؤثرة على الحياة. هل يملك الفن التشكيلي رسالة سياسية أيضا وإيديولوجية غير الجمالية؟ 

- لا أرغب في وضع الفن بخانة السياسة، لأننا جميعا متيقنون من عدم نزاهة السياسة ودنسها، لكن أعتقد أن الفن ليس بعيدا عن السياسة والإيديولوجيا، لأنهما يؤثران كثيرا على مسار حياتنا. تخيل معي لو أن هناك إرادة سياسية حقيقية للنهوض بالواقع المتردي، فلا مفر من إبداء الرأي والصراخ في وجه الفاسدين والسياسيين، وأشد ما يؤلمني أن يروّج فنان أو مثقف لسياسي فاسد بداعي التملق. لذا فإن من يقول أو يطرح سؤالا آخر بأن هناك اغترابا في كل شيء بما فيه التشكيل والنحت وصار من الصعب الوصول إلى لحظة التأويل الحقيقية للوحة أو صيد القصدية، فإن هذا القول أسميه اتساع الدائرة وخروجها إلى ما هو أوسع من حدود البحث عن القصد، فالبحث منهك ويشغلنا عن التأمل والصفاء. الفن يشبه الوجود بعبثية السؤال عن قصديته، وما دام هناك متلقّون ما زالوا شغوفين بالفن، فهو مستمر بأداء مهمته، وبكونه ملهما ويسد فجوات ظلمة السؤال فينا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.