}

محمد نورالدين أفاية: التخيّل أحد أهم آليات الفعل الإبداعي(1)

أشرف الحساني 17 أبريل 2019
حوارات محمد نورالدين أفاية: التخيّل أحد أهم آليات الفعل الإبداعي(1)
المفكر المغربي محمد نورالدين أفاية
لا أحد يستطيع أن يشكك اليوم في كتابات المفكر المغربي ابن مدينة سلا، محمد نور الدين أفاية، كأحد الأقلام الفكرية المغربية المائزة، بل والأرفع عربياً، بما تتميز به كتاباته من عمق في التحليل وقوة في التركيب وحصافة التفكيك ونزوعه الدائم نحو اختراق ومساءلة المفاهيم الفكرية بالكثير من الجدية المدفوعة بهاجس المغايرة والاختلاف، فتراه متنقلا بين العلوم والمعارف، لكن داخل وحدة موضوعية وفسيفسائية تنطلق من السؤال الفلسفي لتلتقي داخل فضاء مركب من الخطاب، الذي يتقاطع فيه الفلسفي بالتاريخي والأنثروبولوجي بالنفسي، ويتسم بنوع من الجدب والوجد الصوفي ليلتقيا داخل خطاب مركب وجامع بتعبير جيرار جنيت.
صدرت للدكتور أفاية كثير من الكتب الفكرية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل (1988)، المتخيل والتواصل: مفارقات العرب والغرب (1992)، الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط (2000)، الديمقراطية المنقوصة: في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه (2013). كما فاز بعدة جوائز أهمها جائزة أفضل كتاب عربي سنة 2015 عن كتابه "في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية".
عن كتابه الأخير "الصورة والمعنى" الذي تصل عدد صفحاته إلى 400 صفحة وغيرها من الموضوعات والمفاهيم المرتبطة باللغة والمتخيل والمثقف العربي والقضية السورية، التقت "ضفة ثالثة" المفكر محمد نور الدين أفاية فكان هذا الحوار. هنا الجزء الأول منه:

ابن جيل الثمانينيات
(*) الدكتور محمد نور الدين أفاية، بداية أنت أحد أعمدة جيل الثمانينيات، ولا ننسى هنا الدور الذي لعبه هذا الجيل في تأسيس ثقافة غير خاضعة للتقليد والمتطلعة نحو أفق مغاير، يقوم على خرق المفاهيم الكلاسيكية المتوارثة منذ العصر الوسيط. كيف ترى وتقيّم اليوم ملامح المشروع الفكري والأدبي لجيلك. لنبدأ بالفكري أولاً؟
أنا ابن جيل الثمانينيات حقاً، الذي يشكل امتداداً، بصيغ وتعبيرات مختلفة، للجيل الذي أسس لما أسميته بـ"الثقافة غير الخاضعة للتقليد"، والمتشوقة لعالم عربي مغاير، تسوده ثقافة عقلانية، وسياسة ديمقراطية وعادلة، ويعرف مجتمعًا مدنيًا حيًّا ومبادرًا، وتكون فيه للمرأة والشباب المكانة المطلوبة التي تجعل منهم قوى تتاح لها فرص المشاركة بشكل متساو في الحياة العامة والمجال العمومي.
أنت تعرف أن عِقد الستينيات شهد كتابات فكرية ونظرية امتلكت مقومات معرفية وسياسية في منتهى العمق والجدّة. وأعادت صياغة إشكاليات كبرى من قبيل التراث والغرب، العقلانية واللاعقلانية، الدين والدولة، الإبداع والحرية، الهوية والاختلاف.. وغيرها من الأسئلة التي تجرّأ عدد لا بأس به من المفكرين العرب على طرحها اعتماداً على مناهج ومستندات نظرية

جديدة تتبرم مما أسماه المفكر هشام جعيط بـ"ثقل التاريخية" العربية الإسلامية. وقد اتخذت هذه الكتابات طابعًا إشكاليا وشبه مأساوي مع هزيمة 1967، حيث انخرط باحثون ومثقفون في عمليات واسعة لنقد الفكر الذي أوصل العرب إلى ما وصل إليه من انكسار وضعف وهزيمة.
غير أن الدعوات إلى استنبات قيم العقلانية والحداثة لم تكن، في معظمها، عقلانية حقّا ومستوعبة لمبادئ الحداثة في أبعادها كافة. وذلك بحكم ارتهان عدد لا بأس به من المثقفين لأيديولوجيات وتموقعات حزبية لم تسعفهم في إنجاز البناء المعرفي المطلوب للإشكاليات التي واجهوها. ومع ذلك فإن هذه الموجة من المثقفين اقترحت انفتاحات كبرى سمحت لجيل جديد من الباحثين والمفكرين بإعادة صياغة الأسئلة الكبرى التي شغلت وما تزال تشغل النخب الفكرية والسياسية. هكذا تمّ إطلاق "مشاريع" فكرية جعلت من النقد إطارًا للنظر ومنهجًا ورؤية؛ سواء كان ذلك نقدا للعقل العربي أو للعقل الإسلامي أو للتراث أو للسياسة... فإن ذلك سمح للفكر العربي المعاصر بتكوين نزعة نقدية عربية تمتلك ما يلزم من شروط الكفاية المعرفية والاقتدار المنهجي والرصانة السياسية. لكن للأسف الشديد بقيت هذه النزعة هامشية ولم تتمكن من الانتشار في الثقافة العامة والمؤسسات والعقول، بل العكس تماما هو الحاصل؛ إذ كل ما يسعى هؤلاء المفكرون إلى إنجازه يتعرض للتبديد والهدر بسبب الإقحام المستميت للدين والقراءات السطحية للتراث في كل مستويات التواصل والحياة من طرف جهات وقوى تمتلك أجندات ترفض انتماء المجتمع العربي إلى زمن العالم.

(*) ماذا عن المشروع الأدبي، شعرًا ورواية؟
أعترف لك أنه يصعب علي، من موقعي الخاص، الحديث عن حركة الرواية والشعر بدقة لأني لا أدعي أنني أمتلك شروط تقييم "المشروع الروائي والشعري العربي". فالأمر موكول للمتخصصين. أنا أقرأ الشعر والرواية، ولكن حسب سجيتي وبشكل انتقائي. قد أقول لك بأني أتفاعل وأنفعل بقصائد درويش وأدونيس وغيرهما، لربما لأنني أعتبر هؤلاء مفكرين كبارا؛ أو أقرأ روايات محفوظ ومنيف والكوني.. لكن قراءاتي لا تسمح لي بإصدار أحكام على قيمة صنعة أصحابها ومهاراتهم في الإبداع الروائي والجمالي.
وفي كل الأحوال علينا أن نلاحظ بأن مجالات الإبداع العربي كانت طلائعية في التعبير عن

وجدان ووقائع ومفارقات المجتمعات العربية. فالموسيقى والأغنية والرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح والسينما والتشكيل، مجالات تعبيرية برع فيها العرب بشكل كبير واستثمروا فيها المتخيل الجماعي وحركوا الوجدان العربي، بطرق مبتكرة، منذ أربعينيات القرن الماضي. وبرهنوا على قدرات استثنائية في الخلق والعطاء، بل لم يقتصر صدى ذلك على العالم العربي وإنما فرضوا فنهم على أكثر من جهة من العالم. لكن، للأسف الشديد، مرة أخرى، تعرض هذا المد الإبداعي للصد والمحاربة من طرف التسلطية السياسية والقراءات التقليدية للتراث والفهم السلفي للدين.

السينما والتفكير بالفعل
(*) صدر لك قبل أيام كتاب فكري جديد "الصورة والمعنى؛ السينما والتفكير بالفعل" (2019) ضمن منشورات المركز الثقافي للكتاب. ماذا يمكن أن تقول للقارئ العربي عن هذا الكتاب؟
لعل هذا الكتاب تركيب لمسار من التفكير في الصور السينمائية استغرق بضع سنوات. صحيح أن "الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل" (الذي صدر سنة 1988) قد شكَّل، في عملية بنائه، انفتاحًا أوليًا لمقاربة الظاهرة السينمائية من زوايا فلسفية ومكتسبات بعض العلوم الإنسانية. لكن كتاب "الصورة والمعنى؛ السينما والتفكير بالفعل" يحاول تعميق هذه المستندات النظرية من خلال معالجة موضوعات تهم مسألة الذاتية في الحداثة الفنية ولشروط الفعل الإبداعي بعامة، ومدى اهتمام الفكر العربي المعاصر بسؤال الجميل والجماليات، ونوعية حضور السينما في انشغالات وكتابات المفكرين والمثقفين العرب المعاصرين. هذا بخصوص الفصل الأول من القسم الأول من الكتاب. أما الفصلان الثاني والثالث فقد تمّ التركيز فيهما على مواجهة الأسئلة النظرية للصورة السينمائية، وللنقد باعتباره إجراء فكرياً يتساوق مع حركية الإبداع، علماً بأن التفكير الجمالي مرتبط بقدرة الذات المبدعة على تخطي العوائق التي تحول دون تحرير النزوعات الإبداعية في مجتمع ما، وما هو مرتبط ببيئة وسياقات حاضنة أو مستبعدة لهذه النزوعات. في القسمين الثاني والثالث يقترح الكتاب "بروتوكول" تأويل لمقاربة الأفلام التي عملنا على انتقائها، مختبرين فيها بعض شروط إمكان ممارسة الفاعلية النقدية معززة بإطار نظري يسعى إلى الكشف عما تقدر عليه السينما للتعبير عن مظاهر قلق الوجود والموت وصور عرضها للآخر والتاريخ والمرأة والجسد... أما القسم الرابع من الكتاب فقد تم التركيز فيه على موضوعات تأريخية في السينما العربية مرتبطة بموضوعات التحرر وصور المجتمع في السينما، كما تمّ تقديم بانوراما وصفية ونقدية لسينمات بلدان المغرب العربي.

(*) من "الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل" (1988) إلى "الصورة والمعنى" (2019) زمن طويل، لا يكاد يخلو من بعض الهزات الفكرية، التي قد تصيب الباحث فيغير مسار اشتغاله وأبحاثه صوب مفاهيم ومتون فكرية أخرى. ما سر هذه العودة اليوم إلى موضوع الصورة السينمائية وعوالمها النظرية والتخييلية؟
لعل المسافة الزمنية التي تفصل بين الكتابين سمحت لي بالانخراط في مشاريع بحثية متنوعة، ولكنها تلتقي كلها عند الانشغال النقدي الدائم الذي يحرك اهتماماتي؛ من البحث في المرتكزات المعرفية لـ"النظرية النقدية"، ولا سيما عند يورغن هابرماس، إلى مختلف الكتب التي نشرتها حول "صور الآخر" في المتخيل العربي الإسلامي، والكتب التي تناولت موضوعات النقد

الفلسفي والاعتراف... إنني أشعر بالحاجة الدائمة إلى التعلّم والتزود بمعارف جديدة وأترحّل في مسالكها ولكن دون أن أتخلى يومًا عن شغفي بأسئلة الصورة والسينما. وتلاحظ، بسهولة، أن كتاب "الصورة والمعنى" يجمع هذا المسار الذي يتراوح بين الترحل في موضوعات الفلسفة والعلوم الإنسانية، والثبات على الشغف المستمر بالإبداع والتفكير فيه بواسطة السينما.

التخيل وآليات الفعل الإبداعي
(*) في مقدمة الكتاب تراهن على مفهوم التخيل، باعتباره يشكل مدخلا أساسيا في الكتابة الإبداعية، وهو مفهوم ظل من مكبوتات الثقافة العربية المعاصرة. في نظرك، ما مدى حدود التقاطع والتلاقي بين مفهوم التخيل في الصورة الفنية/ التشكيلية ثم في الصورة السينمائية؟
يشكل التخيل أحد أهم الآليات في الفعل الإبداعي، فهو بمثابة القدرة التي يمتلكها المُبدع لانتزاعنا من المألوف ورتابة التكرار وضجر الحياة. إنه يفجر طاقات التمثل التي تقترح على المتلقي عوالم لا تحيل ضرورة على نماذج خارجية. لذلك لا يكتفي التخيل السينمائي بإعادة تشكيل الوقائع بقدر ما يبدع عوالمه الخاصة؛ باعتبار أن الصورة التي "تعكس" الواقع تجمد التفكير ولا تسعف التخيل على الانطلاق والتعبير، في حين أن الصورة التي تبني عناصرها الرمزية تفسح المجال للسؤال والدهشة، فهي تمتلك ما يلزم من إنجاز التركيب بين مخزون الذاكرة والحلم وما بين عوالم المتخيل. كل الصور تتضمن تعددها وكثافتها، سينمائية وغير سينمائية، لأنها تركب ما تستمده من الخارج وما يتفتق من اللاوعي والمخيلة. وهي من طبيعة مزدوجة؛ بُعد يحيل على أطر مرجعية من العالم الواقعي، وبُعد يتفاعل مع مكنونات المتخيل. فضلا عن أن الصورة تتزود وتتغذى بالثقافة العامة ومن الرصيد التاريخي والرمزي التي تتحرك في سياقه.
لا شك في أن الحديث عن التخيل ليس بالسهولة التي ننطق به، لأنه كثيرًا ما ينفلت من عملية القبض عليه مفهوميا، بحكم تشابكه مع مسائل الجسد واللغة والواقع، فضلًا عن الأدوات التقنية التي يستعملها في تفكيره بواسطة الصورة. فالتخيل السينمائي يتأرجح ما بين إعادة صياغة الوقائع والرموز، وبطرق مختلفة، وما بين القدرة على تشكيل عالم اعتمادا على قدرة تنسج زمنيتها السردية والبلاغية الخاصة.

(*) إلى أي حد استطاعت السينما العربية استثمار مفهوم التخيل داخل فيلموغرافيتها؟
قد يكون هذا السؤال موضوع أطروحة بحث تتطلب سنوات من المشاهدة والقراءة والتأمل، لأنه يفترض مواجهة السينمات العربية منذ نشأتها وتطور قضاياها وموضوعاتها والوقوف عند روادها ومبدعيها. ويمكن لي القول بأن السينما العربية في تجاربها المختلفة، وبأشكال ومهارات متفاوتة، استطاعت استثمار المتخيل الجماعي وأطلقت روايات وحكايات في منتهى الإبداعية والأهمية. فالسينما المصرية التي كانت، بكيفية ما وطيلة أكثر من نصف قرن، هي السينما العربية قبل أن تتحرر البلدان الأخرى من قبضة الاستعمار أو أن تتأسس دول أخرى في الجغرافيا العربية، اقترحت على المشاهد العربي أعمالا وأفلاما لا مجال للشك في إبداعيتها وكثافتها التخيلية؛ من "باب الحديد" ليوسف شاهين إلى العدد الكبير من الأفلام التي أنتجتها أجيال من السينمائيين المصريين الذين برهنوا على نزوعات إبداعية وتخيلية لاقت تجاوبا

وتفاعلا هائلا. ومع استقلالات البلدان العربية الأخرى تمكن السينمائيون في بلدان المغرب العربي، وفي سورية والعراق ولبنان وفلسطين، من اقتراح أعمال متفاوتة القيمة والقدرة التعبيرية. لذلك أنا أعتبر أن السينمائيين العرب مثقفون يستحقون الاعتبار نظرا لقساوة العمل السينمائي، وقد عملوا، كل حسب قدراته ومدى التزامه، على تطوير الذائقة العربية وعلى خلق فرجات وفرص سرور وحكايات تمكنت من التأثير في الوجدان والمخيلة. وإذا كانت هذه السينما تتعرض للنقد السلبي في غالب الأحيان، أو تشهد تراجعات كبرى على مستوى الإنتاج والتوزيع (مصر والجزائر على سبيل المثال)، أو تخوض مواجهات تشويشية مع نزعات الإسلام السياسي أو شراسة الرقابة، فإن تجارب سينمائية اقتحمت بالأمس، وتقتحم اليوم، موضوعات قوية الدلالات، وتقترح سرودا تستحق أن ينتبه إليها الباحث والمثقف والجمهور العادي بحكم ارتقائها بالتعبير السينمائي إلى مستويات غاية في الإبداعية والجرأة.

(*) الجسد، الصورة، اللغة. كيف تقرأ هذه المفاهيم المتشابكة فيما بينها داخل الصورة السينمائية؟
لا جدال في أن أشكال ودلالات الصور تستمدها من ذاتها ومن علاقات العناصر المكونة لها؛ الأمر الذي يفترض القول بأن الصورة السينمائية تخلق زمنيتها الخاصة. والصورة هي صورة لشيء ما، كما يقول الفهم الفينومينولوجي؛ فهي تشكيل بصري متعدد وجمعي، يلتقي فيه الإدراك والوعي والسلطة والجسد والتاريخ. الصورة تخيّل يتحدد وجوده بالتقاط العين له. لا تتوقف عن التوليد، وذلك بالرغم من نفيها وإلغائها واستيعابها بالمشاهدة والتلقي. تستدعي الذاكرة ومخزونات الجسد بتحريرهما من ثقلهما الرمزي والتخيلي. والصورة، من جهة أخرى، إيحائية، تمتلك قدرة هائلة على الكشف لأنها حين تعبئ لغاتها لترجمة تعبير أو شعور أو موقف ما فإنها تكشف، في غالب الأحيان، عمّا يتجاوز هذا التعبير أو الشعور أو الموقف. ولأن لها أبعادا تستمد بعض مكوناتها من القاعدة السوسيو- ثقافية للمبدع السينمائي كما للمتلقي، فإنها تستهدف التبليغ وتسجيل اللحظة التاريخية كما الشعورية بواسطة قدراتها على تأطير الأجساد ونحت أنماط توصيل تختلف، بدهيًا، عن الأشكال السردية للأجناس التعبيرية الأخرى.
تكثف صور الخطاب السينمائي، ككل خطاب، في نسيجه السردي وصوره بين ما يقال وما لا يقال، بين المعطى والمبنى، بين ما يتم توصيله وما يتخذ وجهة أخرى في عملية العرض. لذلك يتحرك المعنى في الفيلم بين الصور والأصوات المكونة للفيلم، ولكنه يتحدد أيضا بطبيعة الاستقبال الذي يقوم به المتلقي وبالسياق الثقافي الذي يشتغل فيه وعيه وتصاغ فيه أحكامه.

الصورة والعنف
(*) هل يمكن القول مثلا إن العنف هو مكون أساسي للصورة وجزء لا يتجزأ منها؟
العنف عنصر مكون للوجود وللتاريخ البشري، فما بالك بالنسبة للصورة التي هي اختراع تتجدد مقوماته التقنية وتتطور بفضل الذكاء الإنساني. المفارقة المثيرة تتمثل في كون الأجيال الجديدة للعنف تواكبها أجيال جديدة من الجاهزية التقنية للصور، ومن وسائل ممارسة العنف. ولذلك علينا أن نفكر قليلا في هذه العلاقة الثلاثية بين ظواهر العنف، والصور، وأدوات التعنيف. أنظر إلى طريقة القتل المصورة التي نهجها الإرهابي اليميني برانتانتيرانت لإفناء المصلّين في مسجدي مدينة "كريستشورش" بنيوزيلاندا في مارس الأخير. والغريب أن الكثير من الشباب المتعود على ألعاب الفيديو لمَّا شهدوا عملية القتل مباشرة أو مُسجلة لم يحسوا بالفارق بين الصور التي اعتادوا عليها وهُم يلعبون وبين الصور القاتلة التي صعقتهم حين اهتدوا لحقيقتها الواقعية المفجعة. فالصور الافتراضية اليوم تتداخل، بشكل غير مسبوق، مع الصور الحقيقية. ولهذا التداخل تداعيات على مستوى المشاعر والفهم والمواقف. ولعل الضخ الرهيب للصور العنيفة ولد ويولد ردود أفعال تختلف عن أنماط الصور التي كانت تستعمل لرصد الوقائع في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

(يتبع جزء ثان وأخير)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.