}

خالد الريسوني: من دون الشعر لا أفق سيحضننا

عماد الدين موسى عماد الدين موسى 5 يوليه 2020
حوارات خالد الريسوني: من دون الشعر لا أفق سيحضننا
"أنا شاعر ولي التزام مبدئي لا أفرط فيه"
خالد الريسوني شاعر ومترجم مغربي (من مواليد الدار البيضاء، 1965) حصل على الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 1988، اشتغل سابقا أستاذا للغة العربية وثقافتها بالمعهد الإسباني سيفيرو أوشوا بطنجة. شارك في العديد من المهرجانات العالمية للشعر من ضمنها مهرجان أصوات حية بطليطلة في إسبانيا، ومهرجان مديين العالمي للشعر بكولومبيا، والمهرجان العالمي للشعر بغرناطة في نيكاراغوا، ومهرجان 100 صوت للشعر بالسلفادور، ومهرجان الشعر العالمي ميهاي إمينيسكو بكرايوفا في رومانيا، ومهرجان الأميركتين بنيويورك.

أصدر عملين شعريين: "ما بعد النسيان، 2006"، و"كتاب الأسرار، 2017". أما في مجال الترجمة فقد أنجز العديد من الترجمات الشعرية لشعراء إسبان وشعراء من أميركا اللاتينية إلى اللغة العربية، من بينها: "عن الملائكة لرفائيل ألبيرتي، 2005"، "يومية متواطئة للويس غارثيا مونطيرو، 2005"، "الأعمال الشعرية المختارة لفيديريكو غارسيا لوركا، 2010"، "الكتاب خلف الكثيب لأندريس سانشيث روباينا، 2010"، "خلوات وأروقة وقصائد أخرى لأنطونيو ماشادو، 2011"، "وصف الأكذوبة يليه يشتعل الخسران لأنطونيو غامونيدا، 2012"، "يستحق العناء لخوان خيلمان، 2016"، وأخيرًا: "صانع المرايا لخوان مانويل روكا، وزارة الثقافة والرياضة- قطر".
هنا حوار معه:

مختارات خوان مانويل روكا
(*) أصدرت مؤخرا مختارات شعرية للشاعر الكولومبي خوان مانويل روكا تحت اسم "صانع المرايا"، ونشرتها مجلة الدوحة. كيف كانت تجربتك مع شعره؟ ما الذي أوحى إليك بترجمته بالذات في هذه الفترة؟
- خوان مانويل روكا شاعر كولومبي متفرد جمعتني به في البداية صداقة في الشعر من خلال قراءتي لأعماله الشعرية، ولم أكن أتصور أن هذه العلاقة ستمنحنا صداقة إنسانية عميقة مثلما هي الحال عليه اليوم. وبالنسبة لكولومبيا فقد تعرفت على العديد من الشعراء الكولومبيين وربطتني بهم علاقة مميزة، هذا ناهيك عن الشعراء الذين لم ألتق بهم أبدا، وأعرفهم فقط من خلال قراءاتي لشعرهم. أثناء رحلتي إلى المهرجان العالمي للشعر بمديين في دورته السابعة والعشرين سنة 2017، اشتريت بعض الدواوين الشعرية، وبما أنني لم أكن أملك في خزانتي من شعر خوان مانويل روكا سوى أنطولوجيا يتيمة، وكنت على تواصل من خلال مراسلات بالإيميل وعبر الفيسبوك، وكان لدي يقين بأن الرجل شاعر حقيقي يكتب شعرا جميلا، ساخرا أحيانا، قررت أن أحمل معي من كولومبيا أعماله الشعرية الكاملة، ولما شرعت في قراءتها كنت أضع علامة على القصائد التي يجب عليّ أن أترجمها لإشراك القارئ في متعتها، وتوفر لدي عدد مهم من القصائد، وتواطأنا أنا والشاعر الكردي حسين حبش ومدير ملتقى آسفي العالمي للشعر الصديق الشاعر عبد الحق ميفراني على تكريم الشاعر في الدورة ما قبل الأخيرة لمكانته في الشعرية العالمية وفي أميركا اللاتينية، لقد كانت تلك الدورة من أهم دورات هذا الملتقى الذي يوما عن يوم ينمو ويكبر، ويتخذ لنفسه مكانة بارزة ضمن المهرجانات العالمية، ولما جاء خوان مانويل تقاسمنا معه المعايشة والأحاديث وكأننا كنا نعرف بعضنا من زمان بينما حصيلة ما سبق لم تكن سوى تبادل لمراسلات محتشمة، ولما انتهت الدورة كنت قد قررت أن أنشر "صانع المرايا" في طبعته الأولى مع مجلة الدوحة التي أعطت للكتاب انتشارا وإشعاعا كبيرا لأن الطبعة كانت بآلاف النسخ، ونفد في المكتبات والأكشاك هنا في المغرب. كانت الضيافة المستحقة لصداقة شاعر جميل أنا على تواصل مستمر معه، نتهاتف أسبوعيا لنتحدث عن كثير من القضايا، وهو هذه السنة كتب لنا في بيت الشعر بالمغرب كلمة الشاعر بمناسبة اليوم العالمي، كانت كلمة مطرزة بشكل جيد، وكان من المفترض أن تقرأ في مختلف الاحتفالات التي يقيمها بيت الشعر في كل المدن المغربية، لكن جائحة كورونا أفسدت علينا احتفالية الشعر، فاكتفينا بقراءة كلمة الشاعر كل واحد في حجره الصحي حتى موعد آخر.


(*) هل من صدى لدى القارئ العربي بعد صدور هذه المختارات؟ بالإضافة إلى ذلك أود أن تحدثنا عنه، عن جوانب من شخصيته، حين تعرفت عليه؟ حبذا لو تضيء لنا أيضا عن حجم تأثيره الشعري في أميركا اللاتينية؟
- بالنسبة لديوان "صانع المرايا" تم تلقيه من طرف جمهور واسع، وكان فرصة لكي أتحاور مع العديد من القراء من مختلف الأعمار عن الشاعر، وعن كتابته المتميزة في خارطة الشعر بأميركا اللاتينية وفي الشعرية العالمية. خوان مانويل عمل لسنوات كمسؤول عن الملحق الثقافي لجريدة الإسبيكتادور، وله مكانة وازنة ومميزة ثقافيا سواء في كولومبيا أو في مسقط رأسه مديين، مدينة الشعر والشعراء التي يعتبر مهرجانها شرفة الشعر المضيئة نحو العالم، فمهرجانها أهم مهرجان في العالم باعتراف الجميع، لكن خوان مانويل حاليا رغم علاقته الوطيدة مع المهرجان ومع أصدقائه في مديين وخاصة فرناندو ريندون وغابرييل خايمي فرانكو والآخرين إلا أنه الآن يعيش في بوغوتا، وكان يشرف على مدى سنوات على ورشة الشعر في بيت الشعر خوسيه أسونثيون سيلفا ببوغوتا، وهذا مكنه من خلق أجيال شعرية ذات عين متفحصة وناقدة قادرة على التقاط الإشارات بشكل سريع، وتحويلها إلى أبنية استعارية مبدعة، هذا التأثير في المحيط الشعري مكنه من كاريزما ومن قدرة خارقة على القيادة، لكن الأهم من كل هذا أن روكا عاش في خارطة جغرافية متشابكة، فقد قضى جزءًا من حياته في المكسيك وآخر في باريس، ولذلك فقد غذى ذلك خياله بأكثر من مرجعية شعرية فاستلهم قصائده من سعة ثقافته، وموهبته الخارقة على تحويل الأفكار إلى صور شعرية مع امتلاك قدرة خلاقة في السخرية السوداء. خوان مانويل له محبون كثر لشعره في أميركا اللاتينية، وخاصة من الشباب. كتب الروائي الكولومبي أوسكار كوياثوس يقول: "لقد رأيتُ وأنا في ذهول شبابًا يحملون بين أيديهم كتابًا لروكا، وقرأت مقتطفات من قصائده على الجدران في الشارع العام، وحضرت لحسن حظي التواصل الذي ينشأ بين الشاعر وجمهوره، ثمَّة شيء في شعره، حساسية تجاه العصر"، وهنا يجب أن نفتح قوسا كبيرا، فخوان مانويل روكا كان دائما قريبا من هموم شعبه ووطنه، وواجه مثلما أغلب شعراء كولومبيا الأوليغارشية الحاكمة والمتواطئة مع الاستعمار الجديد بقصائد لا تنفصل عن واقعها ولكنها لا تفرط إطلاقا في المكونات والأبعاد الجمالية للقصيدة... القصيدة جسد وروح إذا أفرطت في أحد البعدين تلاشت القصيدة فإما أن تصير جسدا بلا روح أو روحا محلقة في الفراغ... روكا ضمن لقصيدته تأثيرها في فضاء أميركا اللاتينية لأنه من جهة كان يعي انتظارات الجمهور ولكن أيضا لأن جمهور الشعر في أميركا اللاتينية تربت ذائقته على الشعر الواعي بذاته كممارسة والذي يحقق الجمالي فلا يتحول إلى مجرد شعارات جوفاء أو صراخ بلا معنى.

كاردينال والثورة السندينية
(*) قبل سنتين شاركت في مهرجان الشعر العالمي في نيكاراغوا، والتقيت الشاعر الكبير إرنيستو كاردينال الذي رحل عن عالمنا منذ فترة، هل هناك مشروع ترجمة قيد الإنجاز من شعره؟
- نعم منذ سنتين حضرت مهرجان غرناطة بنيكاراغوا، وكانت الفرصة مواتية لكي ألتقي إرنيستو كاردينال، اللقاء هيأته صديقتي الشاعرة الإيطالية زينغونيا زينغوني مع الشاعرة النيكاراغوية لوث مارينا أكوستا مساعدة الشاعر، فتحدثنا عن أشياء كثيرة، بعضها مرتبط بالثورة السندينية والأدوار التي لعبها الشاعر، خاصة العلاقة مع ليبيا القذافي حينئذ وما آلت إليه الأوضاع في نيكاراغوا والصراع بين رفاق الأمس، طبعا كنت أتحدث معه انطلاقا من الأشياء التي كتبها في مذكراته وخاصة كتابه "الثورة الضائعة"، ولما جرى الحديث عن ترجمتي لأعمال غامونيدا، اقترح عليّ أن أترجم أنطولوجيا شعرية تشمل قصائد تتتبع مسار حياة إرنيستو، وتم الاتفاق على أن يبعثوا بالقصائد إلى بريدي الإلكتروني، وهو الأمر الذي حصل بالفعل، وقد اختار الشاعر بنفسه قصائد الأنطولوجيا، وقمت من جانبي بالترجمة، لكن الشاعر رحل عن عالمنا ولم يكتب له أن يرى مجموعته مترجمة على يدي إلى اللغة العربية،

وهنا يجب أن أشير إلى أن الشاعر سبق له أن ترجم إلى العربية عدة مرات. طبعا هذه الأنطولوجيا يجب أن يصلني ترخيص مكتوب لأقوم بنشرها وإلا فستظل هي الأخرى في درج المكتب.. ما يهمني في إرنيستو كاردينال أنه استطاع هو ونيكانور بارا من خلال مفهوم الشعر المضاد خلق انزياح عن النموذج المتبع للشعرية اللاتينية والذي افتتحه الشاعر النيكاراغوي روبين داريو وطوره نيرودا وغدا نمطيا قبل أن يزحزحه كل من الشيلي نيكانور بارا والنيكاراغوي إرنيستو كاردينال.

 

أبتعد عن الأعمال التي سبق أن تُرجمتْ

(*) الملاحظ أن لك اهتمامًا جليًّا بالشاعر الاسباني أنطونيو غامونيدا، هل تحدّثنا عن تجربته؟
- هناك تجارب شعرية عالمية، وأيضا في الحياة العامة للإنسان، يصدق أن نقول عنها إنها تجارب موجهة يتعلم منها المرء ويستفيد في بلورة تصوراته ورؤيته للحياة، وغامونيدا بمعنى من المعاني، يكتسب مثل هذه القدرة والفاعلية، ومثل هذه الخصائص والأبعاد، من خلال حياته وتجاربه وشعره. لا أريد أن أخوض هنا في التفاصيل، ولكن انتصار غامونيدا للذات، الذات المعذبة بألمها الفردي والمشترك، والمسافة الفاصلة والمنفصلة التي حددها لها منذ البدء مع الجماعة في زمن التكتل والتضامن، زمن الحرب وما بعد الحرب، ورفضه التحول إلى مجرد تكرار لأصداء نائية ودانية ضمن قطيع، وصمته الشعري الواعي بالأكذوبة وبالبرد وبالخسران، وفرادة صوته العميق والمخصب، وإيمانه بالكتاب باعتباره تكثيفا للغة المنفلتة من التصنيفات الناعمة والمطمئنة، ومحاورته للمجهول والموت، وللذاكرة والتلاشي والمحو والنسيان، كل ذلك يجعلنا نرى في هذا الشاعر صورة المعلم، وهو ليس وحيدا في هذه المرتبة وإن كان من القلائل الذين يعلو بهم الشعر إلى ذروة المثال. لقد ربطتني بغامونيدا -على الأخص- وشائج صداقة ومصاحبة امتدت لأكثر من عقدين من الزمن، التقينا خلالها مرات عديدة، وتحاورنا وتبادلنا الرأي، وقرأت له كل ما كتبه شعرا ونثرا، كما قرأ هو أيضا بعض قصائدي، وترجمت له بمحبة أعماله الشعرية الكاملة باتفاق بيننا، فأنا حتى وإن كنت قد ترجمت للعديد من شعراء إسبانيا وأميركا اللاتينية، وربطتني بالعديد منهم علاقات مودة وصداقة، إلا أن علاقتي مع غامونيدا ومع شعره هي أعمق بحيث تتجاوز مجرد علاقة الترجمة والصداقة، أنا أعتبره أحد المعلمين القلائل الذين يمتلكون بالإضافة إلى الخبرة والتجربة الحياتية العميقة، رؤية فلسفية وفكرية تتأسس على أسئلة كبرى للوجود، وإذا كان الشعر في نهاية المطاف هو أداة للمعرفة فقد عرف غامونيدا كيف يجسد تلك الأسئلة وكيف يصوغها في أشكال شعرية متفردة تحاور فضاءات الكتابة والذات والذاكرة والنسيان والموت والفراغ والصمت بكثير من الشفافية والعمق.



(*) هل لك مشاريع ترجمة أخرى له؟
- بالنسبة للشاعر أنطونيو غامونيدا حاولنا في بيت الشعر في المغرب أن نحتفي به باعتباره صوتا متفردا في الشعرية العالمي فمنحناه جائزة الأركانة العالمية للشعر سنة 2013، وكنت حينئذ ضمن لجنة تحكيم الجائزة، بل وكنت من عمل على صياغة مقترح ترشيحه للجائزة، والتواصل معه قصد الحضور لتسلمها، حينها كان لزاما أن نصدر بالمناسبة كتابا للشاعر، فأتى نشر ديوانين شعريين في كتاب وهما "وصف الأكذوبة" و"يشتعل الخسران"، وباتفاق معه قمت بإنجاز ترجمة لأعماله الشعرية الكاملة، وطبعا هذا لا ينتقص أبدا من الترجمات الأخرى المنجزة لأعماله في العربية، وهي على كل حال قليلة جدا، واشتغلت جميعها على كتاب واحد هو "كتاب البرد"، أنا أيضا قدمت صيغتي الخاصة لكتاب البرد.. عادة ما أبتعد عن كل الأعمال التي سبق أن ترجمت إلى العربية تجنبا للشبهات التي تحوم حول من يقومون بترجمات ثانية لأعمال صدرت من قبل، وأيضا حتى لا يشعر الآخرون بالتبخيس وبأن جهدهم قد ذهب هدرا، فترجمة عمل شعري هي اشتغال لساعات طويلة جدا، وينبغي احترام الجهد الذي يبذله المترجمون الآخرون،  لكني لا أستطيع أن أترجم الأعمال الكاملة لغامونيدا دون أن يكون ضمنها "كتاب البرد"، وهو نفسه حين طرحت عليه الموضوع لم يتردد في حثي على إنجاز المشروع كاملا دون القفز على أي عمل من أعماله، هذا العمل كنت قد اقترحته للنشر على الصديق الشاعر محمد النبهان في دار النشر مسعى التي يديرها، وتواصلت معه رغبة مني في إقناعه بأهمية العمل، خاصة وأنه شاعر له حساسية مرهفة ويقدر الشعر والشعراء، لكني لحد الآن ما زلت أنتظر أن أحصل على قرار حاسم بصدد نشر هذه الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر، فشعر أنطونيو غامونيدا يستحق فعلا أن يصل إلى القارئ العربي المهتم بالشعر. 

(*) ترجمت أيضًا للشاعر الأرجنتيني الراحل خوان خيلمان. ما الذي جذبك إلى ترجمة شعره؟ 
- تعود علاقتي مع الشاعر الأرجنتيني خوان خيلمان إلى فترة التسعينيات، كنا نتواصل عبر الرسائل بشكل منتظم، وكنت حينها قد عبرت له عن رغبتي في ترجمة بعض قصائده إلى اللغة العربية. بداية انبهاري بشعر خيلمان كانت لها علاقة طبعا باختيارات سياسية، وبزمن العنفوان وفكرة التضامن الأممي مع محنة الشعب الأرجنتيني، والشيلي أيضا، ضد الدكتاتوريات العسكرية في بلديهما وفي أميركا اللاتينية قاطبة، ومحنة الشاعر الشخصية مع الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين لم تنته حتى بعد سقوط الحكم العسكري، وحتى بعد صعود الرئيس كارلوس منعم نعرف أنه حاول أن يمرر قانون العفو على حساب ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وللحريات، وكان من نتائج ذلك بالنسبة لخيلمان هو محاولة تجريمه وتحميله جزءًا من مسؤولية ما حدث لابنه وكنته ثم لحفيدته المختطفة، ولذلك رفض خيلمان العودة إلى الأرجنتين وبقي في المكسيك حتى وافاه الأجل، تلك المحنة نقلتُ بعض شذراتها المأساوية لما قمت بتقديم أشعار خيلمان التي نشرت بعض ترجماتها إلى العربية. أنا درست في أواخر الثمانينيات في موسكو بالمعهد العالي للعلوم الاجتماعية، وهو معهد كان يجمع نخب الأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم، وكانت لدي علاقات واسعة هناك مع العديد من الشباب الذين يؤمنون بالفكرة الاشتراكية، وبسبب اطلاعي على القضايا المصيرية لشعوب هذه القارة وتضامني معهم، كنت قد ربطت علاقات مع شعراء وسياسيين من العديد من تلك البلدان النائية والتي كانت تمثل أيضا مصدرا ثقافيا وأدبيًا مُلهمًا لي ولغيري.


ولقد تواصلت علاقاتي مع العديد منهم خلال كل عقد التسعينيات، ومن بين الأصدقاء الذي حظي لدي بعلاقة مميزة خوان خيلمان، الذي التقيته لأول مرة بمدريد سنة 1999، وسجلت معه حوارا مطولا عن الشعر والسياسة ومحنة المثقف في أميركا اللاتينية، وتكررت اللقاءات أكثر من مرة. واستمر هذا التواصل إلى أن التقيته بالمغرب، إذ تمت دعوته لحضور مهرجان الدار البيضاء العالمي للشعر في دورته الرابعة سنة 2006. في السنة التالية التقيته بمدريد للاحتفاء بحصوله على جائزة سيربانتيس للآداب، وكان سعيدا ولكن مأساة الحفيدة كانت تثقل عليه وتقلق نفسيته وأحاديثه، لأن حجم المأساة كان كبيرا من الناحية النفسية، فالحفيدة عرفت حياتها انقلابا جذريا منذ تعرفها على حقيقة وضعها في علاقتها مع الأسرة التي تربت في أحضانها باعتبارها ابنة طبيعية في الأوروغواي، بينما ستكتشف فيما بعد أنها اختطفت وهي ما تزال مولودا من أمها التي تم إعدامها مثلما حدث مع أبيها، وسلمت لأسرة رجل ينتمي لأحد الأجهزة الأمنية في الأوروغواي، وبما أن الحفيدة كانت تجهل كل شيء عن أبويها الطبيعيين اللذين استشهدا على يد الدكتاتورية، فقد تعرضت لصدمة قوية وعانت من ارتدادات، وهذا أثر كثيرا على نفسية الشاعر، وكان يضغط عليه كثيرا في لحظات الصفاء التي كان يخص بها أصدقاءه فكان يكاشفهم ببعض آلامه وجراحاته العميقة. لما رحل خوان خيلمان أبدى الإخوة في الهيئة التنفيذية لبيت الشعر استعدادهم لنشر أحد أعماله الشعرية المترجمة إلى العربية، فكان نشر ديوان "يستحق العناء"، ولدي لحد الآن ثلاثة أعمال شعرية أخرى مترجمة تنتظر النشر.. طبعا من يتعرف على خوان خيلمان الإنسان المرهف، والشاعر الجميل، يحس بأن ترجمة أعماله إلى العربية رغم الجهد والوقت كانت إغناء حقيقيا لذاتي شعريا وعربون وفاء لصداقة شاعر حقيقي وإنسان نبيل، هي ضيافة في اللغة العربية كانت "تستحق العناء".

(*) برأيك؛ ما السر وراء هذا الاهتمام الكبير بالشعر في أميركا اللاتينية؟
- الشعر في أميركا اللاتينية مرتبط بشكل عضوي بحياة الناس منذ أقدم العصور، حتى قبل مجيء الأوروبيين. شعوب هذه القارة لديها تقاليد شعرية عريقة وعميقة الجذور، ففي المكسيك ثمة لدى شعوب الأزتيك طقوس محددة ارتبطت بالشعر ولذلك نجد تراثا شعريا شاسعا في لغة النهواتل، والأمر مماثل بالنسبة لشعوب المايا في تنويعات لغتهم بغواتيمالا والهندوراس والسلفادور وجزء من المكسيك، أو بالكيشوا لغة شعوب الإنكا في البيرو والشيلي وبوليفيا والإكوادور والغوارني في الباراغواي والبرازيل والأرجنتين.. لكن هذا ليس المبرر الوحيد لانتشار الشعر في أميركا اللاتينية، هناك أيضا فورة ثقافية مضادة للإمبريالية وخاصة لدى الشباب، نظرا للجرائم الجسيمة التي ارتكبها المستعمر الإسباني مجسدا في ما يسمى بين مزدوجتين بالمستكشفين الإسبان، وضد الأميركان الذين حاولوا استعباد شعوب هذه القارة، واستنزاف ثرواتها، وفرض هيمنة للأوليغارشية والعسكر اللذين سيطرا على كل دواليب السياسة والاقتصاد بقوة الحديد والنار، ووضعاها في صحن من ذهب أمام الاستعمار الجديد خدمة لمشاريعه واقتصاده، وكل التمردات على الهيمنة الأجنبية في أميركا اللاتينية ستجد تعبيرها في الشعر باعتباره قوة خلاقة قادرة على المقاومة، وإعادة ترتيب مختلف للأولويات، لو قرأنا بعمق الشاعر والسارد والمحلل الأوروغواي إدواردو غاليانو، سنجد كل ذلك مجسدا في إبداعاته الشعرية وغير الشعرية، بما فيها كتابه "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية" الذي يحلل واقع الاستنزاف في أميركا اللاتينية... العديد من شعراء أميركا اللاتينية كتبوا قصيدة مختلفة ومبدعة في الشعر الإسباني، بل وحتى في السرد، وهنا لا ينبغي أن ننسى الواقعية السحرية التي لا نعرف في العالم العربي إلا نماذج قليلة منها أتاحتها بعض الترجمات إلى اللغة العربية، فشعراء أميركا اللاتينية وظفوا ومنذ  فترة طويلة الإمكانيات المختلفة التي يتيحها هذا الشكل الإبداعي لخلق قصائد لا تكرر ما هو سابق، فكانوا حقا معلمين للغرب، وكسروا منذ الحداثة النموذج السائد والمهيمن، وجزء كبير من الشعراء الأساسيين في الشعرية العالمية الحديثة انتموا إلى هذه القارة.

وأنا لا أتحدث هنا عن روبين داريو ولا عن بابلو نيرودا ولا حتى عن سيزار باييخو أو أوكتافيو باث، أتحدث أيضًا عن بلانكا باريلا وإيميلو أدولفو ويستفالين وأنطونيو سيسنيروس وإدواردو شيرينوس وخوسيه وطانابي في البيرو، وأليخاندرا بيثارنيك وخوان خيلمان وهوغو موخيكا وخورخي بوكانيرا وخوسيه إيميليو باشيكو وخايمي سابينيس وهوميرو أريدخيس في المكسيك، وغونثالو روخاس وراوول زوريتا في الشيلي، وخوان مانويل روكا وراوول غوميث خاتين وأوريليو أرتورو وهوراثيو بينابيديس وليون غريف ووليام أوسبينا وفرناندو ريندون وخوان غوستافو كوبو بوردا وغابرييل خايمي فرانكو وبييداد بونيت في كولومبيا، وأوخينيو مونطيخو ورفائيل كاديناس في فنزويلا، وإدواردو غاليانو وماريو بينيديتي وإيدا بيتالي في الأوروغواي، وروكي دالتون وخورخي غالان وأوتونيل غيفارا ووليام ألفارو في السلفادور، وكلاريبيل أليغريا وبابلو أنطونيو كوادرا وكارلوس مارتينيث ريباس وجيوكاندا بللي وفرانسيسكو دي أسيس في نيكاراغوا.. والقائمة طويلة. أنطونيو غامونيدا يتتبع دائما باهتمام بالغ الحركة الشعرية في أميركا اللاتينية وأكد لي أكثر من مرة أن مستقبل الشعر في أميركا اللاتينية متعلق بمستوى الكتابة وبمستوى التلقي، فالمهرجانات الشعرية العديدة والمدارس والورشات الشعرية التي تقام لتربية الجمهور على محاورة الشعر وتكوين معرفة عميقة به كجنس أدبي وانتشار المجلات الأدبية والشعرية كل ذلك ساهم في الارتقاء بذائقة جمهور الشعر، وهو ما أفرز متلقين نادرين للشعر يحضرون أمسياته وحفلاته في حشود بالآلاف لدرجة يتساءل معها المرء هل يحضر قراءات شعرية أم مباراة رياضية لكرة السلة أو كرة القدم.

صورة المثقف والشاعر
(*) اهتمامك الأساسي بترجمة الشعر قد يحجب ثقتك عن الاهتمام بالسرد، علما بأن السرديات في أميركا اللاتينية لها سحرها... حدثنا عن علاقتك بترجمة السرد؟ ولماذا حجب الثقة عنه؟
- الشعر هو بيتي مثلما اللغة العربية، أحتضن فيهما من أنظر إليه بعين القلب، ومن كان انشغاله بالقصيدة لا بد أن يفرد لها المكان الأوسع في القلب والروح، وترجمت الشعر في حوار مفتوح لقصيدتي مع شعريات متعددة، فقد ترجمت الشعر من الإسبانية وإليها ومن الفرنسية (ومن الروسية في مرحلة معينة)، وفي مرحلة من العمر كنت منبهرا بالواقعية السحرية في سرديات أميركا اللاتينية، لكني لاحظت اهتماما كبيرا في العالم العربي بترجمة السرد في أميركا اللاتينية ربما بسبب المحفز التجاري، فالرواية تبيع ومن ثم ينبغي للمرء أن يدخل في سباق المسافات الطويلة حسب تعبير عبد الرحمن منيف، وأنا أكره هذه السباقات المهرولة. في لقاء مع المرحوم صالح علماني حول موضوع السباقات قال لي: كنت دائما أقدم الترجمة المبدعة والأولى من حيث تاريخ صدورها وبعدئذ يأتي الآخرون، وطبعا الناشرون يتلقفون كل الترجمات للسرد في أميركا اللاتينية وخاصة لغابرييل غارسيا ماركيز بعد نيله لجائزة نوبل وماريو برغاس يوسا حتى قبل أن ينال الجائزة ولأسماء أخرى مثل خورخي إدوارد وإيزابيل ألليندي... كان المشهد ينفرني، علما بأن هناك أعمالًا جيدة لساردين لهم أهمية بالغة بقوا خارج دائرة الضوء في العالم العربي، وأنا باعتباري قارئا عاشقا للشعر كما للسرد، لا أستبعد أن أقوم بعمل استعادي لروائع سردية بقية غفلا عن الإحاطة، إذا سمح الوقت والظرف بذلك، لكن كما قلت أولا وأخيرا أنا شاعر ولي التزام مبدئي مع الشعر لا أفرط فيه. وشخصيا اخترت منذ البداية أن أبتعد عن ترجمة المترجم لأن الحقل شاسع ومن أراد أن يغطيه فليخلق لنفسه مشروعه الشخصي بعيدا عن الهرولة التي اقتحمت حياتنا في كل المجالات، يمكن أن نتفهم الهرولة في السياسة والمال والآداب المدرة للأموال لأنها تليق بهذه المجالات لكن لا تليق بالشعر ولا تليق بترجمته..



(*) على الرغم من إصدارك لكتابين شِعريين فقط، لكن تُعد تجربتك الشِعريّة من التجارب اللافتة في المشهد الشعري المغربي، ماذا عن تجارب وأسماء مجايلة تودّ الوقوف عندها؟
- يتشكل المشهد الشعري الراهن من تجارب متعددة، مختلفة ومميزة لأكثر من خمسة أجيال شعرية، تجارب تتحاور فيما بينها بشكل إيجابي بشكل عام، فالكل يكتب قصيدته بشكل متحرر من كل القوالب الجاهزة، لكن رغم ذلك لا تنعدم في هذا المشهد إرادة لدى البعض في التحكم بشكل عدواني ومتعال، من خلال إعلان حرب الاستنزاف والأراضي المحروقة، موظفا كل مؤسساته الممكنة سواء في المؤسسات الرسمية أو الأكاديمية أو في النشر أو حشد الأتباع بشكل يذكرك بصورة الحاكم العربي، لأن صورة المثقف والشاعر هنا تتماهى بشكل بشع مع صورة المتسلط الذي يجيش بعض الشعراء ضد بعض، ويعتبر نفسه زعيما وقائدا عسكريا ينبغي الانصياع لأوامره وخطوطه الحمراء، موظِّفًا في كل ذلك أساليب وسخة أقرب إلى أساليب السلطة، ولكن خطابه الحربائي في المنتديات يتلون، ويصير خطابا منتقدا للسائد باعتباره هو الضحية ويصير هو المستهدف والمحارَب من قبل أعداء وهميين ومن قبل الدولة في مشهد مازوشي يذكرنا بمن يوغل في جرح الذات ولا يترك للنزيف أن يتوقف ليستمر في بكائياته... لكن عدا هذه الممارسة الشاذة فالاتجاه العام للقصيدة المغربية هو مضيها في التنامي المتواتر مع مختلف الأجيال الشعرية المتعاقبة في تنويعات متعددة تتحاور بشكل مفتوح فيما بينها، وهذا لا يعني أن ضمن هذه الممارسة لا يوجد سوى الجيد بل إن اتساع دائرة ولوج عالم الكتابة الشعرية محفوف بخطر تسلل ظواهر النسخ والسلخ والمسخ، ولذلك سنعثر دائمًا وأبدًا على الغث والسمين، فالكتابة حق للجميع ومهمة النقد أن يفرز لنا هذا من ذاك.

 



الترجمة عمل شاق
(*) لمن تقرأ، حاليًّا، وهل من مشاريع جديدة لديك؟
- خلال فترة الحجر الصحي، أوزع وقتي بين الكتابة والترجمة والقراءة، الترجمة هي بشكل ما قراءة متفحصة، ولكنها عمل شاق ومدقق، بينما القراءة الخالصة هي متعة وإن كانت هي الأخرى لا تخلو أحيانا من تدوينات ومراجعات مقصدها الفهم. خلال مدة طويلة كنت أقرأ الترجمات الشعرية العراقية إلى العربية: ترجمات كاظم جهاد لأشعار رامبو ولأعمال راينر ماريا ريلكه الألمانية والفرنسية وترجمات سعدي يوسف التي عنونها بديوان الضفاف الأخرى وترجمات سركون بولص المعنونة برقائم لروح الكون، وترجمات عبد القادر الجنابي في ديوان إلى الأبد، طبعا هي قراءة وتأمل ومقارنة وتعلم وبموازاة مع ذلك كنت أقرأ أشعار المترجمين وبحث كاظم حول شعرية الترجمة "حصة الغريب"، كانت قراءة ممتعة ربما خطوة لإنجاز بعض الأعمال مستقبلا لكن الصيغة لم تتحدد بعد بشكل نهائي، الآن سوف أبدأ بقراءة أعمال زيغموند باومان، لدي بالإسبانية أكثر من عشرين عملا لكنها سوف تكون قراءة للاستمتاع الفكري، أما بالنسبة للترجمة فعندي العديد من الأعمال المنجزة التي توجد بين أيدي ناشرين وتنتظر أن تصدر، وهناك أعمال ما زالت تبحث عن ناشر مثل أنطولوجيا الشعر البرازيلي وأنطولوجيا الشعر البرتغالي... ودواوين شعراء من أميركا اللاتينية مثل إرنيستو كاردينال، كما أن لدي مشاريع أخرى أشتغل فيها بشكل يومي ومتواز مثل الأعمال الشعرية الكاملة لكل من خوان خيلمان وهوغو موخيكا وآخرين.


(*) ما الذي تود أن تضيفه في نهاية حوارنا؟
- أود أن أشير إلى أننا نفتخر بأن الشعر ديوان العرب، وأنه سجل تواريخهم وأيامهم والجامع الشاهد على لغتهم وذاكرتهم، لكننا هجرنا الشعر والشعراء، فلا نحن نقرأ ولا نحن ننشره، ولا ننظم له المهرجانات والجوائز، ولا نكرم مبدعيه ما عدا إذا كان اجترارا وتكرارا بلا روح وبلا معنى، بل إننا لم نعد نصغي للقول الشعري، كان أحرى بنا أن ننافس الأمم فيما نفاخر به في تاريخنا لا في حاضرنا، لكن زمننا كما سبق أن قلت ذلك سابقا ليس زمن الشعر، هو زمن مفكك، نثريته تكبس على الأنفاس والأرواح وتتركها بلا إيقاعات، تحيلها إلى عدم. نحتاج إلى الشعر في حياتنا، بلا شعر لا أفق سيحضننا، فلا نحن نتسابق مع الأمم لإيجاد لقاح من العدوى، وسيلقحوننا دون أن نعرف كيمياء اللقاح، ولن نتسابق مع الأمم في الإصغاء لصوت الشعر العميق، نكاد نفقد صوتنا وذاتنا ووجودنا، وقريبا ستملي علينا أيضًا كيمياء الهندسة الجينية قصائد ينبغي أن نكتبها حتما في العدم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.