"أنا ضد فكرة الأشخاص كليًا، والفكرة هي مثلي الأعلى في الحياة.. المسرح سيأتي في المرحلة القادمة بلغة جديدة لا تعتمد على الإنتاج.، وأوجّه مطالبة إلى المنصات الرقمية بأن يتضمن عملها تأسيس قنوات سينمائية.، ليس هناك رقيب على الفن إلا الجمهور وغير ذلك هو قمع لصوص"- هذا ما يقوله بديع أبو شقرا في سياق حواره لـ"ضفة ثالثة"، الذي حاولنا فيه أن ندخل إلى عالمه الذاتي في كل ما يتصل برؤيته للفنون ولبنان والثورة والعالم.
بديع أبو شقرا الممثل والكاتب اللبناني والداعم المتحمس للتغيير في لبنان والمناصر الأول لقضايا المرأة، هو عضو في نقابة الممثلين في كندا أيضًا. بدأ مشواره التمثيلي بعد دراسته المسرح في تسعينيات القرن الماضي بين التلفزيون والمسرح والسينما وقدّم خلاله أكثر من خمسين عملًا منها تلفزيونيًا "بردانة أنا" و"خرزة زرقة" و"راحوا" و"للموت"، ومسرحيًا "فينوس" و"بنت الجبل"، وسينمائيًا "رصاصة طايشة" و"تاكسي البلد"، وكان فيها دائمًا الشخصية الأساسية المحمّلة دائمًا بما يخترقنا من الداخل ما يجعلنا باستمرار نستعيد وجهه بوعيه الجمالي في الحب وفي الوجع والألم والخيبة.
(*) أذكر أني عندما علمت أنك شقيق المطربة حنين راودتني مباشرة فكرة أن ثمة ما يميّز هذا البيت، ليس فقط لأنكما موهوبان فنيًا بل لأن في أعمالكما ما يعكس طبقة الوعي في هذا البيت وهذا يحيلنا مباشرة إلى الأب والأم، حدّثنا عن جو البيت الفكري والثقافي منذ الصغر؟ وما الذي دفعك إلى دراسة المسرح؟
تخصّص والدي في التاريخ والتدقيق اللغوي، أما والدتي فكان اختصاصها الأدب العربي، وطبعًا كانت لديهما وجهة فنية. أذكر أول كتاب أعطاني إياه أبي لأقرأه، وكان عمري 14 سنة، هو مسرحية لعصام محفوظ هي "مسرحية الديكتاتور". في بيتنا مكتبة كبيرة وأرشيف غنائي كبير، ومن هنا بدأت تتكوّن هذه النواة، وبدأت أشعر بالأجواء الثقافية في البيت والمحيط ومع أصدقاء العائلة، لكن التوجه الفني لم يكن واردًا، بمعنى أن نتخصص موسيقى أو مسرحًا. درست في البداية هندسة معمارية وأختي حنين درست حقوق، تخرجت حنين من الحقوق، أما أنا فلم أكمل اختصاصي وانتقلت إلى دراسة المسرح. لم تكن فكرة التمثيل واردة لكن تجرأنا وغيّرنا دراستنا وحياتنا، وكان موقف الأهل إيجابيًا من هذا الموضوع، لكن كان لديهم حذر من الفن، بسبب المقولة في ذلك الوقت "الفن ما بيطعمي خبز"، لكن تغيرت الأوضاع ودرسنا موسيقى ومسرحا وسافرنا. كنا نحتاج إلى الجرأة بالانتقال إلى الفن، وطبعًا خطونا هذه الخطوة. وحدث انتقالي إلى دراسة المسرح عندما دعاني صديق لي، وكان يدرس المسرح، لمشاهدة أحد العروض التي كان يقدّمها على مسرح "فخر الدين" في بعقلين. أذكر أنني عندما خرجت من المسرح، وكان الوقت مساءً، أخذت قراري أني في اليوم التالي سأتقدّم بطلب دخول وامتحان إلى معهد الفنون الجميلة، وهذا ما حدث. وقبل أن أذهب إلى المعهد توجهت إلى إذاعة صوت الشعب، وكان مديرها وقتئذ المخرج المرحوم رضوان حمزة الذي فسّر لي عددًا من الأمور عن التمثيل، وذهبت إلى معهد الفنون ونجحت.
السفر إلى الخارج
(*) بدأ بديع أبو شقرا مشواره التمثيلي في الفترة الأكثر ركودًا أو ضعفًا في السينما اللبنانية في تسعينيات القرن الماضي، هل هذا الجو هو ما دفعك إلى الهجرة في تلك الفترة إلى كندا؟
لم يكن هدفي الهجرة بل ذهبت أولًا إلى نيويورك من أجل الدراسة فقط. بقيت عامين في نيويورك ثم ذهبت إلى كندا. تقدمت إلى إحدى الجامعات في نيويورك لكني لم أستطع أن أكمل بسبب بعض الظروف وأحداث 11 أيلول، لذلك اضطررت أن أغيّر الخطة. كانت أعمالي التمثيلية قد بدأت في لبنان أبرزها "طالبين القرب"، وكانت فورة وقتئذ في التلفزيون، لكن خلال فترة من الفترات شعرت أني بحاجة كشخص يمتهن التمثيل لأن يرى وجهات نظر أخرى بعيدة عن محيطه الجغرافي، والغرب عادة هو هدف للكثيرين. أذكر إنني عندما شاهدت فيلم "العصفور" ليوسف شاهين أثّر بي كثيرًا، وكيف سافر إلى نيويورك. كان عندي هذا الهاجس أن أذهب وأشم رائحة وودي آلن ومانهاتن. ذهبت لكن بسبب الظروف لم أستطع أن أنتسب إلى الجامعة. قررت أن أبقى رغم أن وضعي المادي لم يكن يسمح لي للبقاء، ولم أكن أعرف أحدًا هناك. فعلًا كانت مرحلة صعبة لدرجة أنها كانت مؤلمة، لكني كنت قد أخذت قراري أني لا أريد العودة عندما أصادف أول عتبة في طريقي، وهكذا امتدت الفترة ثم ذهبت إلى كندا.
(*) قرأنا عنك أنك فيما بعد درست إدارة الأعمال في كندا..
اختصاصي لم يكن إدارة أعمال كما هو متعارف عليه، كان اسمه Entertainment Business Managmenet أي "كيف تدير عملك في التمثيل"، وهو اختصاص غير موجود في لبنان، لكنه ضروري جدًا لكل ممثل، فهو يتضمن دراسة العقود ودفع الضريبة ومواقع التواصل وغير ذلك، كأن الممثل هو الشركة، وهذا الاختصاص مهم في الخارج لأن كل الأمور هناك تسير وفقًا للـ Business (الأعمال). وعندما عدت إلى لبنان أدركت كم أننا بحاجة لهذا النوع من الدراسة في جامعاتنا، وخاصة الجامعة اللبنانية التي لا تدرّس هذا الاختصاص لا من قريب ولا من بعيد. إذًا هي ليست إدارة أعمال صافية.
(*) شاركت في عدد من الأعمال التمثيلية بين كندا وأميركا، لماذا العودة إلى لبنان، والذي وإن كانت عودتك إليه في أوائل هذه الألفية الثالثة في فترة أفضل اقتصاديًا وأمنيًا من الفترة الحالية، لكن واقع التلفزيون والمسرح والسينما لم يكن رائعًا؟
لم أتمكن في أميركا من العمل بسبب عدم حصولي على فيزا عمل، لكن في كندا اشتغلت في المسرح وانتسبت لنقابة الممثلين الكندية. كان تركيزي الأساسي على المسرح، لكن كان عندي عددٌ من الأعمال مع cbc channel وdiscovey channel، واشتغلت مع مهرجان تورنتو. انسجمت في العمل المسرحي هناك كثيرًا مع مسرح اسمه Multicultural Space - MT SPACE ، وعملنا جولات مسرحية في عدد من دول العالم والبلاد العربية منها الأردن وسورية. شغلني المسرح كثيرًا لأني وجدت نفسي فيه ولأن السينما والتلفزيون في كندا وأميركا يحتاجان تفرّغًا كاملًا والإقامة وسط المدن الكبرى والتواصل المستمر، وكنتُ قد أصبحت متزوجًا ولديّ عائلة، ولم يكن بمقدوري أن أبتعد عنهم لذلك ركزت على المسرح. أما لماذا رجعت إلى لبنان؟ عُرض عليّ مسلسل فرجعت لأداء الدور، ثم بدأت العروض تتوالى، وشاركت في مسرحية "بنت الجبل" ومسرحية "فينوس" و"كاس ومتراس" وبرنامج "الرقص مع النجوم"، وهكذا، ارتأينا أن ننتقل إلى لبنان، لكني لم أكن بوارد أن أعود وأستقر، لو لم يأتِ العمل بشكل مستمر في لبنان.
المسرح والسينما والثقافة آخر هموم الزعماء
(*) نعلم أن إعمار البلد بعد العام 1990 رافقه تغييب كامل للثقافة من بينه تهميش المسرح، وهذا التهميش لا يزال ساريًا إلى الآن، هل ترى أن المسرح فَقَد حضوره في زمن النتفليكس وأخواتها من المنصات الرقمية، خصوصًا في ظل هذا التهميش من قبل وزارة الثقافة؟
لا يوجد وزارة ولا دولة ولا وزير. أخجل أن أجيبك على هذا السؤال، حتى لو لدينا وزير ودولة أنا لا أعترف فيه، هؤلاء الذين في السلطة لا يهتمون أبدًا بالواجهة الحضارية الفنية للبلد، آخر همومهم المسرح والسينما والثقافة. كان لبنان رائدًا في الفنون من الستينيات وقبل ذلك، منذ مارون النقاش وعمر الزعني وشوشو وغيرهم، ثم جاءت السينما المشتركة مع مصر. دعم هذا القطاع غير وارد عندهم لأنه توجد سرقات يجب أن يهتموا بها أكثر، والوقت الآن ليس وقت الثقافة والحضارة. إننا لا نعوّل على وزارة الثقافة، لا من قريب ولا من بعيد. وأعتقد أن المسرح فقد فورته في الوقت الحالي لأنه يعتمد على التجمعات الإنسانية في الأماكن المغلقة. إذا وجد حل لهذه المشكلة فالمسرح سينهض من جديد وسينهض بلغة جديدة. هذه المرحلة شكّلت خزانًا كبيرًا من المادة الدسمة للمسرح، ولكن المسرح مشكلته ليست هنا، مشكلة المسرح أنه أكثر الفنون تهديدًا للسلطات على أشكالها، السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية، لذلك فهو يُحارب ويُحجّم دائمًا، ولكن أنا متفائل جدًا أن المسرح سيأتي في المرحلة القادمة بلغة جديدة لا تعتمد على الإنتاج، ستعتمد على لغة الشارع ولغة الحدائق العامة، وستعتمد على أماكن مواقف السيارات في الأبنية السكنية، لأن المسرح هو لغة ومن غير الضروري أن تكون هذه اللغة على المسرح. أنت تعلمين أن الدولة لم تهتم يومًا بتشييد المسارح، ولم تبنِ مسرحًا وطنيًا كأي دولة أخرى. ميزانية الثقافة والفنون غير موجودة، والخطط غير موجودة، وتعتمد على الاستنسابية والمحاصصة. وهم يفضلون أن لا يكون المسرح موجودًا، والشيء الأسخف والأتفه هو رقابة الأمن العام على المسرح والتي هي حكمًا يجب أن تُلغى لأنها شيء ساذج وسخيف وغبي. وقد ظهرت هذه الرقابة في عدد من الأفلام السينمائية، وهذا ما حدث أمام عيوني أن الأمن العام اللبناني يقول لمخرج سينمائي: لا بأس، ليس عندنا مشكلة مع العمل، لكن إذهب وتواصل مع رجال الدين، إذا لم يكن لديهم أي مشكلة مع الفيلم فنحن ليس لدينا مشكلة، لا تُدخلنا بمشاكل معهم. تصوري السخافة الى أي حدود وصلت. أنظري من يريد أن يضع رقابة على مسرح لمخرج، ليس هناك رقيب على الفن إلا الجمهور وغير ذلك هو قمع لصوص.
(*) برأيك، ما سر نجاح هذه المنصات الرقمية التي تقدّم أعمالًا من 6 إلى 10 حلقات فقط؟ لماذا الاتجاه صوب هذا النوع والخروج من القالب الدرامي التقليدي؟
كل الأمور تسير بشكل متحول وليس ثابتا، تتحول وتفتش عن آفاق جديدة، وبرأيي أن المنصات الرقمية هي نوع من الآفاق الجديدة لأنها تقدّم الحرية للمشاهد بأن يشاهد العمل بشكل متواصل ولا ينتظر الحلقات المقبلة، كما أنه يشاهد العمل في الوقت الذي يناسبه وغير مفروض عليه أن يشاهد في ساعة محددة. المنصات الرقمية لديها حيّز أكبر من الحرية. كما أن التلفزيون تشاهده العائلة كلها ويجب طبعًا أن تراعي الأعمال أعمار الأبناء، وهذا أمر غير مطبق في لبنان؛ هناك أعمال من غير المسموح عرضها قبل الساعة 10 ليلًا أو 11 أو 12. المنصات الرقمية تحرّر من هذه الأمور، وأهميتها أنها تبحث عن جمهور من اليافعين أكثر من جمهور التلفزيون أي الذين تقل أعمارهم عن 35 أو 40. تفتش عن جمهور أصغر بأعمار المراهقين وتجرّب أن تحاكي وجهة نظرهم وأحلامهم، لأن وجهة نظرهم مختلفة عن وجهة نظرنا. وطبعًا الجمهور اليافع يفتش عن أعمال أجنبية لأن أعمالنا التقليدية لا تعني له كثيرًا، الحب والغرام والخيانة، ليست بالمواضيع التي تدغدغ أفكاره وتطلعاته. أعتقد أن المنصات الرقمية لها مستقبل بهذا الاتجاه. وأنا أوجّه مطالبة إلى المنصات الرقمية أن يتضمن عملها تأسيس قنوات سينمائية، لأن هذه المسلسلات الصغيرة هي أفلام سينمائية في حلقات. أي أن يكون لدى المنصة الرقمية قناة سينمائية نشترك فيها ونذهب إلى السينما لنشاهدها دون أن ندفع هناك، وهذا نوع من التطور.
المسرح الأكثر متعة
(*) "فينوس"، "كلكن سوا"، "كاس ومتراس"، "رصاصة طايشة"، "تاكسي البلد" وغيرها الكثير من الأعمال المسرحية والسينمائية، لكن حضورك الأقوى هو في التلفزيون، بديع أبو شقرا إلى أي لغة ينحاز؟
الحضور الأكبر في التلفزيون لأن التلفزيون هو الأكثر انتشارًا، لهذا السبب فقط، لكن إذا سألتِ أي فنان ماذا يفضّل، سيجيبك "المسرح".. المسرح هو الأكثر متعة والأكثر تعبًا، والمسرح هو شغل بحثي وتجريبي باستمرار، لذلك أنا أحب المسرح، لأن الفنان يشعر بسعادة فيه ويجرّب في نفسه ويكتشف ذاته والحياة أكثر. المسرح هو عملية ورشة فنية وليس مجرد عرض فني.
(*) هل للمسرح خصوصية في كونه ذلك المكان الحساس والذي يؤدي دورًا في الوعي الفكري لدى الأجيال الشابة، وتجتمع فيه أرضية الثورة الحقيقية؟
المسرح لا يحتاج الكثير، وهو حاجة وليس للتسلية، هو حاجة اجتماعية، سياسية، اقتصادية، وحاجة لكل الاتجاهات. لكن هناك أمر لا أوافقك عليه أبدًا وهو أن المسرح لا يمكن، وخطأ قاتل، أن يكون عملًا توعويًا، هو ليس عملًا توعويًا على الإطلاق، هو حالة تعبيرية فقط. عندما نقول عنه إنه عمل توعوي هذا يعني أنه أصبح عملا تلقينيا موضوعا في كادر. المسرح هو حالة تعبيرية وليس فيه رسالة على الإطلاق وكذلك في الفنون؛ يمكن أن تُنتج رسالة من عمل فني والناس يحددونها، ولكن إذا وضعناها في إطار وقلتِ أريد أن أعمل مسرحا فيه رسالة فهذا سيؤدي إلى فشل ذريع.
(*) هل ترى أن من واجب الدراما التلفزيونية المفتوحة في كل بيت أن تكون محمّلة بالقضايا الاجتماعية والسياسية؟
أعتقد أن الدراما التلفزيونية فيها الكثير من الترفيه، والحزن والمشاكل هي جزء من الترفيه. برأيي أن العمل إذا كان محترفًا من الناحية التقنية والكتابية والإخراجية والتمثيلية، فحكمًا سيكون جيدًا، ومن غير الضروري أن يكون عملًا عميقًا ويتعاطى بالمشاكل اليومية. العمل التلفزيوني ينشأ من فكرة بسيطة ومن غير الضروري أن تكون فكرة معقدة، ومن خلال الفكرة البسيطة سيعرّفنا على المشاكل بشكل غير مباشر وربما بقالب ترفيهي أو بقالب درامي أو بقالب حزين. وليس المطلوب أن نحمّل كل الأعمال الفنية عبء العمق والمشاكل لكن يجب أن نكون حريصين على الواقع ونكون مرآة له، فلا نكذب ونغالط الناس، كما أن ندفع الناس لأن يقوموا بعملية إسقاط من حياتهم اليومية على العمل الذي يشاهدونه.
(*) إلى أي مدى استطاعت الدراما اللبنانية أن توثّق تاريخ لبنان ماضيًا وحاضرًا؟ هل ثمة نقص في هذا المكان، ويجب العمل على تأريخ حقبات معينة لم يتم الكشف عنها؟
ليس المطلوب من الدراما التلفزيونية أن توثق أو أن تتعاطى بكل الأمور تاريخيًا، يمكن أن نقرأ كتابا لمؤرخ معين نتعرّف عليها أكثر، لكن الدراما تواجه مشكلة كبيرة عندما يتم التعاطي مع التاريخ في الدراما والمسرح وغيره. نعرف أن هناك الكثير من المغالطات في تاريخنا وفي التاريخ الذي يُدرّس عندما نتعاطى بالثورات وخاصة مرحلة المتصرفية في لبنان، من هناك نشأت كل الحركات في لبنان، وكل شخص يتعاطى معها وفقًا لما يناسبه ويناسب طائفته، لدينا مشكلة في كتاب التاريخ من الأساس. لنأخذ مثالًا ليس عربيًا، نقرأ في كتاب التاريخ أن مكتشف أميركا هو كريستوفر كولومبس، بينما كولومبس ليس مكتشفًا على الإطلاق، هو تاجر رقيق، هو سارق ومجرم وتاجر، وليس له علاقة بالاكتشاف لا من قريب ولا من بعيد، هذه مغالطة تاريخية يجب أن تُحذف. إذًا هناك مشكلة بالتعاطي مع التاريخ، لكن برأيي أن العمل الفني يجب أن يكون صاحب بحث دقيق إلى أقصى الحدود أو سيفشل لأنه سيكون كأنه يكذب على العالم.
(*) كان لجائحة كورونا تأثيرات جوهرية على صعيد العالم والمجتمعات واقتصاديات الدول، إلى أي مدى أثرت جائحة كورونا على الأعمال الفنية، من خلال تجربتك كيف تجد هذا الأثر؟ وهل توافقني أن مسرح بيروت بعد الثورة انتفض معها، رغم جائحة كورونا.
أثرت جائحة كورونا على الأعمال الفنية بسبب الحذر وإعاقة التصوير. هذه المرحلة التي يمر بها العالم غيّرت وجهات نظر كثيرة وأعتقد أنه بالمرحلة القادمة فنيًا سيكون لدى العالم لغة فنية جديدة تنتج عن هذا المرحلة؛ كمرحلة الإنفلونزا الإسبانية، التي نتج عنها الكثير من الروايات والآن الشيء نفسه على ما أعتقد. والمسارح في بيروت جربت أن تشتغل خلال الجائحة، وهنا يجب أن نحيي أصحاب المحترفات متل مسرح "شغل بيت" والورش الفنية متل "زقاق"، هذه المحترفات هي التي جعلت نبض المسرح يستمر، لأنهم يعملون على مبدأ community (التواصل الاجتماعي) أكثر من مبدأ العرض، وسيكون لهذه المحترفات تأثير كبير بالمرحلة القادمة.
الفنان على قلق دائم
(*) عام 2020 كان حافلًا على الصعيد الفني في حياة بديع أبو شقرا رغم الجائحة، لدرجة أن إحدى الصحف كتبت العام الماضي "بديع أبو شقرا ينافس نفسه في رمضان"، هل أنت تقطف الآن ثمرة خمسة وعشرين عامًا من التجربة في هذا العالم؟
أحيانًا نقوم بتصوير العمل لكن لا يُعرض إلا بعد سنتين، وأحيانًا خلال التصوير يبدأ عرض العمل، لا يمكننا أن نتحكم بوقت العرض وكيف سيُعرض. بالنسبة لي، لا زلتُ أحتاج إلى الكثير والآن بدأت تتغير وجهة نظري في كثير من الأمور. هناك بعض الأعمال اشتغلتها في المسرح سابقًا، إذا اشتغلتها من جديد سيكون الأمر بطريقة مختلفة، كما أني عملت على عدد من الأعمال التلفزيونية، أقول الآن "كيف كنت أفكر!"، هناك نوع من السذاجة في تفكيرنا، في ذلك الوقت لم تكن ساذجة ولكن الآن نراها ساذجة، والإنسان مثل الفن، هو كائن متحول وليس كائنًا ثابتًا، والذي يقول "أنا راض وأنا قطفت تعبي" يكون انتهى فنيًا. الفن هو عملية بحث مستمر وعملية بحث في الداخل أكثر مما هو عملية بحث في الخارج، أي أن يكتشف الإنسان أشياء في داخله وقد تتغير بعد عام حين يكتشف أشياء جديدة في داخله. الإنسان ليس ثابتًا ومستقرًا ولذلك هناك قلق دائم.
(*) ثمة حزن لدى بديع أبو شقرا لأن اللبناني لا يبيع عربيًا كما يستحق، وتحاول البحث مع المنتجين والممثلين والكتّاب بمشاكل الدراما داخليًا وخارجيًا وإمكانية فتح أبواب، كما أن ثمة جدلًا ونقاشًا أن الأعمال المشتركة اللبنانية السورية وسّعت مساحة انتشار اللبناني عربيًا، كيف ترى الأمور؟
المشكلة في لبنان أنه لدينا أعمال فنية مهمة لكن ليس لدينا "الصناعة" التي لا يُلام عليها المنتج ولا الممثل ولا التقني، تُلام عليها الجهات الرسمية التي لم تهتم بهذا القطاع كقطاع منتج يمكن أن يجعل من لبنان مكانًا مهمًا للتصوير لكل الدول العربية كي يأتوا ويصوّروا في لبنان، وهو ما قد يشكّل نسبة جيدة من الدخل القومي. لدينا مشكلة الصناعة والتسهيلات والخطط لنجعل من لبنان مركزًا لتصوير الأعمال الفنية للعالم العربي كما كان في فترة من الفترات وكانت البرامج الفنية على القنوات العربية تُعرض فيه، أي أن يكون مركزًا للإنتاج السينمائي والتلفزيوني ويكون فيه مدن سينمائية وفنية لما يتميز به من تعدّد المناظر ومن الإمكانيات التقنية ومن الممثلين والمخرجين ومن طقس مساعد. هذه الأمور لم يتم تفعيلها لذلك نواجه مشكلة ونعود للموضوع أنه عندما لا يكون هناك دولة ولا جهات رسمية ستكون العملية صعبة لأن هذه الأمور لا تُجرى على صعيد الأفراد بل يجب أن تتم على صعيد المؤسسات الرسمية. ونأمل بالمرحلة المقبلة بعد التغيير الذي من المؤكد أنه سيحدث أن يصير لبنان استديو جامعا للعالم العربي. أما عن النقاش الذي حصل حول الموضوع اللبناني والسوري فطبعًا كلما اشتغلتِ في عمل انتشاره أوسع، حكمًا سنتشرين أوسع. وهناك ممثلون لبنانيون انتشروا سابقًا وهناك منهم من يظهر الآن، العملية مثل دولاب يدور.
الكتابة كحالة تعبيرية
(*) تقول لفلسطين "تلك الأرض لأطفال الحجارة/ أطفالًا رجالًا/ في يدهم حجر/ وفي الأخرى قلب أم".. بديع أبو شقرا شاعر وكاتب أيضًا، وقد صدرت لك ثلاثة كتب بين الشعر والنثر، وهذا جانب آخر من وجهك، كيف جاء هذا الشغف بالكتابة، ولماذا العودة إلى الشعر باستمرار؟
هذا الأمر موجود في داخلي هو حالة تعبيرية لكن لا أعتبر نفسي شاعرًا أو كاتبًا. الكتابة تحتاج إلى كيان مستقل وأن يكون الأمر بمثابة مهنة للكاتب. لكن في بعض الأحيان يشعر كل إنسان أنه بحاجة لأن يعبّر وكل شخص يعبّر على طريقته. الكتابة هي حالة تعبيرية في داخلي منذ صغري ولا زلت أحتفظ بكتابات في درج خزانتي منذ أن كان عمري خمسة عشر عامًا، وأحب اللغة العربية وأعتبرها من أكثر اللغات التي يقدر أن يعبّر فيها الإنسان. بالنسبة لفلسطين، طبعًا هي لأطفال الحجارة، هي ليست للصهاينة وأيضًا هي ليست للذين يتاجرون بالقضية الفلسطينية. أطفال الحجارة هم الأشخاص الأصليون لفلسطين.
(*) أنت ناشط ومؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل هم الثورة منذ انطلاقتها. الثورة ولبنان، إلى أين، هل ثمة أمل بانزياح هذه الطبقة السياسية عن وجه لبنان، أم أنهم سيكرّرون لعب دور حماية الطائفة فنبقى في الهوة نفسها؟
هذه الطبقة السياسية ستستهلك كل قدراتها لتظل موجودة، لو وصل أن تقوم بحرب ستجرب. مشكلة هؤلاء، أولًا ارتكبوا أكبر جريمة سرقة بتاريخ البشرية، وثانيًا ارتكبوا أكبر خيانة بحق شعبهم لأنهم لم يقفوا مع الناس، هم يعتمدون فقط على الحلقة الضيقة من مناصريهم وما تبقى منهم لأنهم مجموعة عصابات يدافعون عنهم للموت ويقتاتون من أكتافهم. لكن مشكلتهم الوحيدة، هذه الطبقة الساسية، بالرغم من ذكائهم، أنهم لا يقرأون التاريخ، لم يروا ما حدث بغيرهم، يمكن أن لا يتم التغيير الآن، بل بعد وقت طويل لكن سيصير، بالتأكيد هناك دائرة وسوف تدور. هناك غباء موجود لديهم ووقاحة، انظري كيف يتعاملون مع جريمة 4 آب/أغسطس، الآن يتحصنون بالحصانات النيابية وعندما يفقدونها سيضحّون ببعض نوابهم وبعض المسؤولين الذين ينتمون لهم وسيرسلونهم إلى السجن "إنو نحنا أوادم"، لكن لا يمكن لهذا الخط الاجتماعي تاريخيًا أن لا يوصل إلى التغيير، المهم أن يصل لتغيير بأقل خسائر ممكنة، لأن الوضع لم يعد يُحتمل. بالنهاية إذا رأى الابن أباه ديكتاتوريًا ومغتصبًا وسارقًا وغير مبالٍ بآلام الناس فهو قد يقتل أباه. وهذا الأمر لا تدركه هذه الطبقة السياسية. ورغم كل المآسي لديّ أمل بالتغيير. بداية الثورة حطمت كل معادلاتهم. والأكثر، أن كل واحد منهم يقول "هذه السلطة القاتلة.. هذه السلطة الفاسدة يجب القضاء عليها".. وأنت ماذا تفعل، هل لديك متجر بقالة أم أنك مسؤول عن دولة.. لا أحد يجرّب أن يتهرّب من رأس الهرم الغائب إلى أصغر مسؤول، فعلًا هناك شيء سريالي. أنا لا أحب الكلام المؤذي لكن هذه الحصانات هي ورق تنشيف لا قيمة لها بالنسبة لنا. وبدلا من أن يكون كل واحد منهم قدوة لغيرهم عندما يطلبونه على التحقيق وأن يقف وقفة إنسان مسؤول ويقول أنا قادم إلى التحقيق لأني مسؤول وإذا ظهر أنه عليّ أي خطأ فأنا أتحمل المسؤولية، فإنهم لا، هم لا يريدون ذلك بسبب الخوف في داخلهم. تفككت كل التركيبة بهذه اللعبة، ونحن نظن أنهم أقوياء لكنهم في الحقيقة مرعوبون.
(*) من هو معلمك الأول في التمثيل والحاضر معك دائمًا؟
لا يوجد معلم واحد في التمثيل. هناك أشخاص أثروا بي بعدة أشياء في القراءات أو في العمل، وهناك أشخاص رافقوني بأعمال كثيرة، كل مرحلة كان فيها أشخاص مؤثرون. مثلًا رضوان حمزة وأساتذة الجامعة اللبنانية الذين درست معهم أثروا بي، المخرج مجدي أبو مطر أثر بي في مرحلة من المراحل، جاك مارون، كميل سلامة، مارون نجار، ميشال جبر، روميو لحود وخاصة في معلوماته التاريخية؛ اشتغلت رسالتي الماجستير عن مسرح الكاباريه وقد ساعدني روميو لحود كثيرًا في البحث عن هذا الموضوع. لا أحب أن أذكر أسماء كي لا أنسى أحدًا، ففي كل مرحلة هناك شخص مؤثر. أحيانًا ليس الأشخاص الذين يؤثرون بك، هناك مؤسسات تؤثر مثل "مترو المدينة". أنا ضد فكرة الأشخاص كليًا، ولا يمكن أن أعتبر شخصًا واحدًا هو مثلي الأعلى. الفكرة هي مثلي الأعلى في الحياة وقد تكون قادمة من الشخص.