}

إيزابيل بوديس: الشرق فتح عينيّ على حضارة عظيمة نجهلها

بوعلام رمضاني 4 أكتوبر 2022
حوارات إيزابيل بوديس: الشرق فتح عينيّ على حضارة عظيمة نجهلها
إيزابيل صياح-بوديس


سمراء الوجه، وتشبه بذلك حتمًا البدويات العربيات الجميلات الطالعات من صحراء سخية وساحرة، وصاحبة روح متوسطية تجمع بين ضفتي البحر اللازوردي الوديع الذي يفصل بين الجزائر البلد الذي ولدت فيه، وبين فرنسا التي تنشر فيها كتبًا عن شرق بديع بأفكار غير مسبقة. كبرت واشتهرت في باريس ككاتبة صحافية مثقفة مثل زوجها، الصحافي الكبير الراحل دومينيك بوديس، النجم الذي اشتهر كمقدم تلفزيوني ورجل سياسي تمكن من تغيير مدينة تولوز الوردية كعمدة من طراز خاص، وهي المدينة التي خلدها الفنان الكبير الراحل كلود نوغارو في أغنيته الشهيرة "تولوز". إنها إيزابيل صياح- بوديس التي تؤرخ للذاكرة العربية والأمازيغية والمتوسطية من خلال دار "أوريان للنشر" الأولى من نوعها في فرنسا، ولا أدل على صحة ذلك من كتب "قصص جدي البربرية"، و"الكاهنة" و"هيغل والإسلام" و"في مقهى النيل الكبير" و"أم كلثوم" والتي أهدتها لي قبل شروعنا في هذا الحوار الذي جمعنا في يوم خريفي ممطر بأحد المقاهي الناطقة بروح عاصمة الأنوار. كتاب "هيغل والإسلام"، للباحث العراقي الأستاذ حسين عزيز هنداوي، ربما يكفي وحده لإبراز أهمية دار كشفت عن المقاربة الإيجابية للإسلام على يد مفكر استنطق فلسفة التاريخ. إيزابيل غير معنية بالصراع الأيديولوجي الذي تعرفه بعض النخب العربية على خلفية لغوية تنظر لها من منطلق إيجابي يعكس ثراء متوسط يضرب بجذوره في التاريخ العميق. يكمن سعيها الوحيد في تمثيل الشرق بكافة أطيافه وملله بكتب عالية الجودة شكلا ومضمونا في بلدها الفرنسي الذي ما زال لم يتحرر من وطأة استشراق كما قلت لها، وهو الاستشراق الذي رفضه العلامة الباحث أندري ميكيل من منظوره الخاص كمستعرب وليس كمستشرق، كما قال لكاتب هذه السطور في الماضي. إيزابيل سائح- بوديس نشرت له عددًا من كتبه، وتسهر على تكريمه هذه الأيام رفقة ابنته كلود، الفنانة التشكيلية، تحت إشراف جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي.


هنا نص حوار معها:

(*) في البداية، كيف تقدمين نفسك لقراء "ضفة ثالثة"؟

اسمي إيزابيل صياح- بوديس، وأنا من مواليد الجزائر. أبي جزائري وأمي فرنسية من مواليد الجزائر كما قلت لكم قبل الشروع في التسجيل. قضيت طفولتي في الجزائر وفي الشلف (الأصنام سابقًا، وتقع غرب الجزائر)، وانتقلت إلى فرنسا عام 1969 في سن الحادية عشرة، أصبحت صحافية وكاتبة. بعد تجربة دامت سنوات في الصحافة، فكرت في تأسيس دار نشر تعني بالعالم العربي والإسلامي في ظل انعدام دار تهتم به، وأطلقت عليها تسمية "الشرق" بصفة متعمدة تعكس توجها يجسد تنوع هذا العالم الغني فكريًا وأدبيًا ولغويًا وحضاريًا كما تبين ذلك الكتب التي شرعت في نشرها عام 2012، تاريخ تأسيس داري للنشر، والكتب التي أصدرتها مؤخرًا، وأهديها لكم شاكرة مسؤولي موقعكم الثقافي الهام الذي سمح لي بالحديث عن عملي.


(*) أي نوع من العلاقة تربطكم اليوم بالجزائر رغم مرور عقود من تاريخ مغادرتها؟

ببساطة شديدة الجزائر تسكنني لسبب لا يحتاج إلى كثير من التفسير والتعليق. إنها الأرض التي ولدت فيها، وصنعت وجداني الأول. أمي التي ولدت في الجزائر باعتبارها واحدة ممن أطلقوا عليهم "الأقدام السود"، كانت جزائرية حتى النخاع، ومنحدرة من عائلة متكونة من ثلاثة أجيال، وزواجها من أبي الجزائري دليل آخر على تعلقها بهذه الأرض الرائعة. الجزائر كانت وستبقى تلاحقني بشكل أو بآخر، وهي جزء من العالم العربي والإسلامي الذي يشكل وجدانًا ما زلت أنطق به عبر عملي الحالي كناشرة لكل ما له علاقة به. مع زوجي الراحل دومينيك الذي كان مراسلًا صحافيًا في الشرق الأوسط، عشقت أكثر هذا الشرق الذي يتجاوز الصورة الخاطئة المتجذرة في أذهان الكثير من الفرنسيين. الشرق فتح عينيّ على حضارة عظيمة كنت أجهلها، وبفضله تجاوزت مستوى انتمائي المغاربي الضيق الأول، ولامست حدود جغرافيا تشترك مع الجزائر في جوانب ما، وتختلف عنها في الوقت نفسه الأمر الذي زاد من ثراء انتمائي وأفقي الثقافي والإنساني.

(*) وماذا عن تأثير والدك كجزائري تربيت في أحضانه؟

أبي كان جزائريًا وأنا أحمل اسمه العربي.

(*) هل من علاقة تأثير تسبب فيه زوجك لاحقًا بحكم إقامته في الشرق الأوسط على قرار تأسيسكم لدار نشر تعني به؟

لم تكن هناك علاقة مع زوجي، وبدأت الاهتمام بالشرق قبل تاريخ ارتباطنا.

(*) كيف بدأتم عمليا الاهتمام به؟

بدأت عملي بالحلاج وأم كلثوم، ثم بالأقدام السود في علاقتهم بأصلي كما مر معنا.

(*) تناول عدد كبير من المؤرخين الفرنسيين هذا الموضوع مثلكم باعتبارهم من أبناء الأقدام السود. هل كان كتابكم الذي لم أطلع عليه بعد سيرة ذاتية أم ماذا؟ وإلى أي حد يعتبر نوعًا من العلاج النفسي لأمثالكم الذين اضطروا لمغادرة بلد ولدوا فيه؟

نعم، نعم.. علاج وتعويض في الوقت نفسه.

(*) كيف أثر فيكم والدكم الجزائري على النحو الذي يمكننا من القول إنه ساهم أكثر من أمكم بحكم هويته في غرس حب الشرق فيكم؟

تكمن المفارقة في حقيقة مفادها أن أمي هي التي كانت وراء ذلك في غياب أبي الذي تم نفيه إلى سويسرا بسبب مواقفه السياسية. أمي الفرنسية هي التي أهدت لي القرآن الكريم وليس أبي، وهي التي راحت تعلمني ما هو الإسلام وما هو العالم العربي كجزائرية في الأرض الحضارية التي ولدت فيها وأحبتها. كانت مسيحية، لكن ذلك لم يمنعها من مطالبتي بمعرفة الإسلام وقراءة القرآن الكريم. تأثير أبي جاء لاحقًا بعد الاستقلال حينما عشت مع عائلته في الشلف التي عشت فيها حياة ريفية. بعد طلاقهما، وجدت نفسي بين عائلتين شكلتا وجداني بطريقة متوازنة ومنسجمة. أبي أعطاني دمه، وأمي حب البحث والاطلاع.

أندري ميكيل مع إيزابيل صياح- بوديس ويتوسطهما الكاتب الجزائري غالب بن شيخ



(*) بصفة ملموسة، متى بدأ تجسيدكم المهني والفكري للشرق؟

بدأت كاتبة وباحثة قبل تحولي إلى ناشرة. إلى جانب أم كلثوم، عملت على "ألف ليلة وليلة"، وعلى النساء الشرقيات بوجه عام وعلى الخط العربي والتصوف. بعد سنوات قضيتها باحثة وكاتبة، فكرت في الانتقال إلى مرحلة تسمح أكثر بإعطاء صورة أكثر إيجابية عن شرق يقدم بشكل كاريكاتيري، وغير معروف بالقدر الكافي كتاريخ ضارب بجذوره في الحضارة الإنسانية وثري ومتنوع ويتجاوز بكثير الكليشيهات الفلكلورية التي تروج عنه، ومن هنا نشأت فكرة تأسيس دار "أوريان للنشر".

(*) يبدو لي أن حياتكم الزوجية لم تسمح بممارسة الصحافة، والمعروف عن زوجكم الراحل خوضه حياة سياسية كبيرة.

هذا صحيح. لقد كانت الحياة السياسية التي خاضها دومينيك مؤثرة بشكل أو بآخر على مسار حياتي المهنية، ولم أمارس الصحافة لمدة طويلة الأمر الذي سمح لي في الوقت نفسه في الشروع في البحث والتأليف. عملت صحافية لمدة أربعة أعوام فقط قبل توجهي رفقة زوجي إلى تولوز للعمل جنبه. بموازاة لذلك، كنت أهتم بأبحاثي حول الشرق.

(*) لاحظت في سيرتكم الذاتية، أنكم نشرتم كتاب "أم كلثوم" عند دار "دوروشيه" قبل تأسيسكم داركم الشخصية المذكورة؟

نعم، وأعدت طبعه عند دار دونوال، ولاقى الكتاب رواجًا كبيرًا.

(*) هل السبب يعود فقط إلى شهرة أم كلثوم أم أنكم اشتغلتم عليها بشكل غير مسبوق؟

شهرتها تعد أحد الأسباب، ولعبت علاقاتي الشخصية كصحافية قابلت عددًا من الفنانين الذين عرفوها واحتكوا بها بزيادة الإقبال على الكتاب، ومن بينهم محمد عبد الوهاب ويوسف شاهين وعدد من موسيقييها وكتاب كلمات أغانيها. راج الكتاب أيضًا، لأنه كان الأول من نوعه، وتضمن معلومات غير مسبوقة عن أم كلثوم على الصعيدين الفني والحميمي. نشرت كتابين عن أم كلثوم، والثاني كان أكثر عمقًا وتفصيلًا.

(*) كتاب أول عن ظاهرة فنية مثل أم كلثوم في فرنسا يدل على عدم انفتاحها الكافي على العالم العربي والإسلامي أو الشرق الذي يزخر بطاقات فكرية وفنية لا تقل إبداعًا في العالم وفي فرنسا. ألم يحسسكم ذلك مدى الإهمال الذي تعرفه الثقافة العربية وفنونها في فرنسا في ظل استمرار وطغيان كل ما هو سلبي عنها؟

أنتم تعرفون مثلي وللأسف الشديد أن الإعلام يركز أكثر على القطارات التي لا تصل في الوقت المحدد كما يقال، والمثل الأنجلوساكسوني يقول: "أخبار إيجابية لا أخبار". لم أحس نفسي أنني مضطهدة أو ضحية العنصرية لأكتب عن أم كلثوم، ولكن تأكدت فعلًا من تهميش الجوانب المشرقة والغنية من شرق يزخر بالإبداع كما قلتم، والأفكار المسبقة عن شرق الحريم ليس جديدًا. على فكرة، العنصرية أو الأفكار المسبقة ليست حكرًا على فرنسا، وهي ظاهرة عرفتها، وما زالت تعرفها الإنسانية، وأنا عشتها في عائلتي العربية والفرنسية بحكم هويتي الخليطة. في المحصلة، أنا حذرة ومتوازنة في أحكامي حينما يتعلق الأمر بهذه القضية، ولا أنجرف وراء العاطفة والتسرع والحماسة الزائدة والذاتية المفرطة.

من إصدارات "دار أوريان للنشر"



(*) لو نخفف وطأة اللقاء الجاد لحد اللحظة، بقولي إنكم ربما رحتم ضحية مثل ميغان، زوجة الأمير الإنكليزي هاري، السمراء مثلكم. يقال إنها راحت ضحية عنصرية طرف ما في القصر الملكي البريطاني..

بصراحة لم أتابع قضيتها بسبب انشغالي المنتظم بإصداراتي. أكرر مجددًا، أن العنصرية تتجاوز الزمان والمكان، وليست وقفًا على عرق معين، والتاريخ حافل بالأمثلة شرقًا وغربًا. الأصح أيضًا، هو أن الشرق يقارب في فرنسا وفي الغرب بوجه عام من منطلق مغرض وغير صحي الأمر الذي يشوه جوانبه الإيجابية التي لا تخدم الإعلام. أقول هذا الكلام لأنني عشته مباشرة بعد زواج أبي من أمي. العائلة العربية والفرنسية رفضتا زواجهما، ووجدا أنفسهما وحيدين قبل وبعد الزفاف.

(*) هل أفهم أن الاستشراق كما عرفته أوروبا وفرنسا بوجه خاص ليس عنصريًا في المطلق بتصوركم؟

بطبيعة الحال ليس كله عنصرية، وأنطوان غالون حينما راح يكتشف الشرق لم تكن نيته عنصرية، وتقديمه "ألف ليلة وليلة" لم يمت بصلة لذلك، واستطاع أن يغير الكثير من الذهنيات الفرنسية بعمله الخارق الذي أضحى إيجابيًا في المحصلة. الاستشراق يتضمن الفلكلورية السلبية ويعج بالأفكار المسبقة، لكنه ليس كذلك فقط في المطلق، وهو بحث، ولوي ماسينيون وجاك بيرك من أكبر المستشرقين الذين تركوا أثرًا بحثيًا قابلًا للنقاش ككل بحث، ولكنه إضافة للإنسانية في نهاية المطاف.أندري ميكيل مستشرق أيضًا وليس عنصريًا كما تعرفون. كلهم تناولوا الحضارة العربية والإسلامية بشكل لافت بطرق مختلفة، وأغنوا المكتبة الإنسانية بأبحاث جادة بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم في هذا الجانب أو ذاك.

(*) أتفق معكم على الأهمية الفكرية للاستشراق كإضافات نوعية، لكن أختلف معكم نسبيًا حينما نقف مثلًا عند عنصرية فيكتور هوغو ونرفال وحتى شاتوبريان. هناك الغث والسمين في الاستشراق، وأنا معكم عند التحدث عن فائدته كبحث واكتشاف إنسانيين.

هذا صحيح جدًا، لكن أعطيت لكم في نفس الوقت مثال أندري ميكيل غير العنصري مثله مثل ماسينيون وبيرك، وأنتم تعرفون ذلك ما دمتم بصدد إنهاء كتاب عن ميكيل.

(*) شكرًا على الإشهار (ضحكنا في اللحظة نفسها).

العفو. هذه حقيقة، وأشكركم مجددًا على هذا الكتاب الذي يستحقه فعلًا الكبير أندري ميكيل، والذي جاء في شكل تتويج وتكريم لرجل أقرب إلى الظاهرة. الرجل الذي يبلغ من العمر 92 عامًا، وألّف قرابة مائة كتابًا، سيكرّم قريبًا في معهد العالم العربي، وعندي موعد هذا الأسبوع مع جاك لانغ، رئيس المعهد، رفقة ابنة ميكيل، كلود الفنانة التشكيلية، لتحضير التكريم. هذه معلومة في شكل سبق لكم (ضحكنا وشكرتها مجددًا).

(*) الكثير من الكتاب أسسوا دور نشر بعد أن رفضت كتبهم أو لقوا مصاعب ومشاكل مع دور نشر ترددت في نشر أعمالهم أو رفضتها دون تقديم مبررات مقنعة، وأنا شخصيًا أعرف كاتبة جزائرية أسست دار نشر الأمير في مرسيليا وربما تكون حالتها أشبه بحالتكم، كما أعرف كاتبًا أسس دار نشر للسبب نفسه. هل حدث لكم الشيء نفسه؟

نعم، عشت ذلك بعد أن رفضت لي دار نشر فرنسية كبيرة كتابي عن الحلاج.

(*) هل يمكن أن نعرف من هي؟

لا أستطيع الإفصاح عن اسمها لسبب خاص. كل ما يمكن أن أقول هو أن الصوفي المسلم الشهير لم يهمها. أنا سعيدة اليوم لأن هذه الدار الشهيرة رفضت كتابي.

(*) قدمت لكم خدمة.

غير مباشرة وغير مقصودة.

(*) أخيرًا هل يمكن القول إن زوجكم الراحل الذي كان صحافيًا شهيرًا كمراسل حربي في عز الحرب الأهلية التي عرفها لبنان، لعب دورًا في دعمكم بحكم حبه للشرق من جهة، وعلاقاته المهنية من جهة أخرى؟

عمليًا لا، لأنه كان عكس كل ما يفهم من سؤالكم. تمثل دعمه في تواطؤ مشترك جمعنا بفضل حبنا لشرق ليس هو الشرق الغرائبي والفولكلوري الذي يشوّه حضارة عربية وإسلامية كبيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.