}

أسامة الرحباني: تقلقني الخفّة في التعاطي مع الموسيقى عربيًا

دارين حوماني دارين حوماني 16 مارس 2022

يخوض الموسيقار أسامة الرحباني (1965) مشروعًا بعد آخر، تأليفًا وتلحينًا، كأنه يحاول أن يرتق ذلك الخيط الطويل بين الشرق والغرب، بين الماضي البعيد والمستقبل الآتي، مع جهد كبير لانتشال الموسيقى العربية مما يصفه بأنه "هبوط عام"، وهو موجود وحاضر بإبداع عالٍ رغم كل السقوط الذي يحيط بنا. ولعلّ نظرة واحدة إلى أعماله ستحيلنا إلى موسيقار من نوع آخر، لا يشتغل في مكان واحد، هو حارس الصوت والموسيقى وحارس الفن الكامل في مسرحه الغنائي الذي يدوزنه على إيقاع الفن الراقي وذلك النسيج المتفرّد بين التراث والمعاصرة منقّبًا عن الإبداع المتكامل. لا يشتغل أسامة إلا في المساحة المتمرّدة، يعمل على تثوير اللغة الموسيقية كردّ فعل على البنية المجتمعية الفكرية الطائفية والتسطيح الإعلامي، خارجًا من العباءة الرحبانية الثورية انطلق يستعيد وهج المسرح الغنائي فكانت له أعمال مسرحية وهي "وقام في اليوم الثالث"، "آخر يوم"، "جبران والنبي"، و"عودة الفينيق"، ومع أخويه المؤلفين الموسيقيين مروان وغدي الرحباني "دون كيشوت" و"الانقلاب"، ومع والده الموسيقار الراحل منصور الرحباني كملحن وموزع، "ملوك الطوائف" و"أبو الطيب المتنبي" و"آخر أيام سقراط" و"الوصية". أصدر عددًا من الألبومات منها "غسان يلتقي أسامة"، و"النظام الجديد"، و"أسامة على خشبة المسرح"، إضافة إلى التأليف الموسيقي لعدد من المسلسلات منها "هوس" و"الموت القادم من الشرق" و"العوسج" و"350 غرام" و"طريق"، ومن الألبومات التي أصدرها مع المغنية اللبنانية هبة طوجي (سوبرانو كولوراتور) "يا حبيبي"، "لا بداية ولا نهاية"، و"هبة طوجي ووديع أبي رعد في المسرح"، "Live in Byblos"، و"هبة طوجي 30" (Double Album)، و"هللويا"، إضافة إلى عدد من الأغاني المنفردة. وقدّم أسامة الرحباني القصيد السمفوني "سينرجي" Synergy مع "لندن فيلهارمونيك أوركسترا". نال جائزة الوكالة الفرنكفونية ACCT عام 2020 وجائزة أنور سلمان للإبداع عام 2019. وأطلق قناة خاصة بمنصور الرحباني على يوتيوب تتضمن إرث والده الفني منذ عام 1986 حتى رحيله عام 2009، ويحضّر حاليًا لإصدار ألبوم جديد مع هبة طوجي بأبعاد عالمية.

عن القناة والألبوم ورؤيته للواقع الفني كان لنا معه هذا الحوار:  
 

(*) نود أن نبدأ من مشروع حفظ إرث الموسيقار منصور الرحباني الفني عبر إطلاق قناة خاصة به عبر يوتيوب تتضمن أكثر من 250 عملًا له، كيف حضرت فكرة المشروع، هل على خلفية تغييب الكبار في وسائل الإعلام اللبنانية؟ ماذا تتضمن القناة تحديدًا، وهل كانت هناك صعوبة في ترميم أرشيف خاص لمنصور لم يتم إدراجه في القناة؟

بدأت الفكرة منذ فترة، كيف يمكن أن ننتبه لإرث منصور الرحباني الفني وأن نضعه بطريقة يكون بمتناول الجميع أو في مكتبة افتراضية يستطيع أي إنسان أن يصل إليه، وكيف نجمع هذا الإرث بطريقة تكون مقوننة ومراقَبَة وتحت القانون وكل الأعمال أصلية وليست نسخًا غير واضحة. هناك أعمال عتيقة عملنا على ترميمها، وأحيانًا هناك أعمال لا يكون بمقدورنا الحصول عليها، كما أن هناك أعمالًا ضاعت ولا نجدها، ولكن سنحاول أن نحصل على كل ما يخص إرث منصور الرحباني الفني. وأقول إن كل شخص، أي إذاعة، وأي تلفزيون، يزوّدنا بأي حديث مع منصور سوف يتم ذكر اسمه مع حفظ حقوقه.

طبعًا القناة ضخمة وتتضمن كل أعمال منصور، من "صيف 840" و"الوصية" و"آخر أيام سقراط" "وأبو الطيب المتنبي" و"ملوك الطوائف" و"حكم الرعيان" التي تم تصويرها لكن لم تُعرض بعد، و"زنوبيا"، و"القداس الماروني"، وسوف نعرض لقطات من المسرحيات التي عُرضت في الخارج كإعادة إنتاج، من أجل أرشفة المسرحيات من أكثر من مكان، منها "زنوبيا" في بيبلوس و"المتنبي" في بعلبك و"سقراط" في القاهرة و"صيف 840" الكاملة الجديدة بنسختها الرائعة في بيبلوس، وهكذا.. كل المسرحيات. وسنعرض كل الأغاني من قلب هذه المسرحيات، كل أغنية لوحدها، بالإضافة إلى أغانٍ منفردة غير منشورة من قبل وأغانٍ معروفة وغير معروفة. أيضًا تتضمن القناة محاضرات ومحادثات خلف الكواليس عن الأعمال، وأحاديث إذاعية وتلفزيونية، إضافة إلى نصوص شعرية من كتب منصور الرحباني وحلقات "منصور يقرأ" عن 31 شاعرًا. نحن ندرك المستوى الفكري لمنصور الرحباني وثقافته، ولذلك سوف ننشر الكثير من أحاديثه والتي يمكن أن نتعلم منها العمق الثقافيّ الذي كان يملكه الأخوان الرحباني. القناة غنية جدًا ويمكن تفريغها في كتب. بالنسبة للمسرحيات المشتركة التي هي من إنتاجي، أي أنني صاحب الفكرة والرؤية واللحن والتوجه العام للمسرحية والموسيقى، فسوف تعرض على قناة اليوتيوب الخاصة بي، هنا نتكلم عن "وقام في اليوم الثالث"، "آخر يوم"، "جبران والنبي" و"عودة الفينيق".  

هناك تقصير في الإعلام. فالإعلام، في معظمه، ضائع بالسطحيات وبالأمور الاجتماعية، منشغل بهذه ماذا لبست وبهذا ماذا فعل. أصبح الفن رخيصًا بالعمق الكبير. يوجد بالتأكيد فن جيد لكن الكمية الكبيرة منه تمر كيف ما كان، هكذا على السطح. بالتأكيد هناك أشخاص عندهم حب، ولكن لا ننسى أن هناك أشخاصًا من محبتهم يعرضون أعمال الأخوين رحباني بطريقة غير قانونية أو غير مرخص لها، ونحن نجرّب أن نستعيد كل شيء وننظمّه بطريقة رسمية.  

القناة ضخمة وتتضمن كل أعمال منصور الرحباني 



(*) هل يمكن أن تكون هذه الخطوة دعوة لحماية حقوق الفنانين وإرثهم في عالم عربي لا يلتزم كثيرون فيه بقوانين حقوق النشر؟

الحقوق لها علاقة بالزمن وبكيفية الاتفاق بالعقود. هناك حقوق تبقى للمؤلف وللملحن، وهناك شركات يكون لها حقوق ولكن يمر عليها الزمن، ولكن استجدّت أمور كثيرة منها منصات شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع، وبالتالي تحتاج الأمور إلى إعادة تجديد العقود وهذا يحصل بالاتفاق بين الورثة وبين الأطراف الأخرى. نعمل على هذه الأمور برويّة لأن الحق صار لنا، وأعتقد أن أفضل من يحافظ على الإرث هم الذين لهم علاقة به، وبالنهاية إذا كان هناك ناشرون على مستوى عالمي فسيحافظون على الحقوق ويوزّعون بشكل جيد بين الأطراف. لكن الأرجح أن الشركات في العالم العربي لا تهتم كثيرًا بهذه الأمور ولا تعمل بجدّية للمحافظة على الحقوق، ولهذا السبب قررنا أن نستعيد حقوق النشر بهذه الطريقة بالاتفاق مع الآخرين وأن تكون الأمور تحت رقابتنا.
  

(*) الأخوان رحباني لم يكونا مجرد مؤلفين موسيقيين وكاتبين، هما تراث وطن كامل، بل تراث عربي كامل، فهل يمكن أن نشهد مشروعًا مع السيدة فيروز لقناة تجمع أعمال الأخوين رحباني تكون بمثابة هدية للمكتبة الموسيقية العربية حيث نشعر بالحاجة إلى العودة إلى التراث الذي تركاه لنا بكل ما في أعمالهما وأحاديثهما من ثروة فنيّة حقيقية يجب حفظها؟

طبعًا هذا الموضوع نحاول أن نشتغل كلنا عليه، ولكن لا يمكننا أن ننجزه لوحدنا؛ الأمور مناصفة بين ورثة منصور وورثة عاصي، ولكن الصعوبة أن إرث الأخوين رحباني عميق بالتاريخ، أي أعتق. نحن حين نحكي عن قناة منصور الرحباني فهذه القناة تتضمن إرث منصور منذ عام 1986 حتى رحيله، أما ما خصّ الأخوين رحباني فالإرث قديم جدًا منذ الأربعينيات، وهناك صعوبة في تجميعه. هناك أعمال كانت تُعرض مباشرة في التلفزيونات والإذاعات العربية، يجب أن نذهب ونتفق معها، وهذا الأمر ليس بالسهولة، يجب أن يكون هناك اتفاق أو طريقة معينة بيننا وبين كل إذاعة أو كل تلفزيون على حدة. كما أن الكثير من الأعمال ضاعت عند الأخوين رحباني، ذهبت مع إذاعة الشرق الأدنى وفي الإذاعات بالقاهرة وفلسطين والأردن وحتى في الإذاعة اللبنانية ومع شركات أخرى أيضًا. أي أن هناك صعوبة لنستعيد كل إرثهما، يجب أن تكون هناك شبكة كبيرة من التعاون وبالاتفاق بالتأكيد مع كل الأطراف لتوضيب أعمال الأخوين رحباني بشكل جيد، أغان، مسرحيات، أحاديث، وغير ذلك. يحتاج الأمر إلى دراسة كبيرة وشاملة كيف يمكن أن نحصل على كل إرثهما ولكن الأكيد أنها مرحلة تحتاج إلى جهد كبير وإلى أكاديميين ومختصين يعملون على الموضوع، فهناك أشخاص من محبتهم بالأخوين رحباني وبفيروز لديهم اختصاص كبير بأعمالهم وقد أجروا أبحاثًا عنهم ويعلمون أحيانًا أكثر مما نعرف عن أعمالهم، وبالتأكيد لديهم القدرة على تنظيم إرثهما.

(*) أحب أن نعود إلى الطفولة قليلًا، البيت، منصور، الموسيقى، الثقافة.. هل أخذ بيدك منصور إلى الموسيقى، أم كانت رغبة شخصية منك، متى قررت أنك تريد أن تكون موسيقيًا؟

منصور لم يحب أن يكون لأحد من أبنائه علاقة بالموسيقى، لا هو ولا عاصي، لأنه كان يعتبر أن القلق سيساور كل حياتنا، وسنعيش مع القلق ونحن نداعب العبث وننشغل بأفكار غير موجودة ونحاول اصطيادها وكتابتها على الورق، ثم نقف أمام الجمهور، هذه يحبونها وهذه لا يحبونها، وهناك تعب في هذا المكان. والشيء الأهم الضمير المهني والاحتراف والبذخ في الأعمال كي تخرج بالشكل الأجمل، وخصوصًا عندما يكون التوجه بالعالم العربي ليس احترافيًا، نتعب ونصبح منهوكي القوى ويرافقنا الوجع والتعب الذهني والضغط النفسي لنصل إلى حدّ الانهيار. كان منصور يفضّل أن ندرس الطب أو الهندسة أو المحاماة أو دراسات مصرفية حيث نعود إلى البيت وينتهي العمل عند حدود باب البيت، ولن تكون الأمور كما عند شخص يساهم في عملية الخلق. لكن فيما بعد لا يمكنك إلا أن تتأثري بالجو الموجود عند منصور الرحباني، وهو جو عالٍ من الثقافة، من الكتب واللوحات والرسم والموسيقى، وكنا نستمع معه دائمًا إلى الموسيقى الكلاسيكية منذ صغرنا. كنا نشعر بمستواه الفكري منذ صغرنا، نسأله سؤالًا يجيبنا بكلمتين، فيدفعنا إلى أن نفكر طويلًا بهاتين الكلمتين، إننا نتكلم هنا عن شخص هو برأيي من أهم المبدعين في العالم العربي. وهكذا نشأت في هذا المحيط مع أب يكلمني كل يوم بهذه الطريقة فأتأثر به ويصبح عندي طريقة مختلفة قليلًا في التفكير عن الآخرين، ولكن هذه الثقافة التي خزّنتها نتيجة احتكاكي اليومي به لم تمنع أن تكون عندي ثقافة مختلفة ولدينا أنا وإخوتي شخصيتنا التي نبنيها وحدنا، وهذا الأمر أحبّه منصور فينا، أن كل ابن من أبنائه له شخصيته والحرية المطلقة في الاختيار. وأنا أشكره على هذه الحياة التي منحني إياها، وكيف كنت قادرًا أن أتعامل معه فكان بمثابة إنسان قادر أن يفهمني، أنا أرتفع قليلًا وهو يتنازل قليلًا، كي تكون لنا أفكار متقاربة ونتشارك في الأعمال فيما بعد.  


نفرتيتي

(*) قبل اثني عشر عامًا بدأت بالعمل على مسرحية عن الملكة "نفرتيتي"، حدّثنا عن هذه المسرحية، لماذا اختيار هذه الشخصية الغامضة من التاريخ، وما هي الرؤية التي تم الاشتغال عليها؟ ما هي أسباب تأخير العرض كل هذه السنين، وهل ستنطلق العروض قريبًا؟

نفرتيتي مسرحية غنائية ملحمية ضخمة أفكر فيها منذ 12 سنة لأني أحب التاريخ كثيرًا وتعني لي هذه الامرأة كثيرًا لما فيها من غموض ومن أهمية وكذلك أهمية زوجها أخناتون، الذي كان أول من فكر واعتمد على إله واحد حيث كانوا يعبدون آلهة متعدّدة في ذلك الوقت. هو أول من وحّد الإله، وكان متزهدًا ومجنونًا وبعيدًا عن السياسة. وقد نسجتُ قصة جميلة ومعاصرة وجديدة عنهما. تعني لي هذه الطقوسية وهذا البُعد في التاريخ والألوان وحضارة مصر، وتعني لي الموسيقى التي أشتغل عليها، وكيف يمكن أن أركّب أفكارًا جديدة أُدخلها من شخصيتي وأترجمها بواسطة نفرتيتي. طبعًا أعمل على هذه المسرحية مع هبة طوجي والكثير من المصمّمين من فرنسا ونيوريورك ولندن. الصعوبة دائمًا في الإنتاج كون شركات الإنتاج في العالم العربي يهمّها الزجاج والأبراج ولا تهتم بالثقافة، المشكلة أنه لا يوجد إنتاج في العالم العربي لهكذا أعمال مسرحية. لن تبدأ العروض قبل أن أتمكن من فكرة الإنتاج. كان عندي حلم بأن أقدّمها في مكان تاريخي في لبنان ثم أنقلها للعالم العربي لكن لا مانع أن أطلقها من مكان ما في العالم العربي أحاول أن أجده في رأسي، ولكن يجب أن تتوفر كل الظروف لكي نتمكن من إطلاقها بشكل كبير. حتى الآن لا أعرف أين. نفرتيتي لها تمثال حاليًا في برلين أخذه عالم الآثار والباحث الألماني لودفيج بورشاردت عام 1912 من تل العمارنة بمصر ولا يزال التمثال في ألمانيا. هناك أسئلة كثيرة حول هذه القصة حيث اختفت هذه الحضارة وتم محو تل العمارنة وكل ما يخص نفرتيتي وأخناتون على يد ابنه توت عنخ آمون وكهنة "طيبة" بعد وفاة أخناتون، وهذا المحو يشبه كثيرًا الوضع الذي نعيشه.   





(*) هل تعتقد أنه لا يزال للمسرح الغنائي جمهوره، وأن له ذلك التأثير الذي يضعنا في موقف ويُحدث فينا تغييرًا أو وعيًا مجتمعيًا؟

لدينا مشكلة كبيرة بالمسرح الغنائي. نحن لدينا تراث وتقاليد في المسرح الغنائي من أيام الأخوين رحباني وغيرهما، الذين تعبوا كثيرًا من أجل إرساء المسرح الغنائي، لكن دعيني أقول إن الأخوين رحباني هما أساتذة في العالم العربي بهذا المسرح. كانت في لبنان ثورة مسرحية كبيرة والحركة المسرحية كلها كانت كبيرة على جميع الأصعدة، ولكن للأسف عندما تنظرين إلى بيروت الآن، لا يوجد فيها مسرح، كل المسارح توقفت، وصار همّ المواطن الأرغيلة والتلفون والتلفزيون ومواقع التواصل. المستوى المجتمعي يفقد ثقافته الفعلية وتقاليده، وهناك جيل من المتعلّمين والمثقفين يهاجرون من لبنان. هناك خوف على المسرح ككلّ وعلى المسرح الغنائي بشكل خاص، ولكن علينا بالنهاية أن نقاوم. هل لا يزال يحدث وعيًا في الأجيال.. أعتقد أنه يبقى بالتأكيد من يتأثر بالكلمة، ولا شك في أن الكلمة لا تزال قوية والفكرة بحدّ ذاتها قوية، ومن المفروض أن يستمر إيماني هكذا، وإلا سأتوقف عن العمل. 

(*) حدّثنا عن الألبوم الذي تشتغل عليه مع هبة طوجي، حيث علمنا أنه سيصدر قريبًا، عن الكتابة وموضوعات الأغاني.. نود أن نتعرّف أيضًا على مشاريعكما المستقبلية..

منذ سنتين أشتغل أنا وهبة على الألبوم، وقد أخذ اتجاهات مختلفة، بدأنا بمواضيع معينة، ثم تركنا الأغاني التي كنا قد بدأنا بإنتاجها في الفترة ما بعد 2017. أردنا في ذلك الوقت أن يتضمن الألبوم الأغاني المنفردة التي كنا قد أطلقناها على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية سابقًا. الآن نعمل على ألبوم مختلف بأبعاد عالمية، وثمة تعاون كبير مع موسيقيين عالميين من فرنسا وأميركا. هذا الألبوم له بُعد مختلف من حيث التصميم والصوت والأفكار والموسيقى والعدوى بين الغرب والشرق وكل ما بإمكاننا فعله بجنون، مع مقدرات هبة الصوتية. هناك أفكار كثيرة نعمل عليها في الألبوم ونتعب على إنجازها. الألبوم جديد على جميع الأصعدة ومتقدّم بالأفكار وبالموسيقى ومتميز بكل ما فيه، يمكن أن تقولي إننا نعطيه من قلبنا، وستكون موضوعات الأغاني عن الحب والخيبات والوطن وما له علاقة بالمجتمع، وعن الإرث الذي نحمله في وجداننا، وهو متنوع اللهجات حيث أنه يتضمن أغاني باللهجة اللبنانية والمصرية وهناك قصيدة بالفصحى لمنصور الرحباني، وأغنية مترجمة للكاتب والمغني جاك بريل اشتغلنا على إعدادها، وسيتم الإعلان عنه في وقت ليس ببعيد.

هبة طوجي سفيرة بين الشرق والغرب

(*) هبة طوجي أصبحت اسمًا فرانكفونيًا عالميًا، برأيك هل تساهم الأعمال التي تقدّمها مع هبة طوجي في فرنسا وحول العالم في تغذية حوار الثقافات بين الشرق والغرب؟

كان المخطط لدينا أنا وهبة أن ندخل إلى أفق جديد وهذا الأفق بالتأكيد لا يمكن الدخول إليه دون أن ننتقل للعمل من الخارج، وقد أتاحت الظروف لهبة أن تعمل بطريقة مختلفة، وفُتحت أمامها آفاق كثيرة كونها شاركت في أهم مسرحية فرانكفونية "نوتردام دو باري" (2016) وكانت بطلتها "إزميرالدا"، وجالت أهم مسارح العالم، وستكون هذا العام – إذا لم يحدث أي شيء بخصوص كورونا- على "مسرح برودواي" بنيويورك. لا شك أن هذه إضافة جديدة لهبة ولها بُعد مختلف تمامًا كامرأة من الشرق من حيث الشكل والجمال الشرقي والتراث والتقاليد والأخلاق والمحافظة على بيئتها، ومع إتقانها للّغتين الإنكليزية والفرنسية، ما تسبّب بأن يكون لها بُعد ثقافي مختلف تمامًا. ولكن هذا لا يمنع أن عروضًا كثيرة تأتي لهبة من الغرب ولا تقبلها، فالأمور ليست أنها ستقبل كل ما يأتي من الغرب فقط لأنه من الغرب. حصلت على عروض لمسرح غنائي ومسلسلات ولم توافق. هي أيضًا قدّمت بنسخة اللغة الفرنسية أغنية "إلينا من آفالور" (مسلسل رسوم متحركة) من إنتاج شركة والت ديزني، وقدّمت الحوار والنص والترجمة بصوتها. كما قامت ببطولة فيلم "علاء الدين" Aladdin لشركة ديزني من خلال وضع صوتها في الدبلجة الفرنسية لشخصية الأميرة "ياسمين" مع تقديمها كافة الأغاني في الفيلم وقد أصدرت هذه الأغاني في أسطوانة "Aladdin"، كما أن هناك أعمالًا نشتغل عليها بالتعاون مع زوجها، الموسيقار إبراهيم المعلوف، وأرى بالتأكيد أن كل هذه الأعمال تشكّل حوارًا بين الثقافات بين الشرق والغرب وتعطي روحًا مختلفة لامرأة فعلًا تمثّل بلادها كسفيرة بين ما يسمى الشرق والغرب.

(*) منذ ألبوم "النظام الجديد" يتبدّى لنا ميلك نحو الموسيقى الجادة، نحو التمرّد والأفكار الثورية، "بغنّيلك يا وطني"، "لازم غيّر النظام" وأغانٍ أخرى كأنها بيان للحرية وضد الفساد ودعوة للثورة، هل ندرك أهمية هذه الموسيقى في ظل الظروف التي مرّ ويمرّ بها لبنان؟ وكيف ترى إلى لبنان والشعب اللبناني حاليًا، هل من أمل بتخطي الطائفية المتجذرة في النفوس، هل من أمل بتغيير حقيقي؟ 

أنا أفكر بهذه الطريقة. أنا متمرّد على نفسي وعلى أفكار أهلي ولكن بنفس الوقت أحافظ على التراث وأحترم التقاليد التي مررنا بها. هكذا أفكر مع الوجع الذي في داخلي، وأنا مرآة عن هذا المجتمع وأجرّب أن أعكس هذا الوجع من خلال أفكاري، "لازم غيّر النظام"، "النظام الجديد"، "غيفارا"، "بغنّيلك يا وطني"، "هيدا لبنان"، "بلدية بيروت"، أريد أن أعكس من خلال هذه الأغاني قصتنا في هذا المجتمع، بلد التناقض، وأيضًا من خلال المسرحيات، مسرحية "آخر يوم" هي صراع اللبنانين "شرقية غربية"، أي المسيحي والمسلم في قلب لبنان، هي قصة روميو وجولييت لكن اشتغلناها من خلال الصراع بين فريقي كرة السلة "الحكمة" و"الرياضي" وهو حدث حقيقي، وأهالي روميو وجولييت يتصارعان في تشجيعهما للفريقين. كان هذا الصراع الحقيقي على الأرض بحدّ ذاته حربا أهلية بقناع مختلف مختبئ تحت الوجه. الشعب اللبناني لا يزال طائفيًا لأن النظام المبني عليه لم يتغير. عندما قلت "بدنا نغيّر النظام" لم أقصد النظام السياسي، بل النظام الـ"سيستم" system في المجتمع، أي طريقة تفكير الناس وطريقة التصرف، الدين، الإقطاع، المذاهب، العائلات، رجال الدين، هذه المعاهدة الجهنمية بين الناس، وكيفية إدارة لبنان بالفساد والرشاوى وكل شخص يشدّ لطائفته؛ مع أن لبنان جميل جدًا بالأحجية والتركيبة الذي هو فيها فهو مكان نادر الوجود على هذه الأرض، نحكي عن 18 طائفة في بقعة صغيرة، ولكن للأسف اللبناني يغرق أكثر وأكثر في وحل الطائفية والفساد. والأسوأ أننا تاريخيًا كنا دائمًا خاضعين وخنوعين لكل الاحتلالات التي كانت حولنا، منذ الحثّيين والآشوريين والبابليين والأكاديين والفراعنة والعثمانيين ثم فيما بعد... في لبنان مشكلة كبيرة، مشكلة هوية، ويجب أن نجلس سوية ونقرّر ماذا نريد بعيدًا عن التأثير الخارجي وليس أن يقرّر الآخرون عنا. يمكن أن أفهم أن يمضي أي إنسان في فلك سياسة معينة لكن أن يكون لديه هذا الخنوع! لا أريد للبنانيين أن ينزلوا في مستوى تفكيرهم أكثر. منذ زمن بعيد اتفقت كل الممالك بلبنان مع الإسكندر المقدوني لإخضاع صور، وكل الممالك اتفقت مع أرتحششتا لتُخضع صيدا. أتكلم عن الشاطئ اللبناني، تخيلي كيف أن الممالك اللبنانية تكره بعضها منذ القدم، صيدا، صور، بيروت، بيبلوس، طرابلس، لا أحد يحب أحدًا. تفكيرهم ضيق، لم يفكروا مثل الرومان بجمهورية أو إمبراطورية، تفكيرهم تفكير مملكة صغيرة "الدولة المدينة"، وهذا لا نزال نعيشه حتى الآن ورسخ فينا أكثر ولا نعرف كيف نخرج منه. أنا من العديد من بلدنا من المتنورين الذين يفكرون كلبنان ولكن للأسف الأغلبية تفكّر كطائفة.. الهرم مقلوب.





(*) يقول توفيق الباشا في أحد حواراته: "اكتشفت خلال دراستي الأكاديمية الجادة مدى التفاوت بين الموسيقى الكلاسيكية العالمية وبين موسيقانا الفنية وأصولها وجذورها، وقد تبينت عدم قدرتها على دخول هذا العالم الواسع". ماذا تقول في ذلك، ولماذا لا نشهد عربيًا موسيقى أوركسترالية كلاسيكية. هل هي مشكلة في التلقي لدى الجمهور، وهل هناك عمل جادّ على التأليف الموسيقي بين الموسيقيين في العالم العربي، أسماء لا تكتفي بالتلحين وتشتغل على مؤلفات موسيقية على غرار زكريا أحمد وتوفيق الباشا وتوفيق فروخ؟

لا يمكنني أن أتوافق مع توفيق الباشا، وهو صديق وموسيقي مهم. تغيّرت الأمور وصار عندنا أوركسترات. الموسيقى الكلاسكية في الغرب لها تراث وتقاليد وعلم وتوارث وتطور حضاري. ولا شك في أن أول الذين جربوا أن يقرّبوا الموسيقى بين الشرق والغرب هما منصور وعاصي الرحباني، وهما أول من اقتنع أن الموسيقى الشرقية يمكن أن تكون على مستوى التأليف الموسيقي وأن توزّع أوركستراليًا، وهذا عمل له علاقة بالتأليف الموسيقي. الأخوان رحباني اشتغلا على هذه الموسيقى. كانت عندهما مقطوعات موسيقية لها علاقة بالمقدّمات الموسيقية. وهناك موسيقيون في العالم العربي يؤلفون موسيقى لكن عددهم قليل، من أهم الموسيقيين من العالم العربي بشارة الخوري، وهو ابن عمتي وموسيقار تعزف له أكبر الأوركسترات العالمية، وعبداللـه المصري، وهو موسيقي عظيم ومسؤول بالأوركسترا في الكويت، وأنا وأخي غدي وابنه عمر، وأيضًا عبد الرحمن الباشا، وهو ابن توفيق الباشا ويعيش في فرنسا، ووليد عقل، ووليد حوراني، وناجي حكيم، وزياد الرحباني.. لا أريد أن أنسى أحدًا، هناك عدد من الأسماء ونهضة كبيرة وأوركسترا تخرج من بلادنا. ولكن للأسف بسبب الوضع الاقتصادي شهدنا تقريبًا سقوط ما يسمى الموسيقى في لبنان، بحيث قلّت الأوركسترا وكانت أجمل أوركسترا في العالم العربي، مع أنها تضم موسيقيين من الغرب إضافة بالتأكيد إلى موسيقيين لبنانيين ومن الشرق. وأقول إن موسيقانا تستطيع أن تصل لتكون بطريقة مختلفة، إنها بحاجة إلى الإرادة وإلى التفتيش وإلى الإبداع. ولبنان هو أكثر بلد يشتغل موسيقى كلاسيكية ثم مصر، وتونس قليلًا والمغرب والبلدان العربية الأخرى. لكن نحن نعلم أن الموسيقى الكلاسيكية هي مهرجانات لبنان، وفي الدول العربية جمهور الموسيقى الكلاسيكية قليل، وأتمنى أن تظل الأمور هكذا ولا تسوء أكثر. بالنهاية، هذه الأجواء المغيّمة ستنتهي، فالحضارة والفنون تدور حول نفسها بشكل دائري، أي أنه ستأتي فيما بعد أعمال رائعة.

الغالب في العالم العربي أن الجمهور يحب أن يسمع الغناء، ومشكلة العالم العربي كامنة ربما في استخدام القلب أكثر من العقل. العالم العربي يهتم بالكلمة أكثر وبنمط معيّن من المغنى وهو lyric أي الشعبي والطربي. في عالمنا العربي يقولون "هذا مطرب"، هو مغن وليس مطرب. المغني أعلى مستوى من المطرب، المطرب يعني حالة طرب. إذا سمعنا موسيقى لفريديرك شوبان، والذي كبرنا على موسيقاه، ألا نقول آه، وعندما ننظر للوحة لفان غوخ أو لبيكاسو أو مونيه أو لدالي ألا نقول آه ما هذا؛ هذه الآه تسحبينها من المتلقي وهي أعلى سمات الاستماع والذوق. المغني يكون مبتهجًا بنفسه فيقول أنا مطرب! الفعل هو الغناء، ولكن العقل العربي عجيب. ونحن ليس عندنا غناء دراماتيكي، أنا اشتغلت عليه وكان قد بدأ مع الأخوين رحباني لكن ليس كما أحاول الاشتغال عليه. الغناء الدرامي موجود بالمسرح الغنائي وقد أخذ معي بعدًا مختلفًا، أيضًا الغناء النصي الذي يتحمّل توزيعا أوركستراليا ضخما، ويعتمد على تطوير الموسيقى، والأهم أشتغل على تطوير الصوت في العالم العربي كما مع هبة الطوجي لمقدرتها الصوتية العالية، وليست كل الأصوات تتحمّل أوركسترا، إذًا هنا نشهد على تجارب. وبالنسبة للموسيقى، أعتقد أن أكثر من طوّر بالموسيقى في العالم العربي هما الأخوان رحباني حيث أدخلا التأليف الموسيقي الفعلي والذي هو دمج التوجه والعلم العامودي بالأفقي، أي الهارموني بالكونتربوانتي والفوغ مع أوركستراسيون كبيرة، وقد عملا على الكورس بشكل كبير.

(*) أنتجتَ القصيد السمفوني "سينرجي"  Synergy مع الأوركسترا الهارمونية في لندن عام 2006، هل ثمة نأي في مكان ما عن التأليف الموسيقي من قبلك لهكذا أعمال. وكيف ترى الاهتمام عالميًا بالموسيقى الكلاسيكية الصرفة، هل الأزمات الاقتصادية العالمية مدعاة لتراجع الاهتمام بهذه الموسيقى؟

بالنسبة لي، اشتغلت على مقطوعات موسيقية كلاسيكية كوني أشتغل موسيقى تصويرية بشكل جدّي وتشبه إلى حدّ ما الشغل المحترف في أوروبا أكثر مما يتم الاشتغال عليه العالم العربي. أقدّم موسيقى صرفة لمدة ساعة متواصلة وأكثر وهذه المقطوعات موجودة على قناة اليوتيوب باسمي، وهناك أعمال لم أنشرها بعد. نعم كانت لي أسطوانة كلاسيكية قدّمتها مع "لندن فيلهارمونيك أوركسترا" بقيادة يون مارن Yon Marin عام 2006 في افتتاح فرع المتحف الإسلامي في "فكتوريا أند ألبرت ميوزيوم" بلندن بحضور الأمير تشارلز ونخبة من المثقفين، كانت من أهم القطع الموسيقية، نوع من القصيد السمفوني مع مشهد سمفوني 1 ومشهد سمفوني 2. لكن الموسيقى في العالم كله تحتضر نوعًا ما ولولا وجود راعٍ ومنتج كبير وراءها ولولا وجود إرادة ثقافة ووزارات ثقافة ودولة لكانت أُغلقت الكثير من المسارح وكانت توقفت الموسيقى الكلاسيكية، لكنها تبقى على قيد الحياة لأن وراءها تراث 400-500 سنة وليس بالسهل أن تتلاشى كما أن هناك ذائقة لدى الناس في الغرب.

(*) بين الفوضى العبثية في عالمنا العربي التي تقترح على الكتابة الموسيقية بابًا واحدًا للمعاصرة لا يطوّر الذائقة الجمالية بقدر ما يضعنا في زمن إثارة الغرائز، هل هناك أصوات عربية ترى فيها ما يحفزّك على العمل معها بإيقاع آخر؟

أعتقد أن العالم يقع دائمًا بفترات من الرتابة أو الفوضى أو العشوائية ولا شك في أن التكنولوجيا تفيد وتضر. تفيد أنها تطورك وتساعدك على الانتشار والوصول، ولكن بنفس الوقت تسمح للجميع بالكلام الكثير أي بالتنظير، فصار كل إنسان يريد أن يكون موسيقيًا وفيلسوفًا وسياسيًا ومحللًا وغير ذلك، وأنه يفهم في كل الأمور ويعطي آراءً وانتقادات من دون مستوى فكري بحيث صارت الأمور رخيصة ولها مستوى أحيانًا مبتذل. نتكلم عن التكنولوجيا ولا شك في أن الموسيقى هنا دخلت في التكنولوجيا وفي هذه الدوامة بحيث أصبح المهم أن يكون الشخص "تريند" أكثر من أن يدخل بالموسيقى بالمستوى الثقيل للأصوات والإنتاج. حتى في الغرب بعد عام 2000 لم تعد هناك أصوات مهمة، صارت الأمور تمشي على "تريند"، أي أن نطلق أغنية صغيرة وتنتشر الأغنية بشكل كبير مثل صيحة ثم تنتهي، أي لم يعد هناك مستوى في كل الأمور، كلما رخّصنا تمشي الأمور أسرع وأكثر، وهذا هو الجو السائد في العالم ولا أدري لماذا يتجه العالم نحو التسطيح في كل شيء. لكن هذا لا يمنع أنه رغم هذه الأجواء وهذه السماء الملبّدة بالغيوم بشكل غير جميل تبقى فسحة أمل زرقاء لكل الذين يشتغلون بجدّ وأشدّ على أياديهم في لبنان وكل البلاد العربية وبالعالم. طبعًا الكتابة الموسيقية تتزايد وهناك مهتمون بالموسيقى يزدادون معرفة لكن الفسحة لهؤلاء المهتمّين قليلة فالأشخاص الذين يتابعون ويحضرون هذه الأعمال الموسيقية قليلون.

بالتأكيد هناك أصوات جميلة في لبنان، لا نريد أن ننسى أن لبنان هو منبع للأصوات حتى بالموسيقى التجارية البحتة أو بالموسيقى الجدية نرى أن الأصوات من لبنان تترأس العالم العربي ومالئي الدنيا. وكأسامة الرحباني أقول إنه بالتأكيد هناك أشياء أحبها وأشياء لا أحبها، هناك أصوات عظيمة في سورية أيضًا وتونس والخليج والمغرب، كل بلد له مدرسته، ودائمًا هناك أصوات نادرة، لكن هناك أيضًا من يطلّ علينا كـ "package" كاملة يمكن أن تمر ونقبلها وتدخل إلى قلوبنا.




(*) أين تضع نفسك موسيقيًا بين التراث والمعاصرة، بين الشرق والغرب؟ وكيف ترى استمرار أعمالك الجادّة في ظل الفقر في الثقافة الموسيقية لدى الأجيال العربية، التي تذهب نحو موسيقى الترفيه والفن التجاري، بمعنى آخر في ظل انتشار التلوث الموسيقي؟ وهل تخاف على الموسيقى الشرقية وعلى ذائقة الأجيال حيث يستورد العالم العربي الأفكار الكبيرة والصغيرة من الغرب؟

أنا لا أضع نفسي، أنا أشعر وأؤلّف وأشتغل من إلهامي بأشياء معينة، لا أضع مانيفستو أمامي وأقول أني أريد أن أصنع كذا أو هكذا سيحب الناس. لا أفكر بالجمهور حين أؤلف، وأنا ديموقراطي بهذه الطريقة. الخطأ أن يكون الإعلام سطحيًا وتسطيحيًا بالتعاطي مع الأمور وعدم غربلة الأشياء. عندي تأثير من الغرب، لأن العلم بالغرب متطور أكثر من الشرق، وعندي سهولة بدمج الأشياء، وكوني تربيت بهذه الطريقة أرى أنني أفكر بطريقة مختلفة. هكذا اشتغلت على الصوت وعلى تطوير المغنى بالعالم العربي، كما فعل أهلي في البداية وقوبلوا بالرفض. أيضًا اشتغلت على أفكار تم رفضها في البداية، ولكني لا أزال مستمرًا ونجحت واستطعت أن أصل وأوصل أشخاصًا إلى بُعد عالمي بطريقة مختلفة، وما هو برأسنا أنا وهبة نريد أن نقوله ونعمله. هكذا نرى الأمور وللجمهور الحرية في أن يحب أو أن ينتقد. أيضًا الأفكار الجديدة التي تحمل ثورة وتمرّدًا، وليس بالضرورة بالكلمة السياسية، هي بحدّ ذاتها تكون أحيانًا صدمة للناس ولكن بالنهاية هي التي تبقى عندهم وتترسّخ فيما بعد. كل إنسان يفكر بطريقة وربما كل شخص يعتبر أنه على حق، ولكن هناك أمر أكيد أن هناك فرقًا واضحًا بين المواهب وفرقًا في الإبداع. وأنا شخصيًا أسير في هذه الطريق ويعني لي أن أكون في الشرق وفي الغرب، ولا أخاف على الشرق لأن للشرق بُعدا كبيرا وله أصول وتراث، ولكني أخاف من الخفّة بالتعاطي مع الموسيقى في العالم العربي.

(*) في تجربة العلاقة مع النص الشعري، هل تقدّم لك القصيدة الإيحاء الموسيقي، أم أن الموسيقى تبحث عن النص الشعري؟

هذا سؤال جميل جدًا، طبعًا، النص المسكوب بطريقة سلسة وشعرية جميلة يُشعرك وأنت تقرأينه أنه لا شيء يوقفك بل ويساعدك على الإبداع موسيقيًا ويفتح أبوابًا جديدة غير مطروقة من قبل في الموسيقى العربية. وهذا ما فعلته مع قصائد المتنبي، كانت طريقة التلحين مختلفة في مسرحية المتنبي، قصيدة "كفى بك داءً"، و"طوى الجزيرة". كان عندي حسن حظ في حياتي أنني عملت في أول حياتي وفي مرحلة كبيرة من عمري على تلحين قصائد لشعراء من العالم العربي، قصائد لمنصور الرحباني وجبران خليل جبران والمتنبي. الحقيقة أنني أحب أن أشتغل على هكذا قصائد، عملت هكذا حتى عام 2008، وبالتأكيد تخلّل تلك الأعمال قصائد لأخي غدي الرحباني والذي هو موسيقي متميّز وشاعر رائع، ومن هذا الباب فهو يشتغل على الموسيقى عند كتابة الكلمة فنشعر بسلاستها. أود أن أعطي مثالًا عن عمل لمنصور "جبران والنبي"، الحوار الذي يجري بين جبران والنبي أورفليس في نيويورك يقول: "كل ما منرجع ع هل الدني منتلاقى بناس جداد، شي منذكرن شي مننساهن، شي بيخلقوا بتاني بلاد، يا فرحي إني رح إرجع متل الزهر، بروح وبرجع والدورة بترجع بتنعاد".. من هنا يمكننا أن نفهم المستوى الفلسفي واللاهوتي والبعد الميتافيزقي بهذه القطعة، والتي عندما جلست أمام البيانو لأضع لها موسيقى، مباشرةً خرجت الموسيقى مني. في "وطني بيعرفني" تشعرين بموهبة منصور الرحباني ومقدرته الكبيرة أن يقدّم الموسيقى مع الكلام وتكون مسترسلة ومريحة بشكل كبير. أحيانًا أحاول أن آخذ نصوصًا لبعض الكتّاب وأكسّرها بحيث أحذف هنا وأضيف هنا، الأمر له علاقة بموسيقى الكلمة والشعر، والتي أشعر بها عند لحظة قراءتي للنص. ربما هذا الأمر جاء من كوني تلميذ الأخوين رحباني، وأعرف الكلمة التي تزعجني وكيف يمكن أن تخرج الكلمة رقيقة أو صلبة.





التربية الثقافية تبدأ من المنزل

(*) أزمة التربية الموسيقية الجادة المفقودة في المدارس، وأزمة عدم دعم الإنشاء الموسيقي وعدم نشر الوعي الموسيقي الجاد والفقر في الإبداع، ودور وسائل الإعلام في نشر التسطيح الموسيقي.. أين نحن من هذه الأزمات ودور المؤسسات الحكومية معها؟

مجتمعاتنا صغيرة وضيقة ومتجهة نحو الفوضى، والتربية الثقافية تبدأ من المنزل قبل أن تبدأ من المدرسة والبلدية والدولة، كما أن التوجه الإعلامي عمومًا له دور تسطيحي كبير في هذه الفترة. الأمور اختلفت بين هذا الزمن وما قبل، كانت التربية مختلفة. لا شك في أن الأجيال تتوحّد وتُسرق بواسطة السوشيال ميديا كأنهم مسحورون، تدخلين إلى مطعم فترين عيون الجميع في أجهزة هواتفهم، لا أحد يتكلم مع الآخر، وهذا الأمر ينطبق على داخل البيوت. التربية تبدأ بالفرد، بالمنزل، بالعائلة، ثم بالمدرسة والمحيط والبيئة والمجتمع. يجب أن يكون لدينا نوع من الصفاء ومن دون خوف من الاستماع لشيء. يجب أن يحدّد كل فرد ماذا يستمع وماذا لا يستمع، هذا الذي أقصده ومصّر عليه، التنشئة الموسيقية ضرورية جدًا. لا شك في أن الموسيقى الكلاسيكية تمنحنا روحًا مختلفة تمامًا وتزرع في لاوعينا عمقًا مختلفًا بالتعاطي مع الإنسان وبالفهم والإدراك وبتحليل ما يحدث معنا في الحياة، بلوحة ننظر إليها وشعر نقرأه وموقف نمرّ به، وبكلمة نسمعها، لا شك في أن هذه هي أبعاد مختلفة تمامًا تحتاج إلى جهد لتكون لدى الإنسان وأن يكون لديه عمق في التفكير. الإعلام يلعب دورًا تسطيحيًا كبيرًا والتلفزيونات، بالأخص في العالم العربي، همّها rating "التصنيف" ومن يمكن أن نستضيف لنستقطب جمهورًا، وبالتأكيد هذا التوجه كله لم يعد يعني لي، ولا يعني لي أي رجل سياسي، لا يوجد أي سياسي في لبنان يمكن أن يحكي همومي أو يتلاقى مع مستواي الفكري، لا أحد منهم يفهم بالثقافة وبالفنون، وأستبعد الجميع. وللأسف التلفزيونات كلها تأتي بالأول ليشتم الثاني ثم تأتي بالثاني ليشتم الأول، وهكذا يعلو rating والناس تدخل في هذا المستوى، لنصبح أمام مجتمع صفراوي.

(*) إلى ماذا تشتاق تحديدًا في منصور الرحباني؟

أشتاق لمنصور الرحباني كل يوم، غرفته بعيدة مترًا ونصف المتر عن غرفتي، كرسيّه لا تزال مكانها، رائحته عليها، عكازاته، كأسه موجودة على طاولة الطعام دائمًا، الشوكة والسكينة، وصحنه. لا نجلس على كرسيّه، لا تزال كل الأشياء كما تركها، كتبه، أوراقه، آخر ما كتبه، كل شيء مكانه. أنا لم أكن أعيش مع أب بيولوجي فقط، كنت أعيش مع إنسان لديه عبقرية فنية أشتغل معها وأتجادل معها، ويسمح لي بذلك. والمكان، حيث أجلس أمام البيانو لأؤلف موسيقى، بعيد 500 متر عن المكان الموجودين فيه، هو وأمي وجدتي وعائلته الذين رحلوا. أتذكرهم كثيرًا وأراهم كل يوم، وأحيانًا أكون غارقًا في التأليف فأقول "أريد أن أكلمه قليلًا"، ثم أنتبه إلى أنه غير موجود، مثل لحظات خارج نطاق المنطق. أقول لك بأني أفتقده كل يوم، أفتقد حكمته وشعره ومسرحه ومستواه الفكري والفني. ليته لا يزال موجودًا، ليته يعود.. ولكن للأسف الواقع أقوى من الحلم.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.