}

بسّام عياصرة: الواقعيةُ المُفْرِطةُ أداةُ تعبيرٍ أمينة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 27 أغسطس 2022
حوارات بسّام عياصرة: الواقعيةُ المُفْرِطةُ أداةُ تعبيرٍ أمينة
بسّام عياصرة أمام عدد من لوحاته

بعد 42 عامًا من الغياب عن شارع الرينبو قرب الدوّار الأوّل في جبل عمّان، وليس بعيدًا من مكان عمله قبل مغادرته الأردن مفجوعًا بزلزال الأسرة الكبير الناتج عن رحيل والدته في ظروف مأساوية عام 1980، وقف الخطّاط والفنان التشكيلي الأردني، بسّام عياصرة، المتنقّل في إقامته بين تونس والمغرب، أمام جبل الذاكرة العالي، والحمل الموجع من الحنين والأنين، وخاطب شارع الرينبو قائلًا: "كنتُ هنا يومًا ما، وكنت صبيًّا.. 42 عامًا مرّت يا سيدتي يا عمّان، ولا يزال في القلب والوجدان هذا الطيف، وهذا السّحر، من جمالك. نتغيّر ولا تتغيّرين.. تتمسّكين بعبق الزهر فوق جسدكِ المسالم يا حبيبتي. من وديع جمالكِ اقتبستُ الألوان.. من عالي جِبالكِ تعلمتُ الشموخ.. سلامٌ على أهدابكِ.. وقبلةٌ على جبينكِ النبيل.. حلمي والصّحو أنتِ.. مطري وتاريخُ ألواني.. ثوب أمّي التي رحلت وبقيتِ أنتِ".
عياصرة المولود في قرية ساكب قضاء محافظة جرش الأردنية، في عام 1960، يرى في حوار أجريناه معه أن الواقعية المفرطة هي مجرّد أداة تعبير، وهو عوّل كثيرًا على هذا النوع من الواقعية التشكيلية في رسم البورتريهات التي بات متخصصًا فيها بعد سنوات من احتراف الخط العربي، وبعد عديد المعارض التي مزج في لوحاتها بين انسيابية الحرف العربي وقدراته التوليدية على صعيد الرمز والدلالة، وبين رؤى التشكيل وتلوين الأعمال الفنية.
تتلمذ تشكيليًّا في تونس على يديّ الفنان التشكيليّ الأردنيّ الراحل، مهنا الدرّة (1938 ـ 2021)، وتتلمذ في الخط العربي على يديّ الخطّاط السوري/ الأردني رياض طبّال (1942). درس الفن في المملكة المغربية، ومنذ سنوات، وبعد إقامةٍ ممتدةٍ في تونس، بدأ يتنقّل في إقامته بين تونس والمغرب. عمل مديرًا لدائرة الثقافة في الجامعة العربية، ومارس لسنوات العمل الصحافي، وهو حاصل على ماجستير علم اجتماع من جامعة تونس. وخلال مسيرته الإبداعية، أقام أكثر من 15 معرضًا تشكيليًّا مازجًا في كثيرٍ من لوحات هذه المعارض بين الخط العربي والرؤى التشكيلية.
حول واقعيته المفرطة، وبداياته، وآرائه في الفن والحياة، كان لـ"ضفة ثالثة" هذا الحوار مع الفنان الأردني بسّام عياصرة.

بسّام عياصرة يجدل اللون


(*) إلى أي مدى تتيح الواقعية المفرطة مساحة للتأويل؟
الواقعية المفرطة أداةُ تعبيرٍ أمينةٌ خلال استعادة التفاصيل، تنقُل الحدث كما هو. على سبيل المثال، لوحتي "أم قيس" التي رسمتها بمناسبة حدث ثقافي مساحة التأويل فيها محدودة، لأن المكان فيها يحمل شواهد تاريخية لا تحتمل أي إضافة، باستثناء التمعّن باللون وعمق المشهد، وكأنها تحاكي الصورة، لكن بأسلوب فيه مساحة ضوء، وتدخّل في الأبعاد لتلامس الواقع من خلال الرسم باستخدام السّكين، وبإظهار النتوءات النافرة، وصولًا إلى مقولة: "كأنه هو".
إنها أسلوبٌ فنيٌّ، علمًا أن التصوير الفوتوغرافيَّ فنٌّ قائم بذاته، وأنا حين أذهب إلى خيار الواقعية المفرطة، فهذا لا يعني أنني أسعى إلى فرض بديل للصورة، هذا أمر غير مطروح ولا وارد، من دون أن أنكر أن ثمة تناغمًا بين الفنين: الواقعية المفرطة، والتصوير الضوئيّ الفوتوغرافيّ.


الدرّة والتجريد



(*) في رأيك، أيهما أكثر فنية: التجريد الخالي من أي وجوه، أو إشارات واضحة، أم الرسم المستعيد تفاصيل مفردة ما كما هي؟

التجريد المجرّد من أَي رموز ووجوه هو من الناحية الجمالية أكثر فنية وتعبيرية. في التجريد تتحقق متعة القراءة الصامتة للعمل الفنيّ. ثمة إيقاع يتناغم مع مفهوم المتلقّي للعمل الفنّي، ومع ذوقه الشخصيّ الخاص، إضافة إلى التناغم الذي يتحقق بين الفنان ورموزه وأحاسيسه الباطنة. الوجوه أو الرموز، مادة مألوفة، قائمة في حد ذاتها، والفن هو ما نضيفه من رؤى وأحاسيس لهذه الوجوه وهذه الكتل. إن الفن التشكيليّ في واحد من تعريفاته هو القراءة الجديدة المختلفة لوجه من الوجوه، لمفردة من مفردات الكون والوجود. وهذه القراءات تتجدد، تمامًا، كما تتجدد خلايا الإنسان.
في رؤاي التجريدية تأثرتُ، كثيرًا، بالفنان الراحل مهنا الدرّة خلال إقامته في تونس، فأسلوبه الفريد ينقلك نحو فضاء آخر، مدجّجٍ بالخيالات الخصبة بالحياة والألوان والمعاني المزدانة بالكتل والفراغات (تناغم الشكل مع المحتوى). للدرّة فلسفة لون لا تشبه غيرها، لهذا انحزتُ إلى أسلوبه التجريديّ المعاصر. هنالك في مدينة سيدي بوسعيد قرب تونس العاصمة، بروحها البحرية، وألوان بيوتها المتناغمة بين الأبيض والأزرق، وخصوصية الفنانين الذين كانوا يرتادون بيت مهنا الدرّة، تشكّلت كثيرٌ من ملامح رؤاي التجريدية على وجه الخصوص، والتشكيلية على وجه العموم.

 
بلاد العُرْب أوطاني..






(*) في تنقّلك بين المغرب وتونس، كم التقطتَ من قواسم مشتركة بين بلاد العرب أوطاني؟ ومن جهة ثانية، تسكن المغاربة أشواق عميقة للمشرق العربي، خصوصًا فلسطين، هل تسنّى لك خلال عقود وجودك هناك التقاط حيثيات هذا الحنين العميق؟

فنانو المغرب العربي لديهم بعد عربي عميق،  ولديهم ارتباط روحي مع القدس. ابتداء من باب المغاربة، إلى كوفية أبو عمّار. هذا العشق هو واقع يحياه معظم أبناء المغرب العربي، بمن فيهم الجزائريون، ولديهم، جميعهم، رغبة تلاقٍ مع أشقائهم في المشرق العربي، جامحة، حارّة وصادقة.
تلتقط هنا في بلدان المغرب العربي عفوية الحب، وعمق الانتماء للقضية الفلسطينية، وهو ما أرى أنه نتاج طبيعي لِما عاناه المغاربيون من ويلات الاستعمار الغربي على وجه العموم، والأوروبيّ على وجه الخصوص.

 
الثقافة الرسمية..



(*) الثقافة العربية الرسمية، إلى أي مدى تخدم مجسّات وعي الجماهير؟ وكيف تتعامل مع تثوير المشهد الثقافي؟ وهل هي معنا، أم علينا؟

الثقافات العربية الرسمية أصبحت غير مؤثرة، لأن النمطية والبعد الرسمي الكلاسيكي يرسم لنا خارطة لا تعبّر عن المدار الثقافي. هي طرحٌ مشروط بمساحة ضيقة لا تلامس الواقع المعاش، خصوصًا بعد الظروف والمتغيّرات التي طرأت على منطقتنا العربية، وعصفت بأنماط حياتنا الاجتماعية وقيمنا ومعتقداتنا، ما يجعل المشهد الثقافي العربيّ الرسميّ كما لو أنه لا يمتّ إلى واقعنا بأي صلة، ولا يمثلنا، ولا ينتمي إلى مفرداتنا، ولا يعبّر عن أحلامنا وتطلعاتنا، ولا يعكس آلامنا وآمالنا.

 
الخط واللون..



(*) بين الخط، وبين التشكيل بالفرشاة واللون، علاقة حميمة عضوية، كيف استثمرتها في أعمالك؟ وعلى وجه العموم، هل التشكيل بالاستفادة من خطوط الحروف وأنواع الخط، ميزة خاصة بالخط العربي من دون سواه؟ هل للأمر علاقة بسمات الحرف العربي وانسيابية خطوطه وجماليات تكوّيناته؟

بين الخط العربي والتشكيل علاقة هندسية. فالخط العربي في تفاصيله وانسيابيته سهل التشكيل والتلوين، وهو من دون معظم خطوط اللغات الأخرى، يملك خاصية تحقيق إحساس بصريٍّ ونفسيٍّ فريد، ويملك إيقاعًا يشبه مقامات الموسيقى وتجليات الألحان.




كما يتمتع الخط العربي بصفات خاصة تميزه عن غيره، وفي المقدمة منها خاصية التجريد في الحروف، واستقلاليتها، ولكنْ هنالك شروط لمقاييس الجمال والقراءات من خلال الترابط الحروفي المختزل الذي يوصف برمزية التعبير.
بقي أن أقول إن للحرف العربي بعدًا روحيًّا يلامس إيقاع الانتماء للغة والمكان الذي يثير فينا رسم أبجدية الحرف من خلال تصوّرٍ مُعاصرٍ يسوقنا إلى مدارات وتكوينات قد تحدِث تغيرًا في الفهم ومحاكاة الحرف تشكيليًّا وهندسيًّا، محاكاة غير محدودة تضفي على العمل الفني بُعدًا جماليًّا، وتخفي، في الوقت نفسه، ضعف وسائل تعبير الفنان المتناول لهذا النوع من التشكيل، حيث جمال الحرف يخفي عيوبَ، أو ضعفَ، أدوات التعبير الخاصة بالطرح والتصوّر.

 
(*) بعد التكعيبية والسوريالية والتجريد، وغيرها من مدارس الرسم والتشكيل، إلى أين وصلت ضفاف الفن التشكيلي؟
الفن التشكيلي بمراحله المختلفة طرأت عليه تغيرات فيها خدعة بصرية من خلال التطبيقات الذكية التي تُستخدم كمؤثرات لصياغة بناء اللوحة الفنية. هنالك إشكاليات كبيرة في فهم الطرح المعاصر للفن التشكيلي، لأن التكنولوجيا أضعفت جهد الفنان، مقدمةً له طروحاتٍ وأنماطًا فنية فيها قدر كبير من الخدع البصرية، وهذا الأمر يثير تساؤلات كبيرة حول ما يُقدم وما يُعرض.




أستثني مما تقدّم بعض الدول الغربية التي تضع الفنان أمام واقع يحتّم عليه تقديم حلول وطروحات من أجل بلْوَرة أفكار ودراسات توثّق مرحلة لها خصوصية في الطرح والفهم، وهنالك دراسات معمّقة تؤسس لمرحله مشبعة بالأساليب المعاصرة لترجمة واقع الفن التشكيلي بمجمله.

 
مدنٌ وتأمّلات..



(*) كما لو أنك ترسم باللون، صف لنا بكلمات أشبه بضربات الريشة ماذا تعني لك المدن الآتية:

عمّان:
ـ خيمة العرب.. رئة فلسطين والطريق الى القدس.
تونس:
ـ عروس المتوسط.. ملتقى الحضارات.
مراكش:
ـ عاصمة النخيل.. المدينة الحمراء.
الرباط:
ـ مدينة الموحدين. إغفاءة نهر أبي رقراق. ثنائية التقليد والحداثة.
الدار البيضاء:
ـ تعانق المحيط متلاطمة بأمواجها التي لا تهدأ.
ساكب:
ـ رائحة تراب تعيدني إليها، وجبال سروٍ تراقص طيف أمي.
القاهرة:
ـ أم الدنيا وعدوّة النوم.
بغداد:
ـ مدينة الطوفان. قاموس تقطّعت خيوطه وتناثرت أوراقه.
إسطنبول:
ـ صاحبة الوقار. تحاول تجديد عباءتها مراقصة الحداثة.
دمشق:
ـ ظمأُ برَدى وإيقاعُ صبحٍ بلا صدى.
بيروت:
ـ امرأة أرستقراطية غيّرتها الأيام وضاع منها الحلم.
يافا:
ـ عروس البحر العصية أمام مغريات التهويد.
القدس:
ـ لحظة الأرض والسماء معًا.
غزة:
ـ هاشم والبندقية.
وهران:
ـ باريس الصغيرة. عباءتها أوسع من مداها.
طرابلس الغرب:
ـ جرح عميق. مالها مسروق ومنقذها مخنوق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.