ينطلق هذا الحوار مع الشاعر والناقد اليمني، علوان الجيلاني، من كتابه الصادر حديثًا "شجون الغريبة"، وهو كتاب يرصد تحولات قصيدة النثر العربية من صفحات مجلة "شعر" إلى صفحات فيسبوك، متعرضًا للتحول الذي أصاب هذه القصيدة في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين حيث لعبت الشبكة العنكبوتية دورًا هائلًا في تغيير قواعد اللعبة، ومتتبعًا ظهور منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها منصة الفيسبوك التي يرى أنها "وضعت بصمتها على قصيدة النثر وجرّتها إلى اجتراح مجموعة استبدالات عميقة تجمع بين القطيعة مع الماضي والتقاطع معه في الوقت نفسه"، بل إنه يذهب إلى القول إن "فيسبوك ساعد قصيدة النثر على الاسترشاد إلى نفسها". وفي هذا الفضاء أثبتت قصيدة النثر قدرتها على تجسيد صعقته الذهنية، والإحساس بلحظته بوصفها لحظة مفصلية في تاريخنا الشعري.
وعلوان الجيلاني (1970) هو شاعر وروائي وناقد وباحث في التراث الشعبي والصوفي، يشغل موقع أمين عام الحريات والحقوق باتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين منذ 2010 وحتى الآن. يعد من أبرز وجوه المشهد الإبداعي الثقافي اليمني، فهو من أكثر المنتمين إلى جيل التسعينيات من القرن المنصرم تعددًا في اشتغالاته، بدءًا من لغته الشعرية الخاصة مرورًا بحفرياته السردية ودراساته النقدية، واشتغاله على الهوية والإنسان والأبعاد الصوفية في تكوين الإنسان اليمني وانتهاءً بما كشف عنه من كنوز التراث الشفاهي لمنطقة تهامة (التي يتحدر منها) وهي منطقة صحراوية تتميز بغنى لافت في فنونها الشفاهية.
ثم إن الجيلاني الذي أنجز حتى الآن قرابة 30 كتابًا في الشعر والرواية والدراسات الأدبية والثقافية وغيرها يشتغل على مجموعة من التجارب العميقة لشعراء يمنيين كبار نذكر منهم: إبراهيم الحضراني؛ علي عبد الرحمن جحاف؛ حسن الشرفي؛ عبد الرحمن بكيرة.
هنا حوار معه:
(*) لنبدأ من كتابك الصادر حديثًا "شجون الغريبة: تحولات قصيدة النثر من صفحات مجلة شعر إلى صفحات فيسبوك"، (عناوين بوكس- القاهرة)، هي المرة الأولى التي تخصص فيها كتابًا منفردًا لمقاربات في قصيدة النثر اليمنية والعربية... ما الذي يقدمه الكتاب من أجل قصيدة النثر؟
هذا الكتاب يمثل امتدادًا لكتاب (أصوات متجاورة) سابقه الذي صدر سنة 2010، فمن رحم ذلك الكتاب ومن مثاقفات ملتقيات تخص قصيدة النثر تَخلّق كتاب (شجون الغريبة). الكتاب يقدم محاولات اقتراب مختلفة يهدف من خلالها إلى فهم تبدلات النسق الثقافي وأثرها على الشكل الشعري، حيث لعب تبدل النسق الثقافي دورًا فاعلًا لصالح ظهور قصيدة النثر، حدث ذلك على مدار مائة سنة سبقت ظهورها، الاحتكاك بالآخر دراسة وترجمة وتلقياتٍ مختلفة كلها أسباب جعلت الأمر ممكنًا.
لكن مقارباتي تتبعت ذلك من وجوه كثيرة، أيضًا تتبعت التّحَقُّقَات النصية كما كتبها الرواد في المركز العربي، ثم تضمينات الهوامش الجغرافية العربية التي بدأت تظهر منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وتعرضت للتحول الذي أصاب قصيدة النثر في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، حيث لعبت الشبكة العنكبوتية دورًا هائلًا في تغيير قواعد اللعبة، تبدلت أعراف النشر، وتراجع دور الصحيفة والمجلة ومعهما تراجع دور المهيمنات التي كانت تمثل الموجه للشعراء الجدد. وتزامن ذلك مع مجموعة ملتقيات تحاول التأسيس لمرحلة نصية جديدة، إضافة إلى مجموعة من المبادرات والابتكارات النصية مشفوعة بكتابات تنظيرية واسعة، وقد انعكس ذلك كله على نصوص الشعراء التي تحملت بمضامين تستجيب للحظتها، وتعبأت بمعجم دلالي ووسوم لم تكن تعرفها من قبل.
بعدها تتبعت ظهور منصات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها منصة الفيسبوك، المنصة التي وضعت بصمتها على قصيدة النثر وجرّتها إلى اجتراح مجموعة استبدالات عميقة تجمع بين القطيعة مع الماضي والتقاطع معه في نفس الوقت، خلال عقد ونصف العقد من تاريخ هذا الفضاء أثبتت قصيدة النثر قدرتها أكثر من غيرها على تجسيد صعقته الذهنية، والإحساس بلحظته بوصفها لحظة مفصلية في تاريخنا الشعري. حيث اختلت مسلمة الزمن، إما عن طريق الاستبدال، وإما عن طريق الاستدارة، وتغيرت المحفزات، فصار الشاعر يخاطب (مارك زاكروبيرغ) مؤسس منصة فيسبوك، بوصفه رمزًا لهذا الفضاء الافتراضي، وبوصفه بديلًا للمخاطَب القديم في الشعر، الطلل، الصديق، رفاق الرحلة، الليل، الراحلة، الفرس، الورقة والقلم... إلخ، لكنه أكثر من ذلك يخاطبه بوصفه ملهِمًا ومحفزًا للكتابة، إنه شيطان الشعر عند العرب القدماء، أو أبولو، آلهة الشعر عند الإغريق.
(*) "الحضراني في الرمال العطشى"... واحد من أهم الكتب التي تزيح الغبار عن شاعر يمني كبير... ما الجديد الذي سعى الكتاب لكشفه والتنقيب عنه في سبيل تخليد ذكرى الشاعر إبراهيم الحضراني؟
"الحضراني في الرمال العطشى" هو أيضًا استكمال لجهد سابق بدأته بتحقيق ديوانه الذي نشر عام 2006. في هذا الكتاب هناك مقاربات لتجربته الحياتية والنضالية وسمات شخصيته المتفردة أدبيًا وإنسانيًا، لكن الكتاب يتضمن استكمالًا لجمع بقية شعره، إذ اغتنمت فترة إقامتي في القاهرة وقمت عام 2019 بجمع ما كان في حكم الضائع من شعره، حيث حصلت على ثلاثة وعشرين نصًا، جمعتها من مجلات وكتب مصرية صدرت بين عامي 1958- 1967، إضافة الى ذلك فقد تعرض القسم الثاني من الكتاب لمجموعة من سمات شعره، مثل مفهومه للشعر، وطبيعة نص الومضة عنده، ناهيك عن صورة الحياة في شعره، وسمات الإيقاع والصورة.
شخصية الحضراني اللطيفة وزاوية رؤيته للوجود وما يشتجر في الحياة كانت مختلفة وجديرة بكتاب يتموضعه، وقد فعلت ذلك بشغف ومحبة وجدية أيضًا. وأظنني نجحت.
(*) هذا يقودنا للسؤال عن الإرث المخطوط (أو الذي ما زال متناثرًا) الذي تركه شعراء وكتاب يمنيون في وضع سياسي واجتماعي محترب وتكاد تكون الثقافة والكِتاب آخر ما يُفكّر فيه. لك محاولات في تحفيز أسر وورثة أسماء إبداعية كثيرة للملمة ما تركوه من مخطوطات وقصاصات لتخرج للنور... هنا شجون أخرى أترك لك الحديث عنها؟
لطالما شغلني هذا الأمر، نحن شعب يمتلك طبيعة غريبة تجاه المنتج الابداعي والثقافي والعلمي بشكل عام، مساهمتنا في تحقيق تراثنا المخطوط ضعيفة جدًا، ويكفيك مثالًا أننا لم نساهم حتى بتحقيق كتاب واحد من كتب الفيلسوف الصوفي الشهير عبد الكريم الجيلي، الغالب على أدبائنا عدم المبالاة بنشر ما ينتجونه، معظم أدباء الجيل الماضي ماتوا وأعمالهم طي الدفاتر، قليلون هم الذين كان يتعاملون مع الابداع والكتابة بوصفها مشاريع يجب أن ترى النور. أولًا بأول، بعضهم طبع عملًا أو عملين أثناء حياته وترك الباقي لإهمال أسرته، أسر المبدعين كلها أسر مُهملة، ما أن يموت الشاعر أو الكاتب حتى تتجاهله أسرته قبل الآخرين، الاستثناءات قليلة جدًا.
في هذا السياق أجدني مشغولًا بتراث الراحل عبدالله علوان، ومعه تراث الراحلين عبد الرحمن الحجري وأحمد شاجع ومحمد المنصور والمقالح عبد الكريم، وسترى قريبًا بعض النتائج إن شاء الله.
(*) لنتحدث عن النقد الأدبي والفني في اليمن... هنالك سجالات تندلع بين فترة وأخرى على منصات التواصل ثم تختفي. هل هذا يعني غياب مشاريع نقدية مسؤولة، وما أسباب هذا الانزواء والتراجع النقدي برأيك؟
السجالات التي تندلع بين فترة وأخرى يمكن أن تتحول إلى محفزات جيدة للاشتغالات الجادة، مع ذلك فهي قد تتخذ طبيعة آنية وغير مجدية خاصة حين نتعامل معها بوصفها مجرد مهاترات، أو حين تتحول إلى نوع من التنمر. بالنسبة لي فهي دائمًا تمثل محفزًا قويًا على الإنجاز. ما يجب أن نلتفت إليه هو ضرورة تعلم الدأب والمثابرة والتطلع باستمرار لتقديم ما يجدي. المشاريع المسؤولة تحتاج إلى جهد وصبر وإلى مراكمة معارف وتجارب تنفع عند الاشتغال على الكتابة.
(*) لك تجربة شخصية في الاكتواء بنار الحرب وإن بطريقة مختلفة ضمن حالة التشرد الثقافي. اتجهت لمصر حيث مكثت بضع سنوات وتابعنا إشراقات لك سواء مثاقفاتك مع المشهد اليمني- المصري- العربي هناك أو العمل على مشاريع كتابة.... حدثنا عن فترة مصر في مشوارك الإبداعي؟
كانت فترة مميزة جدًا رغم همومها ومشاكلها ومتاعبها، لكن هناك عوامل جعلتها مميزة، أولها طبيعتي فأنا أحاول تعويض ما أفقده عبر الكتابة، ببساطة ألجأ طوال الوقت إلى فعل ما أحسن فعله، كانت الاستهدافات ضدي كثيرة، وكنت أعبر عن قدرتي على البقاء من خلال الكتابة والإنجازات المتوالية، ثانيها مصر نفسها، أنا مصري الهوى، أحب مصر وأقرأ لكتابها منذ طفولتي، وأزعم أني أعرفها وأستطيع التماهي في طبيعتها. الحياة في القاهرة توفر شروطًا جيدة للكتابة والإبداع والإنجاز والنشر، المنابر كثيرة والمؤسسات، المنتديات والملتقيات أيضًا، وطبيعة المصريين وترحيبهم قبل ذلك وبعده، ثالثها ارتباطي أثناء إقامتي في القاهرة بالشاعر والناشر هاني الصلوي ومؤسسة أروقة. ذلك كله أتاح لي أن أستكمل العديد من مشاريعي، وأن أصدر مجموعة منها. أثناء ذلك توفرت لي رؤية المشهد اليمني عن بعد، كما توفرت لي رؤية المشهد المصري عن قرب، وهذا أتاح لي معرفة أكثر عمقًا بالذات وبالآخر.
(*) ومن مصر، طالعتنا روايتك الثانية "معلامة" (2023)، بعد رواية "أورفيوس المنسي" (2021)، وكلاهما عن دار النشر (عناوين بوكس). حدثنا عن المغامرة الثانية وما الذي تضيفه الرواية لشاعر وناقد يتماهى حد التنكر للذات في مقاربة مشهد إبداعي أشبه بالكاريكاتوري؟
ربما يعود الأمر إلى طبيعتي الشخصية، إلى تكويني واستعدادي للتعدد، من جهة أخرى لطالما كنت جاهزًا لكتابة السرد، منذ سنة 2000 تقريبًا كان إخوتي وأصدقائي يلحون على تذكيري بجاهزيتي للسرد؛ بل ويعلنون انتظارهم للحظة التي أضع بين أيديهم عملًا سرديًا.
في ما يتعلق برواية (معلامة) يبدو أني كنت أنتظر لحظة الوصول إلى ذروة النوستالجيا كي أبدأ الكتابة، وقد حدث ذلك بالفعل بين نهاية عام 2019 وبداية 2020، أثناء إقامتي في القاهرة، وكانت قد مرت عليَّ خمس سنوات بعيدًا عن اليمن، مات أبي مطلع عام 2018 وأنا في زحمة ذلك الغياب، وأبي يشكل بالنسبة لي روح تلك النوستالجيا، ثم أحاطت بي حروبٌ ومكائد استهدفتني وجودًا وإبداعًا، وفجأة وجدتني أكتب.
تشكلت الرواية من أربعة وثلاثين فصلًا، انكتبت في أقل من شهرين، قد يبدو هذا غريبًا لكنه حدث، ومعظم أصدقائي يعرفونه، كنت أستيقظ عند الخامسة صباحًا وأبدأ الكتابة على الكمبيوتر حتى التاسعة صباحًا، ثم أنشر ما كتبته على صفحتي في الفيسبوك، إثر ذلك أتلقى سيلًا من التعليقات من أهل تهامة خاصة، ثم من مثقفين وكتاب ومتابعين من اليمن ومن بلاد عربية مختلفة، كانت كلها تعليقات تعرب عن دهشتها لأسلوبي في السرد، وكنت أعيش بقية اليوم أتفاعل مع التعليقات، أتلقّط مقترحاتها، وأركز جيدًا على نواحي الدهشة التي تجذب المعلقين، أثناء ذلك أشتغل على تعديل ما نشرته وعلى الإضافة له، عند منتصف الليل يكون الفصل قد اكتمل.
وهكذا استمرت الحال حتى شعرت أني غطيت مرحلة طفولتي وبوادر وعيي الأولى، وهي مرحلة توافق سبعينيات القرن الماضي، ذلك العقد الذي كان آخر عهد المكان بمنظومته الثقافية والروحية والاجتماعية سليمة.
كان ذلك جهدًا استعاديًّا تحولت فيه أصداء حياة متلاشية إلى حقائق جديدة، متحورة قليلًا، لكنها لم تختلق أو تستبدل، لقد تحولت أصداء الحياة المتلاشية إلى غناء شجيّ يسحب القارئ إليه، ثم يترك بصمته في وجدانه، وتلك هي وظيفة الفن حسب اعتقادي، أن يبعث لحظة تكاد تتلاشى ثم يعيد تأثيلها بشكل ساطع.
شجون تهامية...
(*) لنتحدث عن "تهامة" وشجونها وأنت أحد أبناء هذه الأرض الطيبة، إلى أين وصل اهتمامك بتراثها وشخصياتها وفنونها وتاريخها؟
اشتغلت كثيرًا خلال أكثر من عقدين على تراث تهامة توثيقًا وتحقيقًا وتأليفًا. في هذا السياق أنجزت مجموعة أعمال، في التصوف أنجزت ثمانية كتب، نُشر منها اثنان والبقية في طريقها إلى النشر، وفي مجال التراث الشفاهي والدراسات الثقافية أنجزت ستة كتب، نشر منها كتابان وأربعة في الطريق، الاشتغال في هذا المجال هو أصعب الاشتغالات التي خضتها إطلاقًا بقدر ما هو من أكثرها لذة ومتعة. الصعوبة فيه تتعلق بالجهد وبالتكاليف المادية، أما اللذة فمصدرها ثراء هذا التراث والاكتشافات التي نسعد بها أثناء اشتغالنا عليه.
(*) تهتم بتتبع النصوص التفاعلية المكتوبة على المنصات، هذه المنصات التي صنعت أقلامًا كانت ستكون في النسيان لولا طفرة التكنولوجيا... ما الذي يحدث في هذا "الوادي الكبير"، وهل نحن أمام نص الفيسبوك والكتابة الطارئة؟
أستطيع القول إن منصة الفيسبوك ساعدت قصيدة النثر على الاسترشاد إلى نفسها، النشر على صفحات الفيسبوك أوجد جملة من الاستبدالات التي يمكن التأشير عليها، قصيدة النثر الفيسبوكية تختلف في معظم نماذجها عن قصيدة النثر في زمن ما قبل الفيسبوك، من ضمن الاستبدالات أنها – مثلًا - تعكس بشكل واضح شعور مستهلكي الفضاء الافتراضي باختلال مسلَّمة الزمن، تعكس هذا الاختلال أكثر من أي جنس أو شكل إبداعي آخر يحتضنه الفضاء الأزرق، ربما كان لطبيعتها المتخففة من الانتقال بتراث الشعر القديم دخل كبير في هذا، غير أن تجسيدها لاختلال مسلَّمة الزمن يبدو ناتجًا عن طواعيتها، عن قابليتها هي في نفسها لتمثل معطيات الفضاء الأزرق أكثر من أي شكل آخر. أيضًا خطاب قصيدة النثر الفيسبوكية يبدو جديدًا ومختلفًا تمامًا، الجدّة والاختلاف يتأسسان في طبيعة المنصة ومن ثم قدرة قصيدة النثر دون الأشكال الشعرية الأخرى في تطويع نفسها لطبيعة المنصة الأمر الذي جعلها تقدم نفسها بوصفها محايثًا لحياتنا اليومية، وقد نجحت نجاحًا عظيمًا في تحويل الشخصي واليومي والعادي والمألوف إلى سرديات كبرى، وهي من خلال بعض تجلياتها المتمثلة على وجه الخصوص في نصوص مجادلة الحب، ونصوص الاعترافات، ونصوص المخاوف، ونصوص الشكوى، ونصوص الرفض والتهكم، والنصوص السِّيريَّة، ونصوص ملاعبة الكابوس، ونصوص اليوميات، تتحول إلى جواذب للمتلقي تفعل به الأفاعيل، فهي تلامسه بسهولة، فيما يصل هو إليها دون أن يصطدم بحواجز تتعالى عليه، أو تتحمَّل بمحمولات أكبر من وعيه.
(*) وإلى أي مدى، يمكن القول إن الأدباء والمبدعين اليمنيين استفادوا من هذه المنصات، وكيف انعكست على كتاباتهم؟
لعل من حسنات هذه المنصات أنها جعلت المشهد الشعري اليمني في قلب التجربة الإبداعية العربية، هذا ساعد الشعراء اليمنيين على تجاوز أزمة النشر، وعلى تجاوز عُقد التلقي، لطالما كان الشاعر اليمني متلقيًا لما ينشر في مصر والعراق والشام، إذ تصل إليه نتاجات شعراء تلك البلدان فيما لا تصل إليها إبداعاته. منصات التواصل ساوت بين الجميع ومنحت الشاعر اليمني فرصة تقديم ما لديه في نفس الوقت وليس بعد الآخرين بزمن، لقد كان يسعدني أن أسمع من شعراء من بلدان عربية مختلفة إشاداتهم بقصيدة النثر في اليمن كما يقرأونها على صفحات الفيسبوك، إنها الآن تقدم نفسها بزهو كبير نستطيع المفاخرة به.
(*) هنالك مبادرات تحاول إنقاذ الكِتاب اليمني بانتشاله من الورق إلى المطابع والرفوف تنشط في المشهدين اليمني والعربي حيث أروقة وعناوين بوكس من القاهرة ومؤخرًا مواعيد من صنعاء.. كيف يمكن توصيف الحال التي يعيشها الكتاب اليمني في العقد الأخير (عقد الحرب والشتات)؟
وجود هذه المنابر دليل عافية يعيشها المشهد الابداعي اليمني، هو مشهد يتمتع بالحيوية رغم ظروف الحرب، ورغم ما يعيشه المبدعون بالذات من ظروف قاسية. هذا الإصرار على مغالبة الحياة وظروفها يحسب للإنسان اليمني بشكل عام، وللمبدعين والمثقفين اليمنيين على وجه الخصوص.
(*) في واقع يمني وعربي ليس على ما يرام، هو امتداد إلى أنحاء كثيرة من هذا العالم بين حروب وأوبئة وكوارث طبيعية... من ينتصر، الموت أم الكلمة، إذ أمست "اليوتوبيا" مفردة قديمة لحساب "ديستوبيا" مهيمِنة ضمن ما بات يعرف بأدب المدينة الفاسدة؟
المعتاد هو انتصار الكلمة على الموت (بالمعنى الذي نفهمه من لفظة "الموت" في سياق سؤالك)، هذا الانهمار الإبداعي والثقافي الذي تقذفه المطابع كل يوم، هو دليل واضح على رغبة في الحياة. صحيح أن المنتج المعبر عن نوع من الديستوبيا موجود، وهو كثيرًا ما يتسرب من التناحر في الجبهات السياسية والحربية إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ثم يتسرب من مواقع التواصل الاجتماعي إلى صفحات الكتب، وهذا يخلق معضلات لنسيجنا الاجتماعي في الحاضر وفي المستقبل أيضًا، ولكن القارئ الجيد لتاريخ العالم، بل لتاريخ اليمن بالذات، يظل على يقين بأن الغلبة في النهاية للكلمة بما هي تعبير عن جمال الحياة وعن التعايش، وبما هي تعزيز لوجودنا الإنساني وقواسمنا المشتركة.