}

حسن داوود: رواياتنا لم تبلغ ما بلغته روايات العالم

دارين حوماني دارين حوماني 27 مارس 2023
حوارات حسن داوود: رواياتنا لم تبلغ ما بلغته روايات العالم
حسن داوود

الحديث عن الروائي اللبناني حسن داوود (1950) هو حديث عن الكتابة الإنسانية، والتجربة الإنسانية بمعناها الكامل، فهو الروائي المكاني وهو الروائي السيكولوجي الذي يبحث بأعماق الشخوص في اشتباك مع الأحاسيس والسقطات لنشعر أننا داخل النص أيضًا وأنه يحكي عن كل واحد منا. عباراته يستلها من أحاسيسنا الدفينة، من حنيننا أيضًا، ينطلق في رواياته من نوستالجيا متأتية من توثيق للأزمنة والأمكنة التي عبر بها، حنين يعكس شخصيته الدافئة والناظرة إلى العالم بعين سينمائية حساسة ودقيقة.
كتب حسن داوود بنفس القلق الذي يذكرنا بألبير كامو. قلق يدفعه ليكتب على مهل ولنقرأ في المقابل على مهل كتاباته المخزّنة بالشعرية. لداوود ثلاث عشرة رواية وثلاث مجموعات قصصية، وعمل مسؤولًا عن الملحق الثقافي بجريدتي السفير والمستقبل وعدد من الصحف، ويكتب في الصحافة الثقافية منذ أربعين عامًا. حاز عددًا من الجوائز منها جائزة المتوسط عام 2010 عن رواية "مائة وثمانون غروبًا" وجائزة نجيب محفوظ عام 2015 عن روايته "لا طريق إلى الجنة". صدرت له مؤخرًا رواية "فرصة لغرام أخير" (دار نوفل، بيروت، 2022)، عن روايته الأخيرة وأعماله ورؤيته للواقع كان لنا معه هذا الحوار:

(*) في روايتك الأخيرة "فرصة لغرام أخير"، ثمة علاقات ربما غير منضبطة أو تشوبها مشاعر متناقضة مع ندم خفيّ بين رجلين وامرأة، هل هي تداعيات الفراغ الداخلي الذي أحدثه الوباء... هل يمكن أن نقول إنها رواية عن الحب في زمن كورونا؟

لم يكن الرجلان الستينيان في الرواية ينتظران تلك العلاقات، فأحدهما متزوج وزوجته مقيمة بأستراليا، والآخر سلّم أمر النساء لتقدّمه بالعمر. هكذا علاقات ما كان ممكنًا لها أن تنشأ إلا في ظرف الوباء حيث إن الرجلين والمرأة القابعين بمنازلهم لا يتواصلون مع أحد، وكل اتصال مع الخارج يحمل طبيعة فجائعية. مثلًا حين يأتي صوت امرأة تقول إنها تريد أن تأكل فهذا يعني أن الحال مقبلة على مجاعة وليس فقط على تسوّل من قبل امرأة تريد مالًا. الرجلان المقيمان بالمبنى نفسه يعيشان بمفردهما، والمرأة في الشقة بالمبنى المقابل والتي يقعان في غرامها واحدًا بعد الآخر، مقيمة وحيدة حيث إن تواصلها مع حماتها المقيمة معها بنفس البيت معدوم كليًا. هذا النوع من التواصل يصعب أن يجري بغير زمن كورونا. وإن خروج أحد هذين الرجلين مع المرأة في اللقاء الغرامي بدا كأنه مسير في مدينة فارغة كليًا من البشر، حتى إن أي شخص يمكن أن يُصادَف يحمل شيئًا من الغرابة. ذلك الطفل الذي عبرا قربه في منطقة بعيدة عن بيروت بدا كأنه مسخ، نظرته متحدية وشكاكة بلا سبب. كذلك مشهد النساء الجالسات إلى جانب الجسر، بدا غريبًا. كل ما يحدث بالرواية، سواء أحداث أساسية أو هامشية، تبقى غريبة عما هو شائع، إنه كما قلتِ حقًا الحبّ في زمن كورونا.

(*) تصف في روايتك تمامًا كيف يمرّ الزمن من وراء زجاج النوافذ كأن ذلك التلصص هو الحياة نفسها تراقب صمتها في الخارج من الداخل... إنها تجسيد للعزلة والانفصال عن العالم... ما الذي أردت قوله من هذا التجسيد؟

حين كنت قابعًا ببيتي بسبب كورونا لأشهر لكثرة ما هوّل علينا الإعلام عن الموت المحتمل بهذا الوباء، وذات يوم عند الثالثة فجرًا، خرجت إلى الشرفة وتأملت المبنى المقابل لبنايتنا، وتساءلت، بعد أن رأيت كل شيء مقفلًا بالمدينة، طالما أنه من الممنوع على ساكني البيوت الخروج، فلماذا لا يخرجون إلى الشرفات؟ لا أرى أحدًا منهم واقفًا على شرفته. هذا شعوري الأول، وهذا ما دفعني لكتابة الرواية، لأنه من المفروض أن يتحايل الناس للخروج من جحورهم، كأنهم كانوا مصرين على البقاء في الداخل. الرواية فكرتها الأساسية عن ذلك الانحباس وعن التواصل النادر بين الناس والذي يحصل فقط بالترقب والتلصص، وفي تحيّن الفرصة لمشاهدة أي حركة تحصل في البيوت المقابلة.  

(*) في روايتك السابقة "فواكه ونساء وآراء" ورغم أنك استبقت القارئ بإخباره في مطلع الرواية أنه "حتى لو أن الرواية استلهمت من مظاهر عيش حقيقي وأن فيها تشابهًا في حياة بعض شخصياتها مع أشخاص فعليين فهو فاصل في سياق قائم في أساسه على التخيّل"، إلا أننا نشعر أنها رواية سيرة ذاتية وأن شخوص الرواية هم أنت ورفاقك الذين نعرفهم والذين أصبحوا شعراء وروائيين... هذا التماهي بين الخيال والواقع نجده في عدد من رواياتك، "بناية ماتيلد" و"أيام زائدة" وغيرهما، إلى أي مدى تتداخل رواياتك بأبطالها وأمكنتها مع واقعك الحقيقي والخاص؟

إن الشخص في رواية "غناء البطريق" الذي لم أصادفه إلا مرتين بحياتي ولم أكلمه أبدًا، كنت أراه في منزله، ولديه تشوه بسيط، ورغم ذلك كتبت رواية كاملة عن هذه الشخصية. كان ذلك إعادة خلق أو إعادة رسم ملامح أكثر عمقًا لذلك الشخص الذي لم أرَ إلا صورة وجهه. ربما كان بطريقة ما أنا نفسي. حين أكتب عن شخصيات ليس لي صلة فيها، أكتب كيف أفكر لو كنت بموقع الشخصية. في "أيام زائدة" كتبت عن جدي الذي كان في الرابعة والتسعين، هو كان الراوي ويصف مشاعره حيال العالم، وأصف أوجاعه كما لو أنني أنا هو. دائمًا الشخصيات تكون قريبة مني، مثل "نساء وفواكه وآراء" ومثل "بناية ماتيلد" التي كتبتها عن أهلي وجيرانهم. وفي رواية "روض الحياة المحزون" كتبت عن والد جدي الذي توفي قبل أن أولد بثلاثين عامًا، وضعت نفسي مكانه وكتبت من دون أن أعرف عنه إلا حكاية واحدة، ولكن هذه الحكاية كانت كافية لتصنع لي شخصًا جعلته بطلًا روائيًا. كتبت عن أشخاص لا أعرفهم، وكتبت، كما يقول أصدقائي، عن كل من أعرف وخصوصًا في بدايات كتابتي، وأحسب أن الروايات الأولى التي يكتبها الروائيون هي نوع من سيرة ذاتية، لا يمكن للروائي ببداياته أن يقوم باختراع مجال روائي غريب عنه أو خارج عنه موضوعيًا وأنا كنت كذلك. ولكن كنت بحاجة لاحقًا لأن أستبطن ما بداخل شخصيات أخرى ليست لي صلة بها.




حين أبدأ بكتابة رواية

 لا تكون عندي خطة...

(*) حين ندخل إلى رواياتك لا يمكن أن نخرج بسهولة، ثمة عبارات تجعلنا نشعر أنك استللت جزءًا منا ووضعته بين الورق. فكيف تكتب أعمالك، هل تتحكم الرواية بتفاصيلها بك وأنت تكتب، أم أن تأليف وكتابة رواية يتطلب الدخول في الثقوب الجوانية للنفس ما يذكّرنا بالشاعرة آن سكستون وهي تقول: "ضع أذنك بالقرب من روحك واستمع جيدًا"؟

حين أبدأ بكتابة رواية لا تكون عندي خطة، ولا أعرف إلى أين أنا ذاهب. المهم عندي أن تتحقق البداية. عندما تُكتب الصفحات الأولى، يكون عندي طاقة داخلية، أو شيء يعتمل حول فكرة جوهرية تعطيني الطاقة أو الحماسة للكتابة. أنا بالأحرى بطيء لا أغرف من بحر، وأنحت من الصخر كما يقولون، وهناك عملية استبطان مستمرة لما ينبغي أن تقوله الشخصيات. كل جملة هي تفكير بأن هل هذا ممكن؟ هل هو حقيقي؟ هل يؤدي في مكان ما في سياق الرواية؟ وحين تقولين إنني أكتب كأنني أستل جزءًا من القارئ فهذا صحيح، باعتقادي إنني لا أؤلف شيئًا برانيًا، أؤلف عن شيء داخلي، وهذه الدواخل مهما بدت متمايزة هي متقاربة ومتشابهة، هذا ما استنتجته من الذين يقولون للروائي: كأنك تكتب عني وعن تجربتي، السبب أن هذا هو الشيء المشترك بين البشر، وتأتي الرواية لتشير إليه وتقول: انظروا إلى ما أشعر به، فيشعر القارئ بنفسه وهو يقرأ. 

(*) إذا استعدنا رواياتك نلحظ أن البعد السينمائي موجود لديك بقوة، كأن هناك كاميرا دقيقة تعالج المشهديات والحوارات والتفاصيل في وجود هكذا أدب، ومع مساهماتك السابقة في المشاركة بكتابة سيناريو. لماذا برأيك يغيب التنسيق بين كتّاب السيناريو والروائيين والذي سبّب استنساخ التركي والغربي في الكثير من المسلسلات؟

باستثناء حالات نادرة، السينمائيون يريدون عملًا جاهزًا، يريدون سيناريو بمعزل عن العالم الروائي الذي ينشأ حولهم. نتساءل حين نرى السينمائي يحكي عن ذكرياته ومشاهداته، ألا يريد أن يرى ما يُكتب في عالم الأدب؟ بالسينما الأميركية والعالمية غالبًا هناك مرجع أدبي روائي أو نصّي للعمل السينمائي، فلماذا لا ينشأ لدينا ذلك؟ السينما متوقفة عندنا عند حدود البدايات ولا يوجد دخول إلى أعماق الحالات الإنسانية الصعبة والمعقدة. لا أريد أن أقول إنه كسل السينمائيين. إن كل نوع من الأنواع الثقافية: سينما، مسرح، ورواية، مستقل بذاته كليًا، ويسير بنظامه الخاص من دون اتصال وتفاعل مع الأنواع الأخرى.

كتبت مرتين سيناريو للمخرج الراحل مارون بغدادي، الأول فيلم وثائقي طويل "زوايا" عن الجنوب اللبناني بزمن الحرب حين كان الجنوب مشرعًا على الطيران الإسرائيلي وعلى القتل اليومي. الفيلم لا يصف الحرب، بل عيش الجنوب تحت هذه الوطأة الهائلة. السيناريو الثاني كتبت جزءًا منه بالاتفاق مع بغدادي وفي أثناء العمل حدثت الفاجعة برحيله بحادث مؤسف، فتوقفت عن الكتابة، ولكن صدر الجزء المكتوب من قبل جماعة من محبي السينما بلبنان في كتاب.

إن السينما هي مصدر إلهام حقيقي للرواية، وهي مصدر أساسي يعلّمك على العين الرائية وكيف تتحرك الأشياء، وإذا كان من معنى متميّز للرواية فهو أنها قادرة على أن تتحول إلى سينما. بنفس الوقت، أميل إلى التلصص ومراقبة الأشياء. أصدقائي يقولون لي خلال سهراتنا أنني أبدو كأني لا أعرف ماذا يدور حولي، بينما عندما يقرأون نصّي يجدون العكس لكثرة ما يتضمن تفاصيل صغيرة، ولا يعود ذلك للتكوين الأدبي للكاتب، بل نتيجة التكوين الشخصي. من خلال الكتابة يجد الكاتب ذاته ويكتشفها فيما يدوّن الأشياء التي يراها. وأجد صعوبة في وصف الشيء الحيادي والبرّاني بينما أشعر بالأشياء الجوانية الداخلية وأحسّ بها سهلة البلوغ. 

السينما مصدر إلهام حقيقي للرواية وهي مصدر أساسي يعلّمك على العين الرائية وكيف تتحرك الأشياء، وإذا كان من معنى متميّز للرواية فهو أنها قادرة على أن تتحوّل إلى سينما

(*) ثمة سمة شعرية وتأملية وحزينة بشكل متواتر في رواياتك، تعيدنا إلى حسن داوود الشاعر الذي لم يكتب الشعر. حدثنا عن هذه العلاقة الخاصة بينك وبين الشعر، وهل برأيك سيستعيد الشعر مكانته ذات يوم؟

عندما بدأت أقرأ على نطاق يومي كنت أقرأ الشعر، وأحفظ كتبًا شعرية كاملة، فكتب بدر شاكر السياب السبعة حفظتها. ومحمود درويش كان يمزح ويقول لي "أنت مجموعتي الكاملة". كنت مولعًا بقراءة الشعر، ولكن الرواية أخذتني. لذلك كل من يقرأ رواياتي يرى هذا الميل الشعري المتدفق، فأنا لا أكتب رواية عبارة عن سيل من الأحداث المتلاحقة، الكتابة بالنسبة لي هي بمعنى الفكرة والرؤية والنظرة والاكتشاف والاستبطان والمعرفة واللمس، هذه مسائل من دون أن أكون قد قررت ذلك هي ما أشعر أنه ينبغي كتاباتها. قراء كتبي يقولون لي "لا نستطيع إلا أن نقرأك ببطء"، أعوّل على أن تأخذ القراءة هؤلاء القراء وليس ترقّب ما سيحدث.

الشعر، بالتأكيد، سيستعيد مكانته. منذ أيام دعت الأندية الثقافية والشعرية للمسير بمظاهرات جوّالة وأن يقرأ الشعراء قصائدهم خلال المسير، هذا الأمر جديد. أمر آخر، الحديث عن انكفاء الشعر أمام الرواية أعتقد أنه انتهى. الشعر ينهض من جديد، فمن غير المعقول أن يكون العالم بلا شعر، أو أن يكون مجال الشعر هامشيًا في هذا العالم. الحياة صعب احتمالها من دون الشعر. أعتقد أن جيل الشباب بدأ أكثر فأكثر يستعيد زمام الشعر. 


(*) تقول الكاتبة إديث وارتون: "هناك طريقتان لنشر الضوء: أن تكون الشمعة أو المرآة التي تعكسه"... هل على الأدب أن تكون له وظيفة مجتمعية وإنسانية؟

ليس تبعًا لما هو سائد من فهم ذلك، أن يُطالب الكاتب بأن يكون مصلحًا اجتماعيًا أو داعيًا للاحتجاج السياسي وأن يكون كاشفًا بطريقة مباشرة دعوية لمشكلات البلد والعالم، ولكن أقول إن الكتابة الروائية لها أسلوبها الخاص في كشف بواطن العالم ومشكلاته. لن تكون الرواية تعليمية. عالم الرواية أعقد وأكثر عمقًا من أن يكون دورها مباشرًا وتعليميًا لهذا الحد. ينبغي على القارئ ألا يرى المشكلة فقط، بل أن يلمس عمق المشكلة. ولا ينبغي على الرواية أن تشير إلى ما هو معلوم من مشكلات البشر. أهمية وجود الرواية هي كشفها عما خفي من علاقات الكائن بالوجود، وإذا لم نكتب على هذا النحو فليس من معنى للرواية. لا يجب أن أكتب عن الحرب لأن اسمها الحرب أو عن الفساد لأن الفساد موجود وسيء، يجب أن يُكتب عما هو تحت الظاهر، وكشف ما لم يُكشف من قبل. بعض الناس يظنون أن هذا الكلام من قبيل الشعر وليس من قبيل النقد، هو من قبيل النقد والشعر معًا. ماذا فعل كافكا؟ أدرك أن هناك مشاعر لم يعيها الناس، فقال هذه هي مشاعركم الفعلية والعميقة التي تعيشون عليها. عندما نقول بلغة النقد "عالم كافكاوي" أي أنه اكتشف هذه الكينونة الغامضة التي جُعلت خطأ أو صوابًا مادة الحياة وعيشها.

(*) حدّثنا عن حساسية الأمكنة في أعمالك... عن تأثير المكان عليك وأثره على رواياتك؟

عندما صدرت "بناية ماتيلد" عام 1983 فوجئت أن كل من كتب عن الرواية ذكر أنها رواية عن المكان، واحتفلوا آنذاك برواية المكان. حين شرعت بالكتابة كانت بذهني ثلاث شخصيات من سكان البناية القدماء. كان مرورها إلى الشرفات وعلى الدرج يحرّك ديناميكية تصويرية ما بداخلي. أذكر حين صدرت الرواية كُتبت عنها مقالات من قبل مهندسين معماريين بسبب هذا الجانب الذي لم يكن شائعًا وموجودًا بالرواية العربية من قبل. وربما صدّقت نفسي أنني روائي مكان، وفي فترات لاحقة سعيت إلى الخروج من ذلك، فليس جميلًا أن يستمر الكاتب في الكتابة عن مكان أو يتنقل بين البنايات وينتبه إلى الاختلافات بينها. أعود وأقول إن ما حثني على كتابة "بناية ماتيلد" هم الأشخاص، وذلك بدرجة سابقة على انتباهي للمكان. أجد كتابتي متدفقة حين أكون بوضع من يصف، بتلقائية، ما يبدو عميقًا في وصف الحالات الإنسانية. أما البحث عن الأفكار فمسألة تتعبني ولا أجدني حاصلًا على الفكرة بسهولة. لذلك في الكتابات الصحافية أجدني هاربًا إلى أن أصف من أن أقول. 

الحديث عن انكفاء الشعر أمام الرواية أعتقد أنه انتهى. الشعر ينهض من جديد، فمن غير المعقول أن يكون العالم بلا شعر، أو أن يكون مجال الشعر هامشيًا في هذا العالم. الحياة صعب احتمالها من دون الشعر...

(*) تكتب في الصحافة الثقافية منذ أكثر من أربعين عامًا وكنت لزمن ما مسؤولًا عن الصفحة الثقافية في السفير وفيما بعد في المستقبل وفي المدن وغيرها، فهل تسبّب المهنة قصورًا في الإبداع بشكل عام، أم أن الكتابة الصحافية أمر مختلف، وعلى طريقة غابرييل غارسيا ماركيز "ساعدت الصحافة خيالي لأنها أبقتني على علاقة وثيقة بالواقع"؟ 

هذا صحيح تمامًا، الصحافة الثقافية أمر آخر. تخيّلي أنك موجودة بعمل يومي يتيح لك أن تطّلعي على الحركة الثقافية يوميًا وما يحيط بك بالبلاد العربية وبالعالم، وخاصة إذا كنت تعملين مع عدة أشخاص، متخصصين بأنواع مختلفة من الفنون، أحدهم مختص بالفن التشكيلي، وآخر بالسينما، وآخر بالأدب، بالشعر... إلخ، هذا مثر ومغن جدًا، لولا ذلك لكان الكاتب دخل إلى نفسه ولم يعد قادرًا على الوصول للخارج. طبعًا هناك نوعان من الكتابة، الكتابة الأدبية، والكتابة الصحافية، التصنيف الفعلي للكتابتين مختلف تمامًا، مقال الجريدة يذهب باتجاه وكتابة الرواية تذهب باتجاه آخر، في الصحيفة عندك رغبة بأن يكون المقال سهلًا وفيه التماعات مستمرة... لن أضع أوصافًا، لكن لا شك في أن هناك شيئًا يجمع هاتين الطريقتين في الكتابة، هو أسلوب الكاتب الداخلي، أي نبرته الداخلية.



الرواية والجوائز

(*) حصلت على جائزة المتوسط وجائزة نجيب محفوظ. برأيك هل تحقق الجوائز العربية أهدافها، وهل أثْرت هذه الجوائز عالم الرواية من ناحية القيمة الفكرية والأدبية وليس العدد، ونحن ندرك أنه من أبرز تداعياتها توجّه الكثير من الشعراء والنقاد نحو الرواية؟

أفضّل أن تصنع الروايات أو الكتب حاضرها ومستقبلها، وليس أن يكون ذلك بناءً لآراء لجان تقرر ما ينبغي قراءته وما ينبغي طرحه جانبًا. لا أخفيك أنني لا أتقدم للجوائز، تقدمت مرة بتاريخي الشخصي وتبيّن لي أن لا طائل من ذلك. حُجبت روايتي عن الجائزة حينئذ ولاحظت وجود أشخاص لهم علاقات خاصة ومختلفة عني ولست موجودًا بهذا العالم. زيدي على ذلك، أنني حين أتذكر الروايات والروائيين الذين بقوا في ذهني وأشعر أنني استفدت من تجاربهم، أتذكر أنهم لم يفوزوا بجوائز. ولا أعرف إذا كانت رواية من روايات الذين فازوا بالجوائز بالسنوات الأخيرة قد أحدثت أثرًا مدويًا في الرواية العربية.
لأسباب كثيرة لم تعد الرواية العربية في زمن الجوائز تصنع رواية أساسية. عندما حصلت على جائزة المتوسط لم أطلبها، أُعلمنا قبل يوم من نيلي لها، أنا والشاعر عباس بيضون والباحث علي حرب، عن الجائزة ولم نكن ندري أن هناك جائزة اسمها "المتوسط". جائزة نجيب محفوظ اشتركت فيها لأني رأيت أنها من خارج سلسلة الجوائز المتشابهة. أعتقد أني تمكنت من أن أصمد من دون أن أشترك بالجوائز. مع أن قيمة الجائزة قد تصل إلى ربع مليون دولار وهذا مبلغ كبير بالنسبة للكتّاب، المبلغ مغر وبرأيي أن الإقبال على كتابة الرواية لا يقابله إقبال على قراءتها بالبلاد العربية.

(*) يقول عزرا باوند: " الأدب العظيم هو ببساطة لغة مشحونة بالمعنى إلى أقصى درجة ممكنة"، فكيف ترى عالم الأدب العربي اليوم، ولماذا لا ينظر العالم إلى أدبائنا في الجوائز العالمية، جائزة نوبل وغيرها – باستثناء نجيب محفوظ طبعًا؟

ما زلت إلى الآن أصاب بدهشة حين أقرأ الشعر العباسي أو الجاهلي أو الأموي، دهشة لا أحصل عليها حين أقرأ معظم الشعر الحديث. أعتقد أن عالم الشعر القديم هائل الاتساع، هناك كمية من الشعر كتبتها الأمة العربية لم تكتبها أي أمة، ومع هكذا انتشار هائل للشعر يصبح الاختبار بين الناس تجاه بعضهم أن يكتبوا الشعر. نحن في وضع مختلف الآن. أرى أن الرواية العربية لم تبلغ بعد مبلغ الروايات التي استحقت جائزة نوبل. لا زلنا نكتب متأثرين بأساليب الغرب، لم نخترع شيئًا جديدًا، وأكبر خطأ في الرواية العربية أنها تقول إنني لا أنافس الرواية العالمية، أكتب عن محيطي الاجتماعي بطريقتي، كأننا نقول "ضعونا جانبًا، نحن نكتب عن وضعنا، نحن هامشيون، ووضعنا هامشي بسياق الرواية العام". نحن لم ننشئ عملًا أساسيًا في الرواية. أتذكر وليام فوكنر من تاريخ الرواية، لا زلنا إلى الآن نحاول أن نصل لكتابته. عندما نقرأ لروائي إسباني أو ألماني نلاحظ وجود همّ ليس فقط اكتشاف المعنى بأعمالهم، هناك همّ اكتشاف الأسلوب، وهمّ تجديده وهمّ الانتقال بطريقة الكتابة إلى طرق أخرى. هذا لا نفعله نحن، لدينا نظام للكتابة نحاول أن ننسج بناء عليه، لذلك لم نأخذ جائزة نوبل أو لم تبلغ الرواية العربية بعد ما بلغته روايات العالم منذ عقود طويلة.    

أفضّل أن تصنع الروايات أو الكتب حاضرها ومستقبلها، وليس أن يكون ذلك بناءً لآراء لجان تقرر ما ينبغي قراءته وما ينبغي طرحه جانبًا

(*) بعد كل التحولات التي مرّت على بيروت، حدّثنا عن المدينة قبل اشتعال الحرب عام 1975، وما الذي بقي منها الآن؟

دائمًا أجدني في كل مكان أسير فيه أعيد كل شيء إلى ما كان عليه قبل الحرب. هذه الرياضة الدائمة التي قوامها أن أسير في شارع الحمرا تعيدني إلى الماضي، أقول مثلًا هنا كانت السينما مكان المحل الذي يبيع الثياب الآن، وكذا... وأشير إلى ما كانت المحال من خمسين سنة. حاولت مرارًا أن أنقل هذه الذاكرة لابني فأخذته إلى "البلد" (وسط بيروت)، وصرت أقول لابني: "فراس، محل هيدا البنك كان فيه واحد يبيع سندويشات باذنجان مقلي وبطاطا مقلية" الخ... أحاول أن أزرع فيه الذاكرة التي فقدت عن بيروت لكنه رفض أن تكون له ذاكرة ثانية غير التي يراها. تذكّر بيروت مؤلم خصوصًا شعورنا كيف كانت شوارع بلس والحمرا أو البلد، لا أقصد الرفاهية الزائدة، بل أقصد الناس القديمين، وسوق الخضرا المزدحم غير النظيف... كل ذلك يتحول في الذاكرة إلى موضع حنيني جارف. وفي الحمرا، لما كانوا يتسابقون على الظهور الجديد وعلى الجدّة بالحياة. الآن هذه الشوارع تردّنا إلى زمن لا نعرفه ولا نشعر تجاهه بأي شيء. ليس المهم عدد المعارض والكتب والأنشطة، المهم بأي دافع تقبل الناس على هذه الثقافة، عندما يأتي الناس ويشاهدون ويتعرّفون على جهلهم عند مشاهدة معرض تشكيلي أو عندما ينتبهون كيف فاتتهم الأشياء عند مشاهدة السينما. الحياة يُعبّر عنها بأشياء أحيانًا صعب فهمها. أرى أن عدد الناس الذين فهموا الشعر الحديث وأدخلوه بوعيهم الثقافي والفني معدودون. في تلك الأيام أيضًا كانوا معدودين، ولكنهم كانوا مؤمنين بهذا الغامض لأنه جديد وواعد. الآن ببيروت إذا أردنا أن نحكي بطريقة أقل فلسفية أقول إنه لا جديد فيها. كان الكتاب ببيروت يُحدث نقاشًا ويُحدث احتفالًا، كان حدثًا ثقافيًا، الآن توجد كمية كبيرة من الإصدارات، ولكنها تبقى خبيئة. إضافة إلى وجود انطواء ثقافي ببيروت تعانيه معظم الدول العربية. في الثمانينيات والتسعينيات، كان الكتاب الذي يصدر ببيروت، يوزّع على العالم العربي والعالم، الآن أصبح كل بلد عربي محصور بثقافته المحلية، ما يصدر في مصر يبقى للمصريين وفي لبنان للبنانيين إلخ... هناك تشتت وتوزع لدور النشر على البلدان العربية جعل كل بلد عربي ينشر كتبه من دون أن يروّج للدول العربية الأخرى. نعرف الآن من مصر الكتّاب الذين التقينا معهم بمؤتمرات أدبية، أما الكتاب نفسه فغير قادر على إنجاز الرحلة التي عليه أن يقوم بها. الكتاب يبقى في مكانه، ومؤسف أني مثلًا لا أعرف ماذا يُكتب بالجزائر إلا إذا طبع الكتاب الجزائري ببيروت. فوجئت بكتاب "نهاية الصحراء" للكاتب الجزائري سعيد خطيبي وبأني لم أعرف هذا الشخص من قبل، لأنه لم يطبع كتبه من قبل في بيروت، لم تكن تصل كتبه، وصلني كتابه ووجدت أنه كتاب مدهش. في ذلك الزمن، كنا شلة المثقفين نتبادل الكتب، الصادرة بالدول العربية، ونتبادل الحديث عنها، الجو الذي كان لم يعد موجودًا، ليس بسبب حرب لبنان، بل بسبب الحروب العربية الأخرى. وأيضًا للسبب التقني وهو تشتت دور النشر العربية، لا يوجد مكان مركزي، لم نعد نستطيع أن نقول: القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. فاللبنانيون في بيروت باتوا يقرأون ما يصدر في لبنان، وهذا ينطبق برأيي على معظم البلاد العربية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.