}

نوري الجرّاح: الشعر التعبير الأكثر بلاغة عن الكرامة الإنسانية

دارين حوماني دارين حوماني 13 يونيو 2023
تمتد تجربة الشاعر نوري الجرّاح لأكثر من أربعين عامًا منذ العام 1982 حين انطلق شعريًا في بيروت مع "الصبيّ"، بعد أن غادر موطنه سورية إلى بيروت في موقف أصلي من الوجع السوري منذ بداياته، ثم هاجر إلى لندن عام 1986. ومن هناك استمرت تجربته الشعرية على نفس الخط الحداثي، يعيد فيها الاعتبار إلى مآسي بلاده وخارجًا عن النسق الشعري السائد باختبار أقصى درجات الدلالات والصور واستنفار الأصوات المتعددة، للوصول إلى مشروع شعري يجدّد معنى الشعر في تحريك للروايات الملحمية التاريخية وربطها بالحاضر، لنقع مؤخرًا على الديوان الشعري الثاني عشر له بعنوان "الأفعوان الحجري: مرثية بَرْعتا التدمري لمحبوبته ريجينا" (منشورات المتوسط، 2023)، وكأن نوري الجرّاح يشعر بمسؤولية مع مرور الزمن بأن لا تسقط القصيدة بل أن تكبر وتتوسّع مع توسّع الألم انطلاقًا من القيامة السورية وامتدادًا لكل الأوجاع الإنسانية على سطح هذه الأرض، وهو بهذا المعنى شاعر إنساني يضع في الشعر كل ما يمليه عليه وعيه العميق بالتاريخ وبالحاضر وبالإنسان.

يقول الجرّاح في أحد حواراته: "لعقود مضت كانت قصيدتي صوت شخص واحد، والآن هي مدينة أصوات في عالم تهدمت فيه المدن وتشرّدت الأمم على الهواء مباشرة، تحت سمع وبصر عالم مخطوف العقل ومعطوب القلب، وميت الضمير"، ولهذه الأسباب يأتي فوز نوري الجرّاح مؤخرًا بجائزة ماكس جاكوب Max Jacob في فرنسا كأنه تكريم له على أصواته المتفرّدة والمتميّزة في الخريطة الشعرية العالمية والإنسانية. وجائزة ماكس جاكوب هي من أرفع الجوائز الشعرية التي تُمنح في فرنسا منذ عام 1951، فاز فيها من قبل أسماء شعرية مهمة على غرار آلن بوسكيه وجاك ريدا وجان كلودر رينار، وحاز الجرّاح على هذه الجائزة عن الأنطولوجيا الشعرية "ابتسامة النائم" Le Sourire du Dormeur الصادرة عن دار آكت/ سود في فرنسا، وهي نتاج قصائد اختارها بعناية وكتبها بين الأعوام 1988 و2019، وكانت قد نُشرت في عدد من المجموعات الشعرية، ونقلها إلى الفرنسية المترجم الفرنسي أنطوان جوكي. وكانت أعماله قد تُرجمت إلى العديد من اللغات، مثل الإسبانية، والفارسية، واليونانية، والتركية، والإيطالية، والإنكليزية، والفرنسية، وحظيت بدراسات نقدية عديدة.

ونوري الجرّاح صاحب مشروع صحافي ثقافي وليس فقط صاحب مشروع شعري، فهو موجود في الصحافة الثقافية بموازاة الشعر منذ الثمانينيات، فقد شارك في تأسيس مجلة "الناقد" مع أنسي الحاج ورياض الريس وزكريا تامر، وأسّس مجلة "الكاتبة" وترأس تحريرها، كما ترّأس تحرير عدد من المنابر الثقافية، وهو حاليًا رئيس تحرير مجلة "الجديد" الشهرية اللندنية. ويشرف الجرّاح على "المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق"، و"جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي"، كما كتب قصصًا للأطفال وحاز على "جائزة الدولة لأدب الأطفال" في قطر عام 2008 عن كتابه "كتاب الوسادة/ للأطفال من 7 إلى 77 سنة"، ومن أبرز ما جاء في بيان هذه الجائزة، وهو ما يشبه نوري الجرّاح تمامًا بكل إنتاجاته الشعرية والصحافية: "هي نصوص تكسر قاعدة الجمود وتحرّر العقل الإنساني لمزيد من البحث والمعرفة، وهي قصص إبداع تحرّض على حرية الخيال بدلًا من الخنوع والتلقي".

عن جائزة ماكس جاكوب، وعن نوري الجرّاح الإنسان والشاعر كان لنا معه هذا الحوار:
  

الجائزة تكريم لابتكارية الشعر

(*) نبدأ من فوزك مؤخرًا بجائزة ماكس جاكوب في فرنسا، وهي من أرفع الجوائز الشعرية التي تمنح في فرنسا منذ عام 1951 وفاز فيها من قبل أسماء شعرية مهمة على غرار آلن بوسكيه وجاك ريدا وجان كلودر رينار، ما الذي تضيفه لنا هذه الجوائز القادمة من الغرب؟ وهل هي اعتراف مستحق لك تأخّر عربيًا؟ 

فلأعترف بداية أنني فوجئت باختياري لهذه الجائزة، فهي ليست من نوع الجوائز التي يرشّح الشعراء أنفسهم إليها. لها لجنة من النقاد والشعراء هي التي تختار الشاعر. بصدد ما يشير إليه السؤال دعيني أقول إن المنجزات والآثار الشعرية العربية الحديثة لم تحظَ إلى اليوم بالتكريم العربي الذي تستحقه، والأسباب كثيرة، منها أنها لم تحَط أولًا بالاهتمام النقدي والفكري الذي يضيء عليها، ولا حتى بالقراءة التي تستحقها أو تليق بها. وهي على الرغم من كونها شعرية مترامية الأطراف وتشمل جغرافيات واسعة مشرقًا ومغربًا، وينخرط فيها عدد كبير من الشعراء، وعرفت تجارب لامعة وأخرى لافتة على مدار عقود، يمكن القول إنها، حتى مع أفضل أصواتها وتجاربها، تبدو شعرية غائبة أو هي مرجأة الحضور في الذائقة العامة، وتعاني من النكران من جانب المؤسسات الثقافية العربية الفاعلة. وهو ما تسبّب في شيوع مزاج عام متشائم ساد في أوساط الشعراء وحتّم على كثرتهم أن تنغمس في الكتابة من دون الخوض كثيرًا في سؤال القراءة، وأحيانًا في استغناء تام عن طرح هذا السؤال، فما بالك في التفكير بنيل جائزة! وفي مراتٍ قاد هذا الوضع الكئيب شعراء إلى الصمت يأسًا من جدوى الكتابة. وليس بلا دلالة شيوع جملة "أنا اكتب لنفسي!" والتي طالما رددها الشعراء العرب، حتى عندما كان شعرهم ينزع إلى مخاطبة العالم.

وعلى رغم ما في الشعر من قدرة على الغواية، وما يمكن أن يشيعه من جمال، ينظر إلى الشاعر العربي اليوم من قبل مجتمعه على أنه الوحيد المؤمن بقضيته. فهو يكتب شعره في عماء قرائي، ويحمل قصيدته كما يحمل سيزيف صخرته ملزمًا بها كقدر، في دورة غالبًا ما بدت للآخرين ضربًا من العبث. هو مرة سيزيف، ومرة سارق نار، وأحيانًا كاميكاز ياباني.

وبخلاصة، على طريقة عبد الرحمن الكواكبي، أقول إن الشعراء العرب أشبه بأيتام لا يريدهم أحد. أيتام أغنياء يملكون لآلئ لم تقع عليها عين ولم تفركها يد بعد.

قد يبدو هذا الكلام متطرفًا، والآن: هل يمكن، رغم كثرة الجوائز، تقديم تفسير آخر لعدم وجود جائزة عربية للشعر الحديث، تليق بقيمته، في ثقافة عربية يشكل الشعر أحد مصادر قوتها، بل وجوهرها العميق؟

أعتبر الجائزة تكريمًا لابتكارية الشعر، ومن ثم للمعنى الذي تنزع قصيدتي للتعبير عنه، وكذلك للترجمة البارعة التي قام بها أنطوان جوكي في "ابتسامة النائم" ولمترجمين آخرين زوّدوا المكتبة الفرنسية بعدد ممتاز من الترجمات لشعري على مدار 20 عامًا، لا سيما منهم: رانية سمارة، فينوس خوري غاتا، صالح دياب، خالد النجار، وأيمن حسن الذي كان له دور أكبر في ترجمة شعري، فقد قدّم لوحده ترجمة لأربعة أعمال شعرية لي اعتبرت من قبل القراء ترجمات بارعة. قبل أن يقدّم أنطوان جوكي ترجمته للمختارات المنشورة التي تشيرين إليها بتكليف من دار النشر أكت/ سود.

أعتبر شعري محظوظًا جدًا في الحضور بالفرنسية، لكن لا شيء عندي يوازي حضوره عربيًا. فأنا أولًا وأخيرًا شاعر سوري يكتب بالعربية. وعلى رغم ما أثاره توصيفي لنفسي بأنني "شاعر متوسطي يكتب بالعربية" لدى بعض منافقي القومجية، فإنني أعود للتأكيد على هذا المعنى، وبأنني من حواراتي مع شعراء من المتوسط واحتكاكي بهم أجد من أواصر القربى في الخيال الشعري والمرجعية الثقافية مع مشاطئي بلادي من اليونانيين والإيليريين، والإيطاليين والإسبان والبرتغال، ما لا أجده في الخيال العقيم للقومجيين العرب. أعتبر الانفتاح على ثقافات البحيرة، واستعادة الموقع الجمالي والفكري بين ثقافات المتوسط هو السبيل لكسر قوقعة الانتماء الضيق والخروج إلى فضاء الإنسانية الرحب عبر الهوية المتوسطية المفتوحة على العالم.

بالنسبة لي تشكل ثقافتي المتوسطية بما في ذلك منظومة الأساطير والأديان والسرديات الملحمية المصادر التي ينهل منها ويتشاكل معها شعري. وهو ما يمكن ملاحظته ليس فقط في قصائد دواويني "قارب على ليسبوس" و"لا حرب في طروادة" و"يأس نوح" و"يوم قابيل والأيام السبعة"، و"مراثي هابيل"، وأخيرًا الأفعوان الحجري"، ولكن حتى في قصائد دواويني المبكرة لا سيما "طريق دمشق".

خلال حفل تسليم جائزة ماكس جاكوب


(*) نلتَ الجائزة عن مختارات لك بعنوان "ابتسامة النائم" وهي قصيدة من ديوانك "طريق دمشق"، إلى ماذا يشير عنوان "ابتسامة النائم" ولماذا أحببتَ أن تختاره عنوانًا لربع قرن من أعمالك بكل ما شهده طريقك في الشعر من تحوّلات؟

"ابتسامة النائم" عنوان مطولة شعرية تشكل ركنًا أساسيًا في كتابي "طريق دمشق" الصادر في مطلع الألفية الثالثة. بنية هذه القصيدة وفنياتها تعكس قلقًا جماليًا وتعبيريًا بمكن أن يشكّل مفتاحًا سريًا لشعري في السنوات اللاحقة. القصيدة في بنيتها الأشبه بالعمل السيمفوني، تحتوي على أصوات متعددة تشكّل معًا علامات ونغمات ولهجات وميولًا وأقنعة في صيغة أقرب إلى المونولوغ الدرامي، في رحلة المهاجر المنفي، واسمحي لي بهذه المقاربة: "المهاجر الأوديسي" حيث تنهدم الجدران بين الأزمنة وتنفتح المغامرة الشعرية على جغرافيات طوّرتها المخيّلة لتنظم المشاعر والتصورات والرغبات والاستذكارات في ما يشبه رحلة العودة الفاشلة أو العودة المرجأة أو العودة المستحيلة للمنفي بعيدًا عن مسقط الرأس. تأتي الأمكنة بمناظرها المطبوعة بالوهم، والأوقات بوقائعها الكابوسية والحالات بألوان الشعور بميل ميلانخولي، والاسترجاعات الطفولية بالصور المتدفقة تدفق النهر في الطبيعة، وهياج عاصفة في البحر، يأتي كل هذا في "ابتسامة النائم" ليؤسس الجغرافيا الحلمية البديلة من الجغرافيا المستحيلة لشاعر يقف وقصيدته في مكان يكاد يكون خارج كل مكان. فقصيدته معلّقة بين أرض زائغة وسماء بلا نهاية.

"ابتسامة النائم" القصيدة تلك، عمل مفتاحي في شعري، سوف يتطور جانب من فنيّته لاحقًا في كتابي "قارب إلى ليسبوس" خصوصًا في تعدّد الأصوات وهو ما يقرّب الشعر من المسرح ومن أناشيد المعبد أيضًا أو فكرة الجوقة والصوت، ولكن الجوقة في شعري تتفرّق أصواتًا، وتوزّع نفسها على مساحة القصيدة. يمكن أن تجدي استثمارًا أوسع لفنيات هذه القصيدة وطريقة عمل الصوت في القصيدة في مطوّلتي "يأس نوح" و"مراثي هابيل"، وكذا في "الملهاة الدمشقية". وهي من الأعمال التي ظهرت خلال السنوات العشر المنصرمة التي رافقت التراجيديا السورية.

(*) أهديت جائزتك لطفلين، "طفل فلسطيني أقام الاحتلال كيانه الملفق في غرفة نومه وعلى أنقاض كيانه الطفولي وشرّده في أربع جهات الأرض، وطفل سوري حطم الطغيان عالمه وأرسله ليسكن القبور والمعتقلات وخيام العالم"، هذا التذكير بـ"الاحتلال" وبالفلسطيني اللاجئ أمام منبر عالمي يتهم هذه الأصوات بمعاداة السامية، ألا يخيف المثقف العربي أحيانًا؟

هذا ممكن. الخائفون يخافون في كل وقت يا عزيزتي، حتى عندما يحاولون أن يراوغوا الحقيقة ليقدّموا أنفسهم للعالم بوصفهم شجعانًا. إنما الشاعر في نظري هو المقاتل الأول في خندق الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية. ولا مكان للشاعر في التاريخ خارج هذا المعنى. وعندما ينكص أو يتراجع عن هذا الدور أو يراوغه، إذ ذاك لا تعود لقصيدته القيمة التي لها، تتفتح القصيدة أو تذبل في تربة الموقف. أعظم القصائد في التاريخ هي تلك التي ارتبطت بموقف الشاعر من عصره، وشجاعته في المواجهة الخلاقة، مواجهة السائد من نظم وعادات، ومواجهة الطغيان. بخلاف ذلك يفقد الشعر قوته وألقه ويتحول إلى مهنة فاترة قد تروّج في أزمنة يسودها الخلل الأخلاقي وماكنة العلاقات العامة للشاعر، الذي تحوّل إلى مهني يدير ماضيًا شعريًا لم يبق منه سوى هيكل عظمي بائس، وشاعره طوطم، الكل يردد اسمه ولا أحد يقرأ قصيدته. ويا له من مصير مؤلم!

في مجتمع الشعراء العرب بات لدينا مثال فاقع على هذا النموذج البائس من الشعراء الذين أتخموا شعرهم بالكلمات الكبيرة عن الحداثة والحرية ومناوأة الدين، ولم يصدر شعرهم إلا عن ضرب آخر من التديّن الظلامي المتحدّر من أزمنة غابرة للتطيّف والتحزّب الأيديولوجي وقد تقنع بأزياء الحداثة.

من حسن الحظ أن الشعر العربي الجديد، شعر الشعراء الشباب على كامل رقعة الثقافة العربية، ما خلا بعض التائهين، قد تكشفت له الصورة، وبات على يقين من أن الشعر لا يأتي من الماضي المأزوم، ولا يصلح أن يكون سلاحًا للانتقام الأيديولوجي، أو لانقلاب هامش على متن. ومن خلال شعرهم يتكشف لنا أن الشاعر باتت له صورة مواطن في مدينة بعربات وقطار وحوانيت ومراكز للبريد، وحدائق وشبكة للطرق الحديثة وميناء ومطار. لا مكان في قصائدهم ولا في مخيلاتهم للشاعر بوصفه راكب استعارة على هيئة ناقة. لا مكان لمثل هذه الفكاهة! وأكثر من ذلك، لم يعد الشعر غرضًا، أو ساحة لتصفية الحسابات الأيديولوجية، هذه أصبحت موضة بالية. ولا حياة لقصيدة تريد من نفسها أن تكون فأسًا تهوي على الأعداء. فكرة الشعر هي المعادل الأكثر كثافة لفكرة لحب، حب الوجود، وحب الإنسان. والشغف بالجمال، ولا بد أن يكون الشعر التعبير الأكثر بلاغة عن الكرامة الإنسانية، عندما تهدر هذه الكرامة.

الشاعر لا يحتقر الجموع كنخبوي متعال، ولا يكتب لها لترضى عنه، ويتحوّل إلى شعبوي. يكتب الشاعر في العالم بوصفه صوت الأمنية، العين الساهرة في ليل العالم، والشاعر هو بستاني الحديقة وحارسها في مواجهة أسواق القبح ووحوش الطغيان.

اخترت إهداء الجائزة لهذين الطفلين لأنهما من بين أطفال الأرض الأكثر يتمًا اليوم، وعذابًا وتخليًا عنهما من قبل العالم، ولأنهما بكل ما تمثله الطفولة في ظل ظلام الحاضر من جمال وطاقة ووعد بالغد، يمثلان لي ضوء المستقبل.


سورية التي كنتم تعرفونها لم تعد موجودة!

(*) تصف السلطة في سورية في كلمتك بالطغيان، وكنت قد رفضت في وقت سابق طلبًا بالمشاركة في احتفالية "دمشق عاصمة الثقافة العربية"، في عودة الاعتبار والعلاقات العربية مع النظام في سورية، هل تعود إلى سورية؟ وهل يسامح السوريون من شارك في تشريدهم؟

هل هناك اثنان يختلفان في حقيقة أن من يحكم جغرافية سورية اليوم هم المحتلون الروس والإيرانيون والأتراك والإسرائيليون والأميركان وعصابات التديّن الشيعي من باكستانيين ولبابنة وطاجكيين وعراقيين وغيرهم؟... فما الذي تُرك من السلطة للمختار الجالس في قصر المهاجرين بحراسة مشددة متفق عليها من قبل كل هؤلاء الأعداء؟ وبالتالي ما الذي يمكن أن يجنيه من أرباح أولئك الذين يقدمون أنفسهم اليوم بوصفهم حريصين على مستقبل الكيان السوري، (إن صدقت النوايا)، أو غيرهم من الطامعين بالمنجم السوري، (ولم يعد هذا المنجم يستخرج سوى الكبتاغون؟!). يؤسفني أن أقول، لمن يريد أن يسمع، إن سورية التي كنتم تعرفونها لم تعد موجودة. ما هو موجود اليوم هو سورية المحطمة المزرية التي تريد الجماعة الفارسية إعادتها إلى القرن الهجري الأول. سورية المنهوبة من الجميع، الجغرافيا التي أكلها حريقان: حريق الطغيان وحريق الاحتلالات، وأهلها بين قتيل وأسير ومفقود، وبين لاجئ في خيام العالم. قلت وأقول إن السوريين هم طرواديو العصر، والفصول الأخيرة من التراجيديا السورية تفيدنا بأن الهاربين في قوارب الموت في المتوسط الباحثين عن شواطئ تستقبلهم ومغاور يلوذون بها، لم يعودوا الضحايا وحدهم، فاليأس من قيامة الكيان السوري وضع الضحية والسكين في مركب واحد. في خيام اللجوء حول العالم اليوم يتجاور القتيل والقاتل. الجميع يفر من سورية اليوم، وهذا لم يحدث إلا في عصور المآسي الكبرى المشبعة بالأساطير.

على خلفية هذه الصورة، لم يعد أمام السوريين الذين انتهكوا واستعملوا إن من قبل عصابات آل الأسد أو من قبل الاحتلالات الأخرى وقوى الأمر الواقع، لم يعد أمامهم سوى بناء لغة تخاطب جديدة في ما بينهم، لغة تقوم على فكرة التسامح. ما أدعو إليه ليس ترفًا فكريًا، ولكنه ضرورة إنسانية. وهذا التسامح لا يمكن أن يصبح واقعيًا من دون سياق حقوقي متفق عليه في إطار جرى التعارف عليه بمصطلح "العدالة الانتقالية"، وهو، بالمناسبة، لا يشمل، على الإطلاق، الرؤوس الكبيرة التي أمرت بالاعتقال والقتل والتشريد وتدمير الكيان السوري، من سلطة رسمية، أو سلط أمر واقع تأسست بفعل الاحتلالات، أو برعاية منها. فهذه يجب أن تحاكم ولا عدالة للضحايا، ولا مستقبل لسورية من دون محاكمة هؤلاء ومعاقبتهم.

موضوع دمشق عاصمة للثقافة العربية في سنة 2008، حكاية تجاوزتها الأحداث، وللتاريخ فقط مررت عليها في إحدى افتتاحيات مجلة "الجديد". موقفي الذي رأى يومها عدم كفاءة المدينة لمثل هذا الدور لم يكن فرديًا، بل اتخذ في سياق ثقافي لبعض الكتّاب والمثقفين السوريين المقيمين في أوروبا، على اختلاف مرجعياتهم الثقافية وتوجهاتهم الفكرية، كصبحي حديدي وفاروق مردم بك وفايز ملص ورفيق شامي وسليم بركات وغيرهم. ارتأينا يومها في بيان ثقافي أن مدينة يقبع في سجونها كتاب ومثقفون لا يحق لها أن تكون عاصمة للثقافة. واشترطنا إطلاق سراح الكتاب وسجناء الرأي الفكري، لتستحق دمشق هذه الصفة. البيان المشار إليه لم ينطلق من موقف سياسي، ولكن من موقف أخلاقي.

مسألة العودة إلى سورية باتت أكثر تعقيدًا من ذي قبل عندما كنا نقاوم بالقلم والقصيدة سلطة جعلت من سورية معتقلًا كبيرًا، أما وقد باتت سورية بلدًا تمزقه الاحتلالات، والنظام القائم عبارة عن ميليشيا أخرى، فلا بد أولًا أن نستعيد سورية من هذه الاحتلالات الأجنبية، بما فيها احتلال عائلة الأسد للبلد الذي أحرقه شعار "الأسد أو نحرق البلد".

رسالتي إلى السوريين موجودة في كتابي "قارب إلى ليسبوس": "اهجروا الأرض تلك ولا تموتوا"، "موتوا في المجاز ولا تموتوا في الحقيقة"، "ليس للتراب ذاكرة سوى الصمت".

(*) أصدرت في بداية هذا العام ديوان "الأفعوان الحجري"، وهو قصيدة ملحمية عن ثنائية الحب/ الحرب ضمن ثنائية أخرى هي الشرق/ الغرب ما يحيلنا إلى كتاب مشغول بقوة الشعر المتأتية من خبرتك العميقة، كما يتضمن الديوان إشارات توضيحية ما يحيلنا أيضًا إلى كتاب معرفي متفرّد، هل يقصد الكتاب ربط الماضي بالحاضر والشرق بالغرب، من خلال عدد من المآسي المستمرة ومنها ما تقوله في نصك: "أَنْتَ يَا مَنْ تَقِفُ لِتَقْرأَ كَلِمَاتِيَ المُرْتَجِفَةِ مِنَ البَرْدِ؛ هَلْ وصَلْتَ إِلى هُنَا، مِثْلِي، عِلَى مَرْكَبٍ مِنْ خَشَبِ الْأَرْزِ المَجْلُوبِ مِنْ جِبَالِ نُوْمِيدْيَا، أم عَلَى طَوْفٍ أَلْقَتْ بِهِ سَفِيْنَةٌ قُرْبَ شاطئٍ فِي بَحْرِ الشَّمَالِ"؟

في جانب منه، نعم، وهو أكثر من ذلك حقًا. ربما يحتاج إلى قراءة من شخص آخر غيري، غير شاعره، كتبت عنه بعض المقالات الانطباعية وغيرها نقدية. الحقيقة إنه كتاب شعري ومعرفي مركّب ولا يمكنني الخوض في الحديث عنه من دون أن أسهب، ولا يمكن اختصار الحديث عنه في حوار. قصائده كما أشرت تهدم الجدران الوهمية بين الأزمنة لتقيم زمن الشعر. من خلال مرثية حب بين شرقي وغربية وقعت قبل ألفي عام في جوار سور هادريان في الجزيرة البريطانية. إنه في جانب منه كتاب شعري ملحمي يقوم على قصيدة مطولة هي بمثابة مرثية من سوري تدمري لحبيبته المتوفاة صغيرة، وكان هذا الفتى واسمه برعتا أي ابن الإلاهة السورية أترعتا آلهة العدالة والحب والذي سبق له أن حرر البنت من العبودية قبل أن يقع في حبها ويتزوجها، إلى جانب عدد من القصائد القصار ذات الطابع السردي التي تدور في فلك المطولة، وتتفرع منها معًا. يشير هذا العمل إلى أن النقاء العرقي لم يكن واردًا في أي حقبة من تاريخ البشرية وأن الأقوام والأعراق تمازجت في ما بينها عن طريق الحركة والهجرة. يمكنك القول إنه شعر يتصادى فلسفيًا مع أطروحات الخطابات الأدبية ما بعد الكولونيالية. الكتاب فيه الكثير مما يجدر الحديث فيه وأنا أعتبره اليوم قي قمة أعمالي الشعرية. لكنني أكتفي بهذا العرض المخل بالضرورة. الأفضل أن أترك الأمر لغيري.

(*) عملتَ في الصحافة الثقافية في بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت لم تغادر الصحافة الثقافية. حاليًا من خلال عملك كرئيس تحرير لمجلة "الجديد"، كيف ترى مسيرة الثقافة العربية، هل يعاني حاضرها من أزمة في الثقافة العربية وفي الشعرية العربية الحديثة؟

تاريخ الصحافة العربية مرتبط بتاريخ الثقافة العربية المعاصرة هو تاريخ موصول بالأزمات وقضايا الاستعمار والنكبات والانقلابات العسكرية والتطور غير المتكافئ في مناخ من الفوات الحضاري، وهو ما أكسب الأدب والفن ملامح من الرومانس الحزين والكآبة الوجودية والفجائعية في التعبيرغالبًا. أدبنا وفننا لا يعرف الابتسامة، يمكن أن تظهر عليه ملامح تهريج أحيانًا من باب الهروب من الألم، وهذا كله ضرب من الانفعال الثقافي، وهو ما ينتج في النهاية ثقافة منفعلة لا فاعلة.

الثقافات لا تنهض وتتطور وتشع على العصر، وتصبح جزءًا من الحضارة إلا إذا كانت فاعلة. ذات يوم كان للثقافة العربية شأن، أولًا لأن العلم تكلّم بالعربية، وثانيًا لأنها صدرت عن أمة ناهضة في حالة رواج وسيطرة وتحكم في العالم، وقد تعدّدت مصادر تطور لغتها وآدابها وعلومها بفعل انتشار العرب على رقعة غطّت قارات العالم الثلاث.

الأمور مختلفة اليوم، وما ينطبق على منحى ينطبق على غيره، ومن ذلك الصحافة الثقافية، كان لها بعض الرواج، ولكنها قدّمت لنا وجبات أدبية وخواطر وأفكار ورؤى نكتشف اليوم كم إنها كانت مشدوهة أو يقينية تياهة بنفسها ووهمية. 

أقول هذا في ضوء ما جرى في العقد الأخير، وقد جرى نهرًا يعد بالخضرة اليانعة والأزهار وأسموه "الربيع العربي" تحوّل إلى أنهار من الدماء، وحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة للهاربين بأرواحهم من بطش الطغاة.




للشعر الحديث علاقة وثيقة بالتشكيل

والموسيقى والمسرح

(*) قصيدتك "الخروج من شرق المتوسط" كانت موضوعًا لمعرض تشكيلي للرسام السوري أسعد فرزات في العاصمة الفرنسية العام الفائت حيث رسم فرزات العديد من اللوحات انطلاقًا من قصيدتك التي تكتب مأساة السوريين. هذا التزاوج الروحي بين القصيدة واللوحة هل يؤكد على المعنى في كليهما وعلى رسالة الشعر والفن معًا؟

بلا شك، فالإبداع بداهة ليس جزرًا منعزلة، إنه منظومة جمالية متصلة ومتعددة الأوجه، وللشعر، لا سيما الحديث، علاقة وثيقة بالتشكيل والموسيقى والمسرح. هناك تاريخ جمالي وتعبير مشترك لديه تجليات رائعة في التاريخ الثقافي المعاصر في العالم. ربما يكون تأخر قليلا عربيًا، ولكنه قائم إلى حد ما وهناك أمثلة جيدة رغم ندرتها.

ما قام به فرزات كان بحق عملًا تشكيليًا بارعًا في تقنيات مبتكرة. لوحاته شكلت ترجمة وإضافة بصرية لما اعتمل في دواخله بينما هو ينوس بين واقع القصيدة وواقع الفاجعة السورية. وقد أسعدني بحق عمله المبدع، ولربما كان أهم ما أنجزه الفنان في حواره مع القصيدة أنه لم يقدم تعليقًا تشكيليًا على الشعر كما فعل مثلًا ضياء العزاوي في لوحاته ذات الصلة بالشعر، ولكنه قام بقفزة جريئة ليخلق لوحته المبتكرة بلغته الخاصة، من دون أن تكون هذه اللوحة أسيرة القصيدة.

(*) ولدت في دمشق وعشت في بيروت وأصدرت فيها كتابك الشعري الأول "الصبي" عام 1982، ماذا تتذكر من دمشق وبيروت، وما الذي فقدته هاتان المدينتان؟

بيروت التي عرفتها لم تعد موجودة كما هي الحال بالنسبة إلى دمشق التي ولدت فيها ونشأت. الإيرانيون الفرس الحاقدون عنصريًا على العرب بكل ما يمثلونه حضاريًا، وطائفيًا على الأغلبية الدمشقية والبيروتية الساكنة، احتلوا المدينتين والآن يشتغلون بدأب عنصري لافت على تدميرهما إلى جانب بقية المدن وإحلال ساكنة بهويات أخرى.

في دمشق يعملون اليوم على تغيير الوجه الحضاري للمدينة وهو وجه لا يطيقون النظر إليه، ولا يستطيعون أن يرونه إلا أمويًا. إنهم جماعة عنصرية حاقدة ومتوحشة خرجت من كهوف الماضي وهي لا ترى في الحاضر إلا ما تريد أن ترى. وما تراه هو صورة مركبة من وهم مرضي مزمن عن ماض "كان ينبغي أن يكون". إنهم أبالسة المستحيل.

ما الذي أتذكره من دمشق؟ الأنسب بالنسبة لي أن يكون السؤال: ما الذي يمكن أن أنساه مما تشبعت به وشكّل كياني من مدينة طفولتي؟ إنها جرحي الأنطولوجي، والندبة التي في جبيني المهاجر.

وهي كما لطالما نظرت إليها مدينة أبدية، مدينة خالدة، خالقة أديان وثقافات وتجارات وحوار حضاري، إنها بتعبير ميكائيل زويمر في كتابه "سورية عالم مدمر" رأس الجسر الذي صنع العولمة الأولى في العالم الروماني لموقعها الجغرافي على مفترق ثلاث قارات. دمشق مرت بها جحافل الغزاة من جيوش الإسكندر وحتى جيوش التتار، اندثروا وبقيت.

(*) إضافة مدينة إلى إقامة الشاعر في هذا العالم لتكون وطنًا نهائيًا له تقدّم الكثير له، فماذا قدّمت لك لندن التي تعيش فيها منذ عام 1986؟

لندن مدينة عظيمة، أوسع مكان للتنوع الثقافي والاحتفاء بالاختلاف هو لندن، مدينة للابتكار والإبداع واحترام الآخر. قدّمت لي لندن كل شيء افتقدته في دمشق، باستثناء خفقة القلب الأولى، والرعشة التي تسري في الجسد كلما سمعت صوتًا يردد ذلك الاسم، دمشق. دمشق لي هي المدينة التي كلما لاحت لها في الذاكرة صورة حملت معها إلى الحواس موجة من الألم.

كتبت في لندن جلّ شعري، ولمن يغوص في الشعر، سوف يعثر في كل قصيدة لي عن أثر منها أو ملمح من ملامحها المؤسسة لفكرة المنفى وقد صار وطنًا للكوابيس والأسئلة.

(*) من خلال تواجدك في لندن ومتابعتك للصحافة الثقافية الإنكليزية، هل ثمة تجديد في شكل القصيدة أو عودة إلى الشكل الكلاسيكي للقصيدة؟

الحديث عن الشعر المكتوب بالإنكليزية يحتاج إلى عناية خاصة، لغة وأشكالًا وموضوعات واهتمامات. إنما يمكن القول إن الهوس بالشكل والنقاش الخلافي حول الشكل كما هو في الثقافة العربية ولدى مجتمعات الشعر العربي غير موجود. ليس ثمة خنادق فكرية تبلغ بالنقاش حول الشعر أرض الأيديولوجيا. لا حرب بين شعراء يكتبون قصيدة النثر وشعراء يتبعون أنماطًا تقليدية أو شبه تقليدية في الكتابة الشعرية. بل يمكن القول إن الشعر الإنكليزي ليس مهووسًا بما يسمى "قصيدة النثر". القصيدة موجودة ولها شعراؤها، والأشكال الأخرى موجودة ولها شعراؤها.  ولا توجد حرب أيديولوجية في الشعر وبين الشعراء. آخر مرة كان النقاش حول قصيدة النثر حادًا في الشعر الإنكليزي كان في زمن ت. إس اليوت، الذي تجنّب أن يقيم لها اعتبارًا يساعد على رواجها. بل ربما سدّد لها بعض الضربات النجلاء، لكونه كان ناقدًا كبيرًا إلى جانب كونه شاعرًا عظيمًا. في كل الأحوال لست أفضل من يمكن أن يقدّم تصورًا دقيقًا في هذه المسالة. لكنني أستطيع أن أقول إن الشعر الإنكليزي أقل مغامرة على صعيد الشكل من الشعر الأميركي مثلًا الذي عرف تيارات مؤثرة أبرزها حتى اليوم تجربة شعراء البت جينريشن Beat Generation كألن غينسبيرغ وجاك كيرواك وفرنلغيتي وآخرين ممن طوروا لغة الشعر ونزلوا بها إلى حمأة الشارع.

بالمقابل التجربة البريطانية عرفت في النصف الثاني من القرن الماضي ثلاثة شعراء عملوا ما يشبه الحركة انطلاقًا من مدينتهم وأطلق عليهم النقد الأدبي "شعراء ليفربول"، وقد ترجم لهم الناقد خلدون الشمعة وأصدر مؤخرًا نماذج من شعرهم في كتاب تحت عنوان "شعرية الحقيقة"، ورأى أنهم يتشابهون في خصائص شعرهم اليومي إلى حد كبير، ويمكن أن يعتبر شعرهم نموذجًا يحمل أبرز ملامح المشهد الشعري في بريطانيا حتى نهاية السبعينيات، كما رأى، والثلاثة هؤلاء هم: أدريان هنري، برايان باتن، و روجرماغاو. ويمكن اعتبار شعرهم في تماس مع الشارع وحركات التجديد في التشكيل والغناء والتصوير والسينما. هذا ما يمكن قوله في اختصار.

(*) منذ "الصبي" استقر نوري الجرّاح على شكل قصيدة النثر ولأربعين عامًا، وهو الشكل المستقى من التيارات الشعرية الغربية، هل تنضج القصيدة برأيك وتتطور أم أن هناك شعراء كتبوا في سنواتهم الأولى شعرًا أفضل مما كتبوه في سنواتهم اللاحقة، وكيف تشبّه قصيدتك؟

كيف لي أن أصف قصيدتي؟ ما من شاعر يستطيع أن يفعل ذلك، ما دامت قصيدته أبعد من أن تكون تعليقًا على حدث، أو إنشاء لغويًا يريد أن يكون بلاغة. الشاعر يكتب قصيدته كمن يقف أمام مرآة ليتعرّف على نفسه. في كل وقفة للشاعر أمام تلك المرآة يزداد ضياعًا. كل قصيدة للشاعر هي سؤال جديد، يزج به في علاقة مع اللغة تنفتح به على كل الاحتمالات، بما في ذلك بلوغ المتاهة، إذ ذاك تتحول الكتابة إلى لعبة خطرة، في مغامرة للمخيلة مع اللغة والشعور تنشد البحث عن مخرج. بعد كل قصيدة يكتشف الشاعر أنه يجهل ما يكمن في أعماقه ووراء لغز ما يرى، وهو إذ يطاوع جموح مخيلته ويمضي بلا علامات يمكن أن يترسمها على طريق العودة من غابة الحواس والخيالات إنما يتورط أبعد فأبعد في غوص ينشد أقصى الجمال الكامن في الما وراء، في ما يحدس أنه سيعثر على النعمة الكبرى، القصيدة التي لم تكتب من قبل. حيث ثمة في بعد ما من تلك الغابة كائنات تجيبه عن سؤال المعنى، مغزى الوجود. كل قصيدة جديدة للشاعر هي مختبر للمشاعر والرغبات والخيالات والتصورات يبلغ بها الشاعر جهة لم تطرق من غابة الشعر بحثًا عن تلك الصورة المستحيلة لوجود عصيّ على القراءة: ما الذي نريده من وجودنا الفاني؟ وجودنا المهدّد بوحوش الفناء، ما الذي نتطلّع إليه في كوكبنا الجميل المعذب؟ كيف نتغلب على تلك القوى الهائلة المعادية للإنسان، وما الذي يمكن أن يكون له معنى أسمى إزاء وجود هش وعرضة للتمزق. المشكلة الأكثر تعقيدًا أن الشعر سؤال لا ينتظر جوابًا، سؤال وجودي يصوغ عالمًا مجازيًا بإزاء وجود واقعي فظ ومؤقت ولا أمل معه في التغلب على عبث الوجود...

أما شكل القصيدة، واسمها، وما اتفق عليه الشعراء من ذلك وما اختلفوا، فهذه أمور لم تعد تشغلني بمقدار ما تشغلني اللغة التي سأكتب بها قصيدتي المقبلة، اللغة التي تمكنني من خوض مغامرة ممتعة مع الكلمات ليمكنني من أن أعود أخيرًا بتلك الهبة الرائعة التي اسمها القصيدة. قصيدة أسعد بها، ويمكن أن يسعد بها آخرون، وقد لا تعني لأحد ما يمكن أن تعنيه لي.

أما تقييم مغامرات الشعر العربي منذ مطالع القرن العشرين وحتى اليوم بما شاكلها وخالطها وأثر فيها من مغامرات الشرق والغرب، وما ارتبط به الكلام على الشعر من مصطلحات وأفكار تنتمي إلى شتى المرجعيات، فهو مهمة متروكة لمؤرخي الشعر.

(*) يقول الكاتب صبحي حديدي في مقدمة كتابك "يوم قابيل" إن مجازفتك تخص مسألة شائكة تحولت إلى ما يشبه "المحرّم" في قصيدة الحداثة العربية وقصيدة النثر المعاصرة، ويعني الكاتب موضوعة السياسة؛ هو الشعر بدوره الذي قال فيه الشاعر الإنكليزي ماثيو أرنولد "الشعر هو نقد الحياة"، هل لا يزال الشعر قادرًا على نقد السلطة السياسية، والحياة؟ 

في وجه من أوجهه يمكن للشعر أن يكون نقدًا لظواهر زمنه، من دون أن يتخلى عن موقعه في الجمال الفني. أما النقد الأشبه بالهجاء الذي شاع مع القصيدة السياسية العربية من مظفر النواب إلى أمل دنقل إلى نزار قباني، وهو في مرات كثيرة نقد مراوغ، انتقائي وسادي، وعشوائي وفي مرات كربلائي لا يشبع من جلد الذات، فهو يصلح أن يكون ترجمة رديئة لمقولة أرنولد. ربما حدث هذا لأن السياسي في العالم العربي على مدار قرن كامل صادر كل ما في الحياة العربية، وأحلّ نفسه بدلًا من الحياة وهو إذ جعل من السياسة كل شيء، أحالها في النهاية إلى لا شيء، ورّط الشعر في فهم خاطئ للأشياء، وورّط المجتمع باستبدال العقل بالعاطفة والفكر بالهجاء، فانفضّ الناس عن السياسة وانفضّوا عن الشعر، واستبدلوا الوعي بالحياة بغيبوبة الهروب إلى إنجاب الأطفال ومطاردة رغيف الخبز.

قصائد كتابي الذي تشيرين إليه حملت إلى تجربتي جديدًا، كان في جانب منه ثمرة إعادة نظر في لغتي الشعرية وموضوعات شعري، وبنية القصيدة، وتراكيبها الفنية، وزوايا النظر إلى الأشياء أيضًا التي كنت قد بلغتها في دواويني السابقة. وهذا حدث بفعل التحدّي الذي واجهته لغتي في مواجهة الانفجار الهائل الذي حمله الربيع العربي والثورة السورية على نحو خاص، والتي تحوّلت إلى تراجيديا دموية وجدت نفسي معها في حاجة إلى خوض مواجهة مع لغتي، ليمكنني أن أعبّر في القصيدة عن تلك التموجات الشعورية والفكرية الهائلة التي عصفت بي بينما هي تعصف بأهلي وبالكيان السوري على نحو وجودي.

على الشاعر أن يكتب قصيدة جيدة

(*) ماذا تقول للأجيال الشعرية الشابة من الذين يُتهمون بتشويه الشعر، وإلى الشعراء الشباب المتحمسين للترجمة إلى لغات عالمية أبرزها الفرنسية والإنكليزية؟ 

لست حكيمًا كفاية لتكون لديّ حكمة أوجهّها لأحد، وبما أنني أعتبر نفسي من الأجيال الجديدة، شعريًا على الأقل، فإنني أخاطب أصدقائي الشعراء وأخاطب نفسي معًا. لا تحلم يا صديقي أن تحمل اللغة الأخرى والثقافة الأخرى قصيدتك إلى ما هو أبعد مما يمكن للغتك وثقافتك أن تحمل هذه القصيدة إليه. الشاعر في أصله وفصله وفي لغته كائن عالمي. لا وجود للشاعر في العالم إن لم يكن كونيًا. نحن نعيش على سطح كوكب على شكل كرة، يعني حيثما كنا نحن في قلب العالم. بل إن كل واحد منا هو العالم بأسره. "العالمية" يا عزيزتي كما سادت في ثقافتنا فكرة قروية قديمة ابتلينا بها بفعل وعي مديني هش وأحيانًا زائف لدى جمهرة كبيرة من شعرائنا وأدبائنا العرب.

أهم ما يمكن أن يفعله شاعر هو أن يكتب قصيدة جيدة، أن يطوّر لغته، أن لا يركن إلى ما عُرف، أن لا يحوّل الشعر إلى عادة، أن يُبقي ذاته متأهبة لاستقبال ذلك العصف السري في الحواس، ونسمّيه حالة الشاعر، للمغامرة مع الكلمات بطريقة لم يعهدها من قبل، وأن لا يستقبل اللغة كمعطى جاهز، أن يلعب مع اللغة، ليمكنه أن يكتشف صيغًا لغوية جديدة لقصيدته الجديدة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.