}

إبراهيم عبد المجيد: تظل القصة القصيرة فنًّا عظيمًا

فيصل رشدي 7 أغسطس 2023
حوارات إبراهيم عبد المجيد: تظل القصة القصيرة فنًّا عظيمًا
إبراهيم عبد المجيد

أبدع إبراهيم عبد المجيد في كتابة القصة والرواية، وراج إبداعه خارج مصر في الوطن العربي. ولقي اهتمامًا كبيرًا من لدن قراء غربيين، بعد ترجمة روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية".
ولد عبد المجيد عام 1946 في مدينة الإسكندرية، وفي أحيائها تربى، وعرف قيمتها الثقافية من خلال الفن والمسرح والموسيقى، باعتبارها مدينة عالمية. حصل على الإجازة في الفلسفة، وتقلد عددًا من المناصب الثقافية.
من مؤلفاته: "لا أحد ينام في الإسكندرية"، و"طيور العنبر"، و"الإسكندرية في غيمة"، و"أداجيو". وله مجموعات قصصية، من بينها: "فضاءات"، و"سفن قديمة"، و"إغلاق النوافذ".
حصل عبد المجيد على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1996، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2007، وجائزة كتارا للرواية العربية عن الرواية المنشورة "أداجيو" عام 2015.
هنا، حوار معه:



(*) لكل كاتب مثل أعلى في الكتابة الإبداعية. فمن هو مثلك الأعلى؟

هذا سؤال متأخر جدًا الآن. أنا أكتب بحرية بعيدًا عن أي مثل أعلى. في بداياتي، ربما كنت أحب كتَّابًا. ما زلت أحب نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وكافكا، وألبير كامو، ودينو بوتزاتي، كما أحببت الملاحم اليونانية والعربية، وغيرها، لكن في النهاية أنا أكتب مستقلًا عن أي مثل أعلى.

(*) كتبت عن مدينتك الإسكندرية روايات عديدة. ما هي الأشياء التي تغيرت في الإسكندرية بين الماضي والحاضر؟
تغيرت الإسكندرية كثيرًا. لم أعد أسافر إلى الإسكندرية التي تشوهت، وحين سافرت العام الماضي بعد انقطاع طويل عدت لأكتب مقالات بعنوان "رسائل إلى لا أحد"، ناعيًا بعض ما جرى من تغير إلى الأسوأ. التغير بدأ منذ منتصف السبعينيات، حين بدأ ردم بحيرة مريوط في ظهير الإسكندرية الجنوبي. كانت الإسكندرية تقع بينها وبين البحر المتوسط، ومن هنا كتب الشاعر محمد علي أحمد، ابن حي راغب في الإسكندرية، أغنيته العظيمة "بين شطين وميه". شمل التغير الملاهي الليلية على الكورنيش، وانتهت سينمات الإسكندرية وهدمت، وظهرت المباني العشوائية في الجنوب، وغير ذلك كثير، فضلًا عن التغير الروحي. وأخيرًا، أيضًا، تم حجب الشاطئ لمسافة كبيرة من الشاطئ للمتنزه بالكافيتريات وغيرها، حتى لم يعد للسائر أن يرى البحر إلا إذا دخل إلى الشاطئ، ودفع رسومًا على ذلك. هذا فضلًا عن التخلص من كثير من العمارات القديمة أوروبية الطراز، من أجل بناء عمارات عالية تحجب الهواء عما خلفها. المهم، بعد ردم بحيرة مريوط، التي لم يبق منها غير عشرها تقريبًا، صارت الإسكندرية تطل على شاطئ واحد هو البحر، ثم تم حجب هذا الشاطئ أيضًا. وأتمنى أن لا يتم أي شيء يحجبه أكثر في ما تبقي منه من أول منطقة السلسلة إلى الأنفوشي. أتمنى أن لا يحدث أي تغيير في هذه المنطقة التي تحتها كثير من الآثار الغارقة.

(*) روايتك "لا أحد ينام في الإسكندرية" قرأناها عربيًا، وعالميًا بعد ترجمتها إلى لغات عديدة. ما هو السر وراء كتابتها؟
ولدتُ بعد الحرب العالمية الثانية، في نهاية عام 1946. عاش أبي وأمي كل أيام الحرب في الإسكندرية، وكانت حكاياتهم كثيرة عن تلك الأيام، فامتلأت بها، وعادت الحكايات بقوة مع العدوان الثلاثي عام 1956، حيث وقعت بعض الغارات على الإسكندرية، وإن كانت قليلة. أنا وأصدقائي كنا في العاشرة تقريبًا، وقمنا بألعاب فقسمنا أنفسنا إلى فريقين. فريق الإنكليز، وفريق المصريين، وتشاجرنا مع بعضنا. امتلأت روحي بحكايات الحرب حتى حدث عام 1990 أن كنت في زيارة إلى مدينة مرسى مطروح لقضاء أسبوع في المصيف. كان من الطبيعي أن نستريح في الطريق. استرحت صدفة في مقهى بمحطة العلمين أنا وزوجتي وأطفالي، وكانت قريبة من مدافن الكومونولث. هنا، جاءت الذكريات كلها، فمشيت بين المقابر أرى لافتات أسماء الموتى من الإنكليز، ومن الدول التي كانت تحت الاستعمار البريطاني، مثل الهند، وبعض دول أفريقيا، فاستيقظت الرواية.





أنهيت أسبوع المصيف وعدت بالأسرة إلى القاهرة، وبدأت رحلة البحث عن المعلومات والأحداث. أنفقت ست سنوات أبحث في دار الكتب بين الصحف القديمة، وأكتب، وأزور مواقع الحرب في الصحراء الغربية، وكل مناطق المعارك. كنت أذهب صيفًا وشتاء، وأمشي أحيانًا حافيًا لأشعر بملمس الرمال، أو أخلع قميصي وأمشي لأشعر بالشمس، أو البرد، وأعود. قرأت كتب القادة والعسكريين والسياسيين، مثل مذكرات تشرشل، رومل، وغيرهما، وكتبت الرواية خلال تلك السنوات الست.

(*) "أداجيو" رواية معبرة ومؤثرة. هل أحداث هذه الرواية متخيلة، أم حقيقية؟
في مرحلة مبكرة من حياتي لم أكن أسمع غير الطرب العربي من الإذاعة التي تنطلق في البيت، أو الشارع. لم أكن أسمع موسيقى أجنبية إلا في الأفلام. وكان موضوع الفيلم هو ما يجذبني، كصبي أو طفل، وتكون الموسيقى أمرًا طبيعيًا مع مشاهد تحرك عواطفنا، لكن لم أسع وقتها لأن أعرف تاريخها، ولا أصحابها. بدأ بحثي عن الموسيقى العالمية فيما أذكر وأنا في سن العشرين تقريبًا، حين استمعت مرة إلى أنيس منصور في الإذاعة يتحدث في برنامج عن استماعه إليها كثيرًا في البرنامج الموسيقي. بحثت عن البرنامج الموسيقي في الإذاعة، ولم أفارقه أبدًا إلا بعد تطور الميديا، وظهور اليوتيوب. ألقت بي الصدفة إلى الاستماع في البرنامج الثقافي لبرنامج عن الموسيقى الكلاسيكية كان يقدمه حسين فوزي كل جمعة، أو خميس، لا أذكر بالضبط. صرت حريصًا على سماعه ومعرفة أجمل وأعظم الموسيقيين في العالم، وأشكال الموسيقى: سيمفونية، كونشيرتو ــ سوناتا،... إلخ. الموسيقى عبرت بها الزمن وكل صعوباته. أخذتني ولا تزال إلى عالم سحري بين السماء والأرض. بالموسيقى عبرت أزمات الوطن وأزماتي، وبها كنت أحلق في السماء في الليل والكل نيام حولي، ومن ثم أستغرق في الكتابة. في البرنامج الموسيقي، حوالي الساعة الثانية صباحًا، تنطلق مقطوعة حزينة عرفت أن اسمها "أداجيو"، للموسيقار الإيطالي تومازو ألبينوني. كل ليلة كانت هذه المقطوعة الحزينة تقطع فضاء الموسيقى الواسع بالأسى. في عام 2000، فقدت زوجتي الأولى، رحمها الله، بعد رحلة مضنية مع داء السرطان اللعين. وبعد ثلاث، أو أربع سنوات، كتبت رواية بعنوان "برج العذراء"، كانت غاضبة من الدنيا كلها. وبعد ثلاثة عشر عامًا صفت نفسي وكتبت رواية "أداجيو" مستوحاة من الأيام الأخيرة التي عشتها مع زوجتي الأولى وهي تموت لحظة بلحظة. جعلت البطلة موسيقارة شهيرة حتى أفتح المجال للحديث عن الموسيقى لتحلق الرواية في آفاق أكثر إنسانية رغم الألم.




(*) لماذا لم تحظ القصة القصيرة بما حظيت به الرواية من اهتمام ونقد وجوائز في العالم عامة، والعالم العربي على وجه الخصوص؟
القصة القصيرة عالم جميل. لقد كانت سنوات الستينيات، وقبلها الخمسينيات، هي سنوات القصة القصيرة في العالم كله، ثم حدث الجري إلى الرواية، مع توسع قضايا العالم. لكن هذا لا يقلل من قيمة القصة القصيرة. وهنالك من أخلص لها، مثل سعيد الكفراوي، رحمه الله، ومحمد المخزنجي في مصر، ومثل محمد زفزاف في المغرب. صارت الرواية متنفس الناس، ومن ثم أقيمت لها المهرجانات والجوائز، وأصبحت ميدانًا لكثيرين. هذا لا يشكل لي مشكلة. ستظل القصة القصيرة فنًا عظيمًا، وسيأتي يوم تتصدر المشهد من جديد. هي موجات مهما طالت ستنتهي.

(*) كيف تقيم تعاطي النقد مع أعمالك؟ وهل نعاني من مركزية الثقافة مما يحجب أسماء هامة من الظهور؟
النقد كان ولا يزال بالنسبة لي أجمل أبواب الدخول إلى عالم الإبداع. من حسن حظي حين بدأت الكتابة لم يكن عددنا كبيرًا. خمسة أو ستة كتاب يسمونهم جيل الستينيات، ومثلهم أطلقوا عليهم جيل السبعينيات. كانت فرصة الكاتب مع النقاد كبيرة. هكذا، وجدت أعمالي طريقها إلى نقاد كبار، مثل الدكتور علي الراعي، وشكري عياد، وأحمد عباس صالح، وصلاح فضل، ومحمد برادة، وفيصل دراج، وأجيال أخرى، مثل يسري عبد الله، وشاكر عبد الحميد، وحتى الآن من أجيال جديدة، مثل شهلا العجيلي، ومصطفى عبيد، ومحمود عبد الشكور، وإيهاب الملاح، ونشوة أحمد، وعشرات الأسماء من مصر والعالم العربي، فضلًا عن الرسائل الجامعية في مصر والعالم. إحساسي بكل مقال يكتب عني هو إحساسي القديم بالفرح والبهجة نفسها، فلست من الكتاب ناكري الجميل تجاه النقد والنقاد. مسألة المركزية هذه كانت قائمة في مصر من قبل، بين القاهرة والمحافظات الأخرى، وكان هذا وراء انتقالي إلى القاهرة عام 1975.




لم يكن هنالك إنترنت، ولا حتى بريد يصل في موعده، ولا تليفونات تعمل من دون أعطال. الآن، اختلف الوضع. تكتب في أي مكان وكأنك في القاهرة. المشكلة ليست في المركزية الآن، لكن في أعداد الكتاب الهائلة. تخيل يومًا كان هنالك ستة أو خمسة كتاب يسمون جيل الستينيات، ومثلهم كما قلت يسمون جيل السبعينيات. تخيل الآن أن في كل مقهى عشرين كاتبًا، وفي كل صفحة على فيسبوك عشرات الكتاب. تخيل زمنًا كان فيه نشر الرواية يتم في دور نشر قليلة، وكانت الطبعة الواحدة ثلاثة آلاف نسخة، إلى زمن فيه عشرات من دور النشر تنشر الروايات على حساب المؤلفين الجدد بالذات، وتطبع من كل طبعة مئتي نسخة، أو على الأكثر خمسمئة. كيف سيتابع النقاد هذا كله. في مصر، تصدر أكثر من خمسمئة رواية في العام، فإذا أضفت إليها روايات الرعب، سيتجاوز العدد الألف. من سيقرأ هذا كله؟ النقد مُحاصر بالأعمال، وفيها كثير مما لا قيمة له، لكن الميديا جعلت له قيمة، وكثيرًا ما يشعر الناقد أن الصمت أفضل.

(*) ما هي أهم الخطوط الحمراء التي تقف في وجه الكاتب، ويصعب عليه الكتابة عنها، في مصر خاصة، والوطن العربي عامة؟
الخطوط الحمراء كثيرة، من السياسة، إلى الجنس، إلى الدين، لكن من لا يستطيع النشر في بلده ينشر في بلد آخر، أو حتى خارج العالم العربي. هذا أمر قديم. كان النشر في بيروت يومًا قِبلة الكتّاب في العالم العربي، وأولهم الكتاب المصريون. والآن، هنالك دور نشر خارج العالم العربي، مثل المتوسط في نابولي، وهي خارج الخطوط الحمراء. الكاتب لا يعطله شيء إذا أراد. والآن هنالك الميديا التي تتسع لكل ما تراه الدولة الرسمية خطأ، أو خطيئة. منع كتاب يجعله الأكثر قراءة على الميديا في ساعة زمن. لذلك على الدول والهيئات المانعة، وهي كثيرة للأسف، أن تتوقف عن هذا، فهو تروج والله للكتاب.

(*) ما هي رسالتك للكتاب الشباب؟
أقول لهم: فرصتكم أفضل من فرصنا في شبابنا. مساحة النشر متسعة، فلا تقلقوا من أيّ إهمال. سيأتي اليوم الذي تحصلون فيه على الاهتمام بأعمالكم. المهم أن يكون شعاركم مثلي دائمًا، وهو أن متعتي في الكتابة، أما ما بعدها فلا يد لي فيه، وسيأتي في موعده.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.