لمياء المقدم هي شاعرة ومترجمة تونسية (1971) مقيمة في هولندا، عملت صحافية ومقدمة برامج إذاعية في إذاعة هولندا الدولية، ومترجمة جنائية في المحاكم الهولندية. صدرت لها بالإضافة لـ"كتاب الجسد" أربع مجموعات شعرية: "بطعم الفاكهة الشتوية"؛ "انتهت هذه القصيدة... انتهى هذا الحب"؛ "في الزمن وخارجه"، و"كتاب العمى".
هنا حوار معها:
(*) في "كتاب الجسد"، العنوان يوحي بنوع من التشريح، لكن ليس تشريحًا علميًّا إنما شعري. كيف أخذت قرار تشريح الجسد شعريًا؟
فكرة الكتاب جاءت بعد تأمل طويل في موضوع الجسد ودلالاته الشعرية والفلسفية. الفلسفات القديمة، وجزء كبير من الحديثة، تعاملت مع الجسد على أنه في مرتبة أدنى من مرتبة العقل أو الروح.
هنالك ظلم مستمر مورس على الجسد على امتداد التاريخ الإنساني باعتباره الجزء الفاني، أو الآلة التي سينتهي دورها ذات يوم وتتلاشى، بعكس الروح/ الفكر الذي يبقى متواجدًا ومستمرًا. و"كتاب الجسد" محاولة لإعادة الاعتبار للجسد، وإعلاء شأنه، على الأقل شعريًا.
أبيقور، وهو أول من طور مبدأ اللذة، بذل، رغم ذلك، أقصى ما في وسعه ليسمو بها من المعنى الأرضي إلى المعنى العقلي والوجداني، ظنًا منه أن اللذة الحسية قصيرة العمر، وتفضي إلى الألم، ولذلك نادى بالارتقاء عن اللذات المادية.
في "كتاب الجسد" يتكلم كل عضو بلسانه ساردًا تاريخه وذكرياته وتجاربه ومحنه، وكأن لكلّ عضو عقل خاص به، ومشاعر تتحكم به. وهو انتصار مادي بحت للذة الحسية وللفناء الذي يحكمها من دون محاولة الارتقاء بها، أو تطويرها، أو تخليدها.
(*) ليست المرة الأولى التي تكتبين فيها عن الجسد، لكن وبما أنك جربت العيش في بلدين متناقضين من ناحية الحريات الجسدية، تونس وهولندا، ما هي اختلافات الجسد العربي عن باقي الأجساد في العالم؟
أنشغل بموضوع الجسد منذ فترة، هذا صحيح. ربما بسبب انحيازي إلى الكتابة الحسية، وما تمليه علي هذه الكتابة من ضرورة التأمل في الحواس ومصدرها.
بالنسبة للفرق بين الجسد العربي وجسد الآخر، ففي اعتقادي أن الفرق يكمن في القدرة على تناول إشكالاته ومفاهيمه، وفي مدى حضوره في الأدب والفكر والفلسفات ومدى تحرره من السلطة. الجسد العربي منفي ومضطهد وخاضع للسلطة، وتعبيره عن نفسه يعد عدوانًا عليها. لا يزال يعامل على أنه منطقة محرمة، تحديدًا على الكاتبات. وحتى المحاولات البسيطة التي تقوم بها بعض الشاعرات تصنف على أنها "جريئة" وهو تصنيف يبدو إيجابيًا للوهلة الأولى، لكن لو دققنا سنجد أنه تقييم أخلاقي للشعر، في حين أن الشعر لا يجب أن يقيم أخلاقيًا برأيي، وإلا قلنا في المقابل شعر جبان وشعر فاسد... إلخ. الشعر يقيّم شعريًا فقط.
(*) بدأت تقريبًا بكتابة "كتاب الجسد" خلال الحجر الصحي المرافق لوباء كورونا، منذ حوالي 4 سنوات. كيف أثرت فترة الحجر وتقييد حريتك في التنقل على رؤيتك الشعرية في الكتاب؟
في فترة انتشار فيروس كورونا وجدت نفسي في مواجهة مباشرة مع "الجسد"، فالإنسان الحديث الذي أسس حضارته على فكرة التجمع بات مطالبًا بأن يأخذ مسافة من الأجساد الأخرى، ويحذرها، ويخاف منها.
المسافة التي وجدت بين أجسادنا والأجساد الأخرى سمحت برؤيته بشكل أفضل. نوع من العودة إلى الذات، لتقييم الأبعاد والاتجاهات.
من جهة أخرى، تزامنت فترة الكورونا مع دخولي مرحلة عمرية دقيقة أهم سؤال فيها كان: عندما ينتهي الجسد، ماذا سيبقى؟ وهو سؤال إشكالي بالنسبة لي لأن الجسد كان دائمًا حاضرًا في تفكيري وكتاباتي.
أيضًا، بحكم عملي في الترجمة الفورية، فرض علي التعامل مع "الجسد الغارق" للاجئين القادمين من سورية وأفريقيا إلى أوروبا. هؤلاء، وإن بدا أنهم وصلوا، إلا أنهم في واقع الأمر غرقوا في البحر الذي يفصل بلدانهم عن أوروبا غرقًا تراجيديًا انعكس على تفكيرنا وسلوكنا.
(*) قلتِ في حوار سابق مع الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة إن كونك شاعرة تعيش في هولندا هو أمر مختلف عن سابقه، حين كنت في تونس. وأورد هنا فقرة من الحوار: "بينما قد تخاف الشاعرة العربيّة في المنطقة العربيّة من أن تلتقي عيناها بعينَي المتلقّي وهي تقرأ نصًّا مخالفًا للأعراف، أو الدين، تعلّمت الصدق في الكتابة، الصدق المطلوب في كلّ شيء هنا، وهو ليس ميزة، بل هو واجب". ولأن عددًا من الشاعرات العربيات لم يتمكنَّ للآن من تجربة الحرية المطلقة في الكتابة، هل يمكن أن تساعدينا في تخيل هذا الاختلاف، وهل يعني الانتقال المكاني إلى بلد أكثر حرية تغيرًا في نوعية الكتابة؟
الحرية مطلوبة في الكتابة. وشخصيًا، لا أؤمن بكتابة ليست حرة. لكن ما معنى الحرية في الكتابة؟ هي الشعور بأن لا أحد يراقبك، أو يضغط عليك، لا أحد يضع عصًا على رأسك وينتظر أخطاءك. لا توجد في داخلك رقابة ذاتية تتحكم في ما تكتبه وتوجهه، ولا أحد يساومك على ما تكتب. هي الكتابة المتحررة من رقابة السلطة، واضطهاد الأديان والمعتقدات، عكس الكتابة الخائفة التي يكون فيها الكاتب حذرًا، أو طامعًا، أو محابيًا، فيتخلى عن كثير من عفويته وصدقه.
الكتابة الحرة هي أيضًا الكتابة الإنسانية المتسامحة مع الإنسان في كل حالاته. لا تنصب نفسها حكمًا، ولا تحاسب وتعاقب، وإنما تتجرّد من الأهداف الدنيا إلى هدف أسمى، هو النص في حدّ ذاته.
إن الوصول إلى هذا النوع من الكتابة صعب في عدد من الثقافات، وليس العربية فقط. هنالك دائمًا عامل الدين وعامل الموروث والأخلاق والثوابت والعادات التي تتدخل لتجعل الكتابة مقيدة وسجينة. الحل يكمن في الارتقاء بمستوى القارئ ليتمكن من إدارة عملية القراءة إدارة صحيحة، بحيث يمكنه التعامل مع الشعر مثلًا في منأى عن هذه العوامل المؤثرة، باعتباره فنًا قائمًا في ذاته، مسموح له التعامل مع النفس البشرية وسلوكياتها وردود أفعالها وانفعالاتها تعاملًا شعريًا.
طبعًا، لا توجد حرية كاملة. هنالك دائمًا شيء يتحكم فينا، حتى وإن كانت هناك الرغبة في أن نكون أحرارًا... لكن الحرية عملية مستمرة، نتعلمها شيئًا فشيئًا.
(*) سيدرك قارئ الكتاب أن تجربة الجسد شديدة التنوع والتطرف والتعقيد، إذ تتنوع التجارب بين التحرش، الضرب، خسارة أحد أطراف الجسد، اللذة... وهذا يضعنا في مقابل التجربة الغنية للجسد الذي ربما نحاول عربيًا تجنب الإفصاح عنها. كيف اخترتِ التجارب التي تودين الحديث عنها في الكتاب؟ ما الذي كان يجذبك أكثر من غيره؟
التجارب هي التي اختارتني. بدأت بكتابة "كتاب الجسد" وفي نيتي أن أترك لكل عضو حرية التكلم عن نفسه، لكنني اكتشفت أن الجسد ليس فقط أعضاء، وإنما أيضًا، الأشجار التي نام تحتها، والمياه التي أغرقته، والشوارع التي ضاع بينها. هو مجمل ما مرّ به من محن وإشكالات وتحديات.
في جزء من الكتاب، تتدخل الدالية لتتكلم عن نفسها تدخلًا مفاجئًا ليس له ما يبرره: "ما الذي تفعله الدالية في هذا السياق، ومن جاء بها إلى هذه المحنة"؟
الدالية في "كتاب الجسد" جسد كامل تمكن من النجاة من الغرق وانتشر هنا، في الغرب. على أسطح البيوت وأمام أبوابها. لماذا وصلت الدالية وغرق الشباب في البحر؟ ألا يبدو ذلك سورياليًا؟
بعض الانعراجات فاجأتني أنا شخصيًا، ولكنني تركت لها نفسي اعتقادًا مني بأننا لا يجب أن نوجّه الكتابة ونتحكم بها بقدر ما يجب أن نستسلم لها وننساق وراءها.
التذكر عملية مؤلمة، ولكنها ضرورية، والكتاب نوع من التذكر المستمر. الحياة نفسها هي ما نتذكره، والجسد أيضًا هو ما نتذكره. اليد مثلًا، تكتب، وتزرع الأشجار، وتلمس الأحباب، وتطعم الأبناء... لكنها أيضًا تحب، وتقسو، وتطفو على سطح ميت... أي أنها تاريخ كامل من الانفعالات.
(*) عطفًا على السؤال السابق، تتنوع زوايا التقاط الجسد، ليبدو الكتاب دعوة إلى كل قارئ ليجد جسده الخاص. ماذا يعني اليوم تعرّف الإنسان على جسده من وجهة نظر شخصية؟ أين هو الجسد العربي على خارطة أجساد العالم؟
الجسد في "كتاب الجسد" هو كل الأجساد على نحو ما، أو الجسد الجماعي، تمامًا كما في حال العقل الجماعي، وهو الجسد الذي تحكمه اللحظة الراهنة وتحدياتها.
لكنه، من جهة أخرى، جسد فرداني جدًا اختار التكلم بلسانه الخاص ليروي تجاربه وذكرياته وتاريخه. هنالك تعريج ضمني على موضوع الجسد منذ أول الخليقة، كيف تعاملت معه الفلسفات القديمة والحديثة؟ ما مكانته من الأدب والشعر والفنون على مر العصور؟
التعرف على أجسادنا ضروري، لأننا محكومون بالجسد وتطلعاته ورغباته وإملاءاته. الحقيقة هي أن أجسادنا أكثر تعقيدًا من تصورنا عنها، وأكثر سطوة وقوة مما ندعي. في مجمل الموروث الإنساني ثمة دعوة للسيطرة على هذه القوة وإخضاعها لحكمة العقل وإدارته. الكتاب دعوة مضادة للاستماع إلى الجسد، والاستسلام لإرادته الخاصة.
الخوف كان دائمًا من إفلات الجسد ودخوله في صراعات ومشاكل ناجمة عن عدم قدرته على "التوازن" والتفكير الصحيح. الكتاب يقول إن للجسد عقلًا خاصًا به يدير سلوكياته ويوازنها وفق منطقه الخاص، ولا خوف عليه.
(*) تقولين في الكتاب عن الجسد: "وفي نظره تحديات السلم أكبر من تحديات الحرب...". وهنا نقطة فريدة، وهي أن علاقتنا بالجسد تؤثر بطريقة ما على السلم والحرب من حولنا، وهذا يعني كلما كانت علاقتنا بأجسادنا فقيرة كلما ازداد مستوى العنف. هل يمكن أن تحدثينا أكثر عن وجهة نظرك هنا؟
أغلب مشاكلنا الصغيرة والكبيرة، بما فيها الحرب، ناتجة عن عدم فهمنا لأجسادنا، وللقهر الذي نمارسه عليها بحجة أنها تحتاج إلى إخضاع وإدارة عقلية. في حين أن الجسد لا يريد شيئًا أكثر من الحصول على حريته، وتخليصه من الآثام، وتجريده من الأثقال التي على كاهله.
"كتاب الجسد" يشرح الجسد قطعة قطعة، وعضوًا عضوًا، ليقول: لماذا كل هذا الثقل؟ لست أكثر من جسد؛ "خذي الثدي مثلًا، عضو شديد الحساسية في الجسد، مهمته إرضاعنا، وبالتالي بقاءنا، رمز الأمومة، والأمومة أصل الكون، وسبب نشأته، هذا العضو مريض الآن، مصاب بالسرطانات ويتعرض للبتر، هو بتر للأمومة جمعاء، وللبقاء في مفهومه الأشمل".
"أبكي بلا صوت، لأن في داخلي شجرة معلقة عليها رؤوس وسكاكين. أبكي وأحمل وجهي بين يدي كمن يحمي نفسه من الصفعات. الجميع يظن أنني أبكي من الظلم، لكن ما يبكيني هو الكلام الذي في الداخل، ولا يقرؤه أحد".
هذا النوع من التأمل في وضع الجسد الإنساني والآليات التي تتحكم فيه يقودنا إلى فهم كثير من الإشكالات المطروحة على وضعنا الحالي، ومنها إشكالية الجندر. وضع المرأة في المجتمعات العربية مؤسف للغاية، تمتلك أكثر من آلية للتواصل ولديها قدرة عالية على الحوار والتفهم، ولكنها مكممة ومضطهدة. الجسد العربي بشكل عام، خاضع للسلطة ومنفي.
(*) الكتاب هو جزء من سلسلة "إشراقات" التي يعمل عليها الشاعر أدونيس، وتصدر عن دار التكوين في دمشق، وتتضمن تجارب لشاعرات عربيات معاصرات. هل تحدثينا عن تجربتك في النشر مع أدونيس؟
"إشراقات" هو عنوان آخر ديوان لرامبو كما نعرف، قدم فيه رؤيته للعالم ولعصره بطريقة ملغزة أثارت فضول وحيرة قرائه ومجايليه، وهو نفسه الديوان الذي أسس للسوريالية، وهي من أهم الحركات الأدبية في القرن العشرين. والعنوان نفسه اختاره أدونيس لسلسلته.
التعامل في هذه السلسلة كان مع أدونيس الشاعر والمفكر، ولا علم لدي بالدواوين التي تضمها السلسلة، فالاختيار قام به أدونيس، وهو وحده المسؤول عنه. وحسب علمي، فإن السلسلة لا تضم فقط شاعرات، وإنما شعراء أيضًا.
ما شدني في المشروع هو فكرته القائمة على إبراز الشعر من دون أي اعتبارات أخرى. النص هو المتحكم الوحيد، أي أنه لا فرق بين شاعر مبتدئ وآخر "مكرس"، أو شاعر جديد وآخر "قديم". ولا تراعي السلسلة ما كتبه الشاعر قبلها، أو ما سيكتبه بعدها. تتعامل فقط مع النص الذي أمامها في معزل عن تجربة الشاعر.
مشاركتي في السلسلة نابعة من قناعة بأننا نحتاج إلى مشاريع مشابهة، ولحركة أدبية نشيطة تشرك الشعراء الجدد وتبرزهم للعيان وتفسح لهم المجال. مشاريع تركز على الجديد، ولا تعيد استهلاك القديم، أو تدوير ما تنتجه الثقافات الغربية، كما يقول أدونيس عن سلسلته. لم أقرأ الدواوين المنشورة في السلسلة، ولكنني أثق في من قام باختيارها، فكريًا، وشعريًا، على الأقل، كما أثق في دوافعه، وهي الخروج من البوتقة والتوجه نحو حركة أدبية جديدة. وهذا ليس معناه أن الخيار الذي يحكم هذه السلسلة تفضيلي، فالشعر في هذه السلسلة ليس أفضل من باقي الشعر، ولكنه حر ومختلف وجديد، رغم أنه، ربما، في بعض جوانبه ما يزال مربكًا ويتلمس خطاه...
أهم ما يميز هذه السلسلة هو انفتاحها على الجديد.
(*) أنهي الحوار بسؤال ختمتِ به المجموعة، وهو: "من هذا الجسد؟ وما الذي يفعله في هذا الكون؟"
أعتقد أنك تريدين أن تقولي أنه ومهما تحدثنا عن الجسد يظل مادة غامضة وعصية على التعريف، لكن لو طرحت السؤال ذاته عليك ماذا ستقولين؟
هيرمان هسه يقول: "أنت... جواب السؤال".
"كتاب الجسد" تأملي فلسفي شعري لا يبحث عن أجوبة، ولا أظن أن وظيفة الشعر هي الإجابة عن الأسئلة. الشعر يخاطب الوجدان والعقول والضمائر، يحاول أن يشدها لتنتبه وترى إلى ما هو أبعد.