}

ذكرى ولادة إرنست همنغواي: مصارع الثيران والروايات

مناهل السهوي 21 يوليه 2024
استعادات ذكرى ولادة إرنست همنغواي: مصارع الثيران والروايات
عانى همنغواي قبلَ وفاتِه من اضطراباتٍ عقليَّةٍ

ليس كاتبًا وحسب، إنَّه أيضًا مصارعُ ثيرانٍ، وصائدُ طرائدَ، وملاكمٌ. كتب إرنست همنغواي الرِّواياتِ، واصطاد الأسماكَ الكبيرةَ. وُلد هذا الكاتبُ الأميركيُّ في 21 تمُّوز/ يوليو 1899، وبدأ حياتَه المهنيَّةَ في العملِ في مكتبِ إحدى الصُّحفِ في مدينةِ كانساس سيتي في سنِّ السَّابعةَ عشرةَ.
بعد دخولِ الولاياتِ المتَّحدةِ الحربَ العالميَّةَ الأولى، قرَّر همنغواي الانضمامَ إلى الجيشِ، إلَّا أنَّ طلبه رُفض بسببِ مشكلةٍ مرضيَّةٍ في عينِه. انضمَّ لاحقًا إلى وحدةِ الإسعافِ في الجيشِ الإيطاليِّ، وأُصيبَ خلالَ خدمتِه. ويُقالُ إنَّ قذيفةَ مدفعيَّةٍ سقطت بالقربِ منه في أثناءَ قيامِه بنقلِ كميَّةٍ من السَّجائرِ والشُّوكولاته للجنودِ الإيطاليِّينَ، وحصلَ بعدَها على وسامِ شرفٍ من الحكومةِ الإيطاليَّةِ.
الحربُ رسمت خريطةَ الرِّوايةِ بعد عودتِه إلى الولاياتِ المتَّحدةِ، حيث أصبحَ مراسلًا لصحفٍ كنديَّةٍ وأميركيَّةٍ، وأُرسلَ إلى أوروبا لتغطيةِ أحداثٍ مثلِ الثَّورةِ اليونانيَّةِ. الحربَ ستبقى حجرَ الأساسِ في أعمالِه، كونها ركيزةً لهذه الأعمالِ، فمنها تنطلقُ رواياتُه، ويعاني أبطالُه، وتتصارعُ شخصيَّاتُه.
لم يكن همنغواي في تلك الفترةِ مجرَّدَ صحافيٍّ، كان أيضًا خبيرًا في الأمورِ العسكريَّةِ، وأنشطةِ الحربِ الأخرى، وبفضلِ كلِّ هذا، وبفضلِ عملِه، استخدمَ همنغواي تجاربَه كمراسلٍ خلالَ الحربِ الأهليَّةِ في إسبانيا كخلفيَّةٍ لروايتِه الاستثنائيَّةِ "لمن تقرعُ الأجراسُ" (1940)، كما في رواياتِه الأخرى. تدورُ روايةُ "وداعًا للسِّلاحِ" (1929) خلالَ الحربِ العالميَّةِ الأولى، وتحكي قصَّةَ سائقِ إسعافٍ أميركيٍّ في الجيشِ الإيطاليِّ يعاني من الصَّدمةِ والألمِ بسببِ الحربِ، ويعيشُ قصَّةَ حبٍّ مأساويَّةٍ مع ممرِّضةٍ؛ تبدو الرِّوايةُ إسقاطًا لتجربةِ همنغواي الَّذي يُقالُ إنَّه أحبَّ ممرِّضةً خلالَ الحربِ، لكنَّها لم تبادلْه الحبَّ.
أمَّا روايةُ "ثمَّ تشرقُ الشَّمسُ" (1926)، وهي واحدةٌ من أبرزِ رواياتِه، فيغوصُ همنغواي فيها في المجتمعِ الأوروبيِّ ما بعد الحربِ، شخصيَّاتٌ تعيشُ في دائرةٍ مغلقةٍ من الشُّربِ والحفلاتِ، لا هدفَ لها، أو عملًا حقيقيًا، ما يعكسُ العبثَ والانحطاطَ الأخلاقيَّ لذلك العصرِ الَّذي جاءَ بعدَ الحربِ العالميَّةِ الأولى.
استندَ همنغواي في روايتِه "لمن تقرعُ الأجراسُ" (1940) على تجربتِه في الحربِ الأهليَّةِ الإسبانيَّةِ، إذ تستكشفُ الرِّوايةُ موضوعاتِ الحبِّ والموتِ ووحشيَّةِ الحربِ.
هكذا حوَّلَ همنغواي الحربَ إلى أدبٍ وشخصيَّاتٍ روائيَّةٍ وحواراتٍ، لكنَّ ذلك لم يكن كافيًا لتنجحَ رواياتُه إلى هذا الحدِّ وترافقَنا إلى اليومِ، يعتمدُ نجاحُ همنغواي كذلك على أسلوبِه الفريدِ ولغتِه وحواراتِه.
في تكنيكُ رواياتِه، تقومُ كتابةُ همنغواي على ركيزةٍ أساسيَّةٍ وهي أنَّ المعنى الأعمقَ للقصَّةِ لا يجبُ أن يكونَ واضحًا وبيِّنًا على السَّطحِ، إنَّما يجبُ أن يبقى عميقًا منتظرًا القارئَ في مكانٍ ما ليكتشفَه. اتَّبعَ همنغواي هذه الاستراتيجيَّةَ في معظمِ أعمالِه، إذ يتركُ للقارئِ مهمَّةَ استكشافِ المواضيعِ الأساسيَّةِ. اعتمدَ همنغواي تكتيكًا يتعارضُ مع أسلوبِ القرنِ التَّاسعَ عشرَ الَّذي أغرقَ في وصفِ التَّفاصيلِ والعالمِ والأحداثِ.




يشبهُ أسلوبُ همنغواي الرِّوائيُّ هواياتِه في مطاردةِ الطَّرائدِ وصيدِ الأسماكِ، الهدوءُ والانتظارُ والتَّرقُّبُ، تخيُّلُ اللَّحظةِ والقبضُ عليها.
في "العجوزِ والبحرِ" (1952)، الحائزةِ على جائزةِ بوليتزرَ للرِّوايةِ عام 1953، يحكي همنغواي قصَّةَ صيَّادٍ كوبيٍّ عجوزٍ يقاتلُ سمكةَ مارلن عملاقةً، ويروي محاولاتِه اليائسةَ لربطِ السَّمكةِ العملاقةِ وجرِّها بالقاربِ، لكنَّ أسماكَ القرشِ المتوحِّشةَ تأكلُها في أثناءَ الرِّحلةِ إلى المنزلِ، وهكذا يخفي السَّطحُ السَّرديُّ البسيطُ والمتقشِّفُ للرِّوايةِ الموضوعاتِ العميقةَ للشَّجاعةِ، والنِّضالِ ضدَّ قوى الطَّبيعةِ، والمتمثِّلةِ هنا بالسَّمكةِ، وبأسماكِ القرشِ.
أمَّا حواراتُ همنغواي فتميلُ للواقعيَّةِ، وتساهمُ بالكشفِ عن الشَّخصيَّاتِ والعواطفِ والمشاعرِ والمواقفِ بمهارةٍ، فيغدو الحوارُ قابلًا للتَّصديقِ، ما أعطى انطباعًا أنَّ الحوارَ حقيقيٌّ بالفعلِ، وهو ما يساهمُ في إشراكِ القارئِ وتوريطِه في العملِ، بالإضافةِ إلى الحيلةِ الأولى المتمثِّلةِ بتجنُّبِ الدُّخولِ في التَّفاصيلِ، مفسحًا مساحةً للقارئِ ليغوصَ في العملِ بطريقتِه.
تمكَّنَ همنغواي بفضلِ أسلوبِه وتكنيكِه الرِّوائيِّ من التَّأثيرِ بشدَّةٍ على الأدبِ الحديثِ، وساهمَ
أسلوبُه في الاقتصادِ في توجُّهِ الكتَّابِ اللَّاحقينَ إلى الدِّقةِ، ومنحِ خيالِ القارئِ مساحةً حرَّةً.
تجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنّ عملَ همنغواي الصِّحافيَّ ساهمَ بلا شكٍّ في فهمِه للاختزالِ والاختصارِ، والتَّركيزِ على المهمِّ، وتركِ الأقل أهمِية لمواضعَ أخرى.
أمَّا بطلُ همنغواي فغالبًا ما يكونُ رجلًا تعرَّضَ إلى تجربةٍ قاسيةٍ ومؤلمةٍ وغيرِ عادلةٍ، كإصابةٍ في الحربِ، أو علاقةِ حبٍّ فاشلةٍ. وفي كثيرٍ من الأحيانِ، يعتمدُ همنغواي على التَّشوُّهِ الجسديِّ للشَّخصيَّةِ لإظهارِ الخللِ النَّفسيِّ، فما يظهرُ على الجسدِ موجودٌ بالفعلِ داخلَ النَّفسِ والرُّوحِ، وما النُّدوبُ الخارجيَّةُ سوى انعكاسٍ لتجاربِ الدَّاخلِ، لكن حتَّى ضمنَ هذه الظُّروفِ القاسيةِ يستمرُّ البطلُ بالبحثِ عن الحياةِ.

القصَّةُ الَّتي لا توصفُ
كان للحبِّ مكانٌ كبيرٌ في حياةِ همنغواي هو الَّذي تزوَّجَ أربعَ مرَّاتٍ، كانت ثلاثٌ منهنَّ صحافيَّاتٍ. وفي كتابِه الأقربِ إلى المذكَّراتِ "وليمةٌ متحرِّكةٌ"، تحدَّثَ عن الفترةِ الَّتي عاشَها في باريسَ ككاتبٍ مكافحٍ مع زوجتِه الأولى هادلي ريتشاردسون وابنِهما. كتبَ: "كنَّا نأكلُ طعامًا جيِّدًا ورخيصًا ونشربُ شرابًا جيِّدًا ورخيصًا وننامُ جيِّدًا ونشعرُ بالدِّفءِ معًا ونحبُّ بعضَنا البعضَ".
لكنَّ الأمرَ لم يكن سهلًا في الحبِّ، بخاصَّةٍ حين وقعَ في حبِّ امرأةٍ أخرى، والَّتي ستصبحُ زوجتَه لاحقًا، كتبَ آرون إدوار هوتشنر، الرِّوائيُّ والمحرِّرُ الَّذي رافقَ همنغواي في تلك الفترةِ: "كان يعاني من التَّجربةِ المروِّعةِ للوقوعِ في الحبِّ. امرأتانِ في وقتٍ واحدٍ، تجربةٌ ستطاردُه حتَّى قبرِه".
يبدو أنَّ تأثيرَ العلاقةِ الثَّانيةِ كان كبيرًا على همنغواي، وفضَّلَ عدمَ الحديثِ عنها، أو كتابتَها لأسبابٍ مجهولةٍ حتَّى عام 1961، عندما زارَه هوتشنر في جناحِ الطِّبِّ النَّفسيِّ في مستشفى سانت ماري، وكانت محادثتُهما حولَ قصَّةِ حبِّه الثَّانيةِ تحديدًا، وكيف دمَّرت زواجَه، بعد ثلاثةِ أسابيعَ، عاد إرنست همنغواي إلى منزلِه، حيث انتحرَ. يبدو أنَّه كان يعلمُ أنَّها محادثتُهما الأخيرةُ، ولذلك باحَ لصديقِه بها، ليكتبَها الأخيرُ بعد سنواتٍ في كتابٍ عنونَه بـ"همنغواي في الحبِّ: القصَّةُ الَّتي لا توصفُ: مذكَّراتٌ".
عانى همنغواي قبلَ وفاتِه من اضطراباتٍ عقليَّةٍ، ثمَّ انتحرَ ببندقيَّتِه، الَّتي أهداها إليه والدُه ورافقتْه طوالَ حياتِه، يومَ 2 تمُّوز/ يوليو 1961، في حينِها كان يعتقدُ أنَّه مراقَبٌ من قِبَلِ المخابراتِ الأميركيَّةِ الَّتي كانت تشكُّ في علاقتِه بالنِّظامِ الكوبيِّ، ما ساهمَ في تفاقمِ حزنِه واكتئابِه.

مصادر:
Ernest Hemingway – Biographical - The Nobel Prize 1\11\2016
Hemingway in Love: The Untold Story: A Memoir by A. E. Hotchner – 1\11\2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.