}

صلاح بوسريف: لماذا سنرتبط بـ"القصيدة" المغلقة في زمن التقنية؟

رشيد عفيف 10 أبريل 2024

 

صلاح بوسريف، شاعر وناقد مغربي، سَكنَ رهان الحداثة مشروعه الشعري منذ البدايات، تمكّن من بناء تجربة فريدة من الثمانينيات. ارتبط اسمه أيضًا بالحقل الثقافي إبداعيًا وتنظيميًا حيث سبق أن ترأس فرع اتحاد كتّاب المغرب بالدار البيضاء، كان من بين الأعضاء المُؤسِّسين لـبيت الشعر.

أصدر العديد من المؤلفات في الشعر والنقد، علاوة على إسهاماته العلمية والأكاديمية في المغرب وخارجه. آخر إصداراته النقدية كتاب في جزأين بعنوان: "مناكفة الأسلاف: السنن والبدع"، وآخر أعماله الشعرية ديوان "هاوية تجرح الضوء". هنا حوار معه:

(*) هل تحوّلت الحداثة الشعرية إلى أيديولوجية لا يستطيع بعض الشعراء والنقاد الفكاك منها؟

الحداثة ليست أيديولوجية، ولم تكن بهذا المعنى، بل إنَّ من واجهوها واعترضوا عليها هُم من نظروا إليها بهذا المعنى، وربطوها بالغرب، دون أن يعودوا إلى ما يوجد في الثقافة والتراث العربيين من حداثة، في الشعر، وفي الفكر، وفي النقد، وفي غيرها من مجالات المعرفة والجمال.

الحداثة هي نفسها الصيرورة، هي الطبيعة نفسها وهي تتغيَّر وتنقلب بفصولها المختلفة، هي الإنسان، كما يتغيَّر ويتبدَّل في تكوينه الفيزيولوجي، يتغيَّر ويتبدَّل في تكوينه النفسي والعقلي، وفي خياله، وطريقته في النظر إلى الأشياء، وإلا ما معنى بلوغنا التقنية لو كان العقل ساكِنًا مُسْتقِرًّا.

ما كتبته، شعرًا ونظرًا، كان في هذا السياق، كان نوعًا من مراقبة الصيرورة، ونوعًا من الوعي بالتَّحوُّل والاستمرار، وهذا ما لا نجده في الحداثة العربية عن روادها الذين سقطوا في فخّ المفاهيم والبنيات القديمة التي بقيت مُطْبِقَة عليهم، بمن فيهم أدونيس نفسه، رغم أنه اعتبر تجديد المفاهيم شرطا من شروط الحداثة والإبداع، وهو لم يفعل هذا. في بياناته كتب أشياء مهمة، لكنه كتبها ببناء "القصيدة"، وببنيتها الشفاهية التي لم تَرْق إلى الكتابة، حتّى في عمله الهامّ على المستوى البصري "الكتاب ـ أمس المكان الآن". ثمة عطل وعطب في التفكير، فيه بقي الماضي يقود الحاضر، ويُوجِّه المستقبل، ومراقبة الصيرورة تقتضي أن نكون يقظين، نُدقِّق ونُحقِّق فيما نقوله ونكتبه، لنضع الحداثة في سياق الصيرورة التي هي شرطها الأول والأخير، وننأى بها عن أي احتمال أو مضمون أيديولوجيّ.  

(*) تدافع عن العمل الشعري وحداثة الكتابة، لكنّك ترفض في الوقت نفسه على سبيل المثال اقتباس قصيدة الهايكو بأسلوبها الياباني. ما تصوّرك لحداثة الكتابة. هل هي انفتاح أم تجذّر؟

أنا لا أدافِع عن شيء، لأنَّ الدفاع هو نوع من المُقاومة، وما نُدافِع عنه يكون في وضع الهُجوم. أنا أكتب، وأضيء أفقًا آخر، صِرْتُ أسميه بـ "شِعْر آخر". لماذا سنبقى، نحن من نعيش زمن التقنية، وزمن الكتابة والصورة، والتعبيرات السيميائية التي تخترق وجودنا اليومي، مرتبطين بـ "القصيدة" التي هي بناء مسكون، مُغْلَق، وهي نوع، ونُسمِّي بها الشِّعر، وهو جامع أنواع، وهي نوع من أنواع الشِّعْر، نُسَمِّي الجنس بالنوع، وهذا ما وقع فيه رواد الحداثة، وما زالوا مستمرين فيه، وانعكس على بنيات ما كتبوه وأصدروه من شعر. 

حين ذهبْتُ إلى العمل الشِّعْرِيّ، فأنا سعيْتُ إلى توسيع دوالّ الشِّعْر، بوضع الغنائية والصوت المفرد الذي هيمن على "القصيدة"، ضمن هذه الدوال، بما فيها الصوت، والخطاب، في مقابل الكتابة أو الحرف والكلمة، التي هي النص. والشَّفاهَة هي خطاب، وليست نصًّا، هذا ما أكرره فيما أكتبه، لأثير الانتباه إلى أنَّ بناء ما أكتبه شعريًا هو بناء ملحميّ، يُوازي ملحمية الزمن الذي نحن فيه، بكُل ما فيه من مفارقات وتناقُضات، وصراعات، وما ظهر فيه من أساطير مُعاصرة، ومن حروب، ونزاعات، وغيرها مما هو أشرس مما جرى في طروادة نفسها. فكيف يمكن أن نبقى متخندقين داخل ذواتنا، وكأن لا شيء تغيَّر منذ إمرئ القيس إلى اليوم، ويبقى الشاعر، أو الذات، بل الشخص هو محور كل شيء، وكأنه وحده من يوجد في المدينة وعلى الأرض.

حداثة الكتابة، ليست تدوينًا، أو كتابة إملائية لما هو شفاهي لسانيّ، أو للخطاب على الورق، إنها كتابة، بالمعنى الذي يجعل الصفحة والكتاب، دالًّا من دوالّ النص، أو العمل الشعري، وهذا ما لم ندخل فيه بعد، في تمييز التجارب، وما زلنا نعتبر، كما حدث عند ابن سلام وابن قتيبة، أنَّ السابق قال كُل شيء، واللاحِق عليه أن يسير خلفَه فقط.

أمَّا ما يتعلَّق بالهايكو، فأنت حين تسميه "قصيدة" تضعه في مشكلة كبيرة. "القصيدة"، هي شيء آخر، وبناء آخر، وهو ما حاولتُ توضيحَه أعلاه. وما ذهبتُ إليه في نقد الهايكو بصورته الآسيوية، هو الاستعمال الحرفي، بدل إحداث اختراقات فيه، وبدل البحث في الشِّعر العربي نفسه عن أشكال تُفِيد في تبيئة وتكييف هذا النوع الشعري مع الذوق والخيال العربيين، وإلا سنكون مترجمين فقط، ومترجمين سيئين، خصوصًا أنَّ في كثير من هذا الهايكو، أشياء يكتبها هؤلاء عن الطبيعة، غير موجودة في طبيعتنا، وهذه من مفارقات التبعية والتقليد، كما حدث في "القصيدة" نفسها.  

 آخر إصدارات صلاح بوسريف النقدية كتاب في جزأين بعنوان: "مناكفة الأسلاف: السنن والبدع"، وآخر أعماله الشعرية ديوان "هاوية تجرح الضوء"


(*)
الانفتاح على الأجناس ألا يُدخل الشاعر في متاهات التجريب ويحوّل النص الشعري إلى شتات من الرموز التي تعمّق معضلة الغموض؟

التجريب هو شرط من شروط العلم والمعرفة والإبداع. وتاريخ العلم هو تاريخ تجريب، وأخطاء، كما يقول غاستون باشلار. والتجريب في الكتابة بدأ مع امرؤ القيس، إذا أنا اكتفيتُ بالثقافة العربية، فهو لم يتبع أحدًا، جرَّب، وقال ما رآه يعبر عن إحساسه، وما شعر به من فراغ أمام الأطلال، وبنى شعريته على التمزُّق في البناء، على البيت المفرد الذي لا يرتبط بغيره، وعلى الانتقال من موضوع إلى آخر، وعلى غنائية صرفة، وعلى الذات.

حين ظهرت السوريالية، وقبلها الدادائية، وظهر مسرح العبث، لا أحد صدَّق هذا، وقيل نفس ما تقوله، وتكلَّم الناس عن الغموض، وعن "الشتات". ها هي السوريالية والدادائية، ومسرح العبث اليوم، تُدرَّس في كبريات الجامعات العالمية. التكعيبية، عند بيكاسو في الرسم، هل يمكن أن ننظر إليها بما تقوله وتراه، أو يراه غيرك. 

أمَّا ما علينا أن نُحافِظ عليه في النص، فهو شعريتهُ، بكل ما فيه من تجريب، وغموض، وتشويش على القراءة التي هي نمطية، تحكم على تجربة راهنة، بتجارب سابقة، وهذا غلَط في الرؤية وفي الوعي والفهم. فذهنية القياس، هي ذهنية لا تسمح بالصيرورة، بل تُعطِّلُها وتمنع حركيتها. 

أما مسألة الأجناس، فهذه أرسطية، نابعة من المسرح اليوناني الذي كان شعريًا، وليس من ملحمة هوميروس، التي فيها بدا أنَّ هذه التصنيفات لا تصمد أمام شعر شديد التعقيد في بنائه، وفي تداخل أساليبه، من حوار وسرد وحكي، ومن تداخُل للأصوات، وتنوُّع وتعدُّد في الشخوص، وحتَّى الرواة، فليس هوميروس وحده من يروي في ملحمتيه. وهذا كان سابقًا على هوميروس، في «ملحمة جلجامش» التي هي غير ما تراه وتسمعه من شعر اليوم.

وإذن، فالتجريب، هو أساس كُلّ التجارب التي كانت تعرف إلى أين تريد أن تذهب، وهو دائمًا مغامرة، والكتابة ما لم تكن مغامرة، فهي ستكون تقليدًا، وتعقُّبًا لمن مضوا من الأسلاف، الماضون والحاضرون منهم.  

(*) أين يتموقع الشاعر اليوم بالنظر إلى التوجس من ثورة الذكاء الاصطناعي؟ هل هي أيضا خارج دائرة اهتمام الشعر؟

لن تجد شاعرًا حقيقيًا لا يستشرف المستقبل فيما يقوله ويكتبه. والحداثة هي هذا المستقبل الذي تكون عين الشاعر عليه، ومن هنا كان التجريب، وكانت التجربة هي أفق هذا المستقبل، في سياق مراقبة ومُرافقة الصيرورة دائمًا.

التوجُّس من ثورة الذكاء الاصطناعي نابع من خطر الاستنساخ، ومن خلق من يكتبون باعتبارهم آلات، لا باعتبارهم ذوات. وهذا الذكاء، هو في جوهره غباء، لأنه يستخفُّ بعقل وخيال الإنسان، ولا يترك لهما الحق في مُعاناة الكتابة، وفي دخول المجهول الذي هو هذا المستقبل، بكل ما فيه من تخوم، ولا نهائيّ.

يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي وسيلة، من وسائل العمل، ويمكن أن يكون له دور في وظائف ومهام محددة، لكن، بدخوله إلى الفن، والشِّعْر، وإلى السينما والمسرح، والرسم، أعتقد أننا سنكون دخلنا الاستنساخ بالمعنى الفكري والتخييلي، وهذا أخطر ما يمكن أن يقضي على الإبداع، وعلى الفكر والفن، وعلى الإنسان بما هو عقل وخيال، وذات تخلف وتبتدع وتفكر وتكتب. 

* صحافي وكاتب مغربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.