أكد المؤرخان الجزائريان أحمد رواجعية، ومحمد الأمين بلغيث، غير المنتميين إلى التوجه الأيديولوجي نفسه في الحلقة الأولى من المناظرة التي جمعتهما، أن حركة حماس حركة تحررية، وليست إرهابية، كما يقول أنصار إبادة الفلسطينيين بالحديد والنار، والمستمرة بقتل تقليدي للأطفال والنساء والرجال، وبتجويع غير مسبوق تاريخيًا في رفح بدعوى تأديب مقاومي الحركة التي هاجمت إسرائيل يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ورغم الفروقات في طريقة الدفاع عن الشعب الفلسطيني، ومرجعيات وعلامات الوطأة الأيديولوجية التي تفسر إجابات كل واحد منهما، يدين المؤرخان في هذه الحلقة الثانية والأخيرة من المناظرة من دون تردد ومواربة المثقفين العرب الذين تألقوا بصمتهم حيال الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والآخرين الذين دانوا حركة حماس "الإرهابية" في تقديرهم، من دون القيام بذلك حيال إسرائيل، شأنهم في ذلك شأن معظم المثقفين الأوروبيين.
هنا الحلقة الثانية والأخيرة من هذه المناظرة، في سياق تأكيدها على أن الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني يجب ألا يكون خاضعًا لتوجه أيديولوجي من دون آخر.

(*) ما رأيكم في مواقف معظم المثقفين الإسرائيليين والأجانب، باختلاف مشاربهم، من الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بالشكل الذي يتقاطع مع خطاب نتنياهو؟ وما هو الربط الذي يمكن إيجاده بينهم، وبين معظم السياسيين العرب الذين يخشون الإسلاميين مثل إسرائيل، على حد تعبير كل واحد منكما، بأسلوبه الخاص في الحلقة الأولى من هذه المناظرة؟ــ محمد الأمين بلغيث: أعتقد أن طوفان الأقصى قد عبرّ صراحة عن عنصرية فلاسفة ومفكرين إسرائيليين خلافًا لمثقفين نوعيين موجودين في أوروبا وأميركا. الأمثلة كثيرة، وأقتصر على أبرزها التي تمثّلت في موقف الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، الذي كتب في تغريدة تحت عنوان "صمت غزة"، ساخرًا من علماء النبات في إسرائيل: "أعلن علماء من كلية علوم النبات في جامعة تل أبيب أنهم سجلوا بميكروفونات خاصة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تصدرها النباتات عند قطعها، أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزة، لا توجد ميكروفونات". من جهتها، كتبت الفيلسوفة الأميركية اليهودية جوديت بتلر: "ما يحدث في غزة إبادة جماعية". الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، الذي طرد من منصة محاضرات معرض برلين للكتاب، قال: "لا يمكن وضع حماس وجيش الفصل العنصري في كفة واحدة".

خلافًا لهؤلاء، كان موقف الفيلسوف الألماني هابرماس مخزيًا، حينما قال: "إن إسرائيل تدافع عن نفسها"، الأمر الذي تسبب في استياء كثير من المشتغلين بالفلسفة من موقف أحد أهم ممثلي مدرسة فرانكفورت. خلافًا للفيلسوف الألماني الشهير، أبدى طلبة جامعة هارفارد موقفًا مشرفًا مدينين ما تعرضت له رئيسة الجامعة من تهجم إثر إدانتها الإبادة التي تتعرض لها غزة، كما كتبوا أسماء حوالي 80 ألف شهيد من أطفال غزة على مدرج الجامعة، وهو موقف غير مسبوق في الجامعات الأميركية.

أحمد رواجعية : بعض المثقفين تحولوا إلى تجار تخصصوا في قضايا الإسلام، وإلى شخصيات إعلامية شهيرة بفضل اعتبار حركة حماس حركة إرهابية

ــ أحمد رواجعية: مواقف مثقفين معيّنين في الغرب بوجه عام ناتجة عن الخلط الذي تحدثت عنه في السابق من وجهة نظر سياسية، وهو الخلط الذي حوّلهم إلى تجار تخصصوا في قضايا الإسلام، وإلى شخصيات إعلامية شهيرة بفضل اعتبار حركة حماس حركة إرهابية، وترديد ذلك على مدار الساعات والأيام والشهور. التداخل بين مواقف المثقفين الأوروبيين الذين يرّوجون لهذا الطرح، وبين عدد كبير من المثقفين العرب، ناتج عن الخلط المذكور بين التطرف الإسلاموي العنيف وغير المتسامح، وبين حماس التي تقاوم ضد احتلال استعماري وفاشي صهيوني غرّسته القوى الأوروبية الكبرى بالقوة في فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية.

*) معظم مثقفي فرنسا ما زالوا يضّللون الرأي العام بتأويل مغرض للإرهاب بالشكل الذي ينفي مسؤولية إسرائيل في إبادتها أهل غزة كما أباد النازيون اليهود. كمؤرخين جزائريين، ما طبيعة المقارنة التي يمكن عقدها بين فرنسا التي استعمرت الجزائر، وراحت تصف جبهة التحرير بالإرهابية بتزكية من الروائي الموهوب الكبير ألبير كامو، وبين فلسطين التي قال قادة في إسرائيل إن شعبها مكون من حيوانات بشرية يجب إبادتها لإدخال فلسطين الحضارة الغربية. كلام قادة إسرائيل قاله قادة فرنسا عن الجزائريين تحت وطأة تنظير إرنست رينان، وجول فيري، ودو توكفيل، وأخيرًا إريك زمور، وقادة اليمين المتطرف بوجه خاص؟
ــ محمد الأمين بلغيث: فرنسا عنصرية بامتياز، وإذا قيل لك إن فرنسا علمانية فلا تصدق. ففي فرنسا، من الصعوبة بمكان أن تعبر صراحة عن رأيك، والقوانين زجرية حيال من يقف مع غزة، وبرنار هنري ليفي الزعيم الوهمي للفلاسفة الفرنسيين الجدد أبرز مثقف يقف جهارًا مع جيش دولة الفصل العنصري. بعض أحرار فرنسا من رجال السياسة أبدوا مواقف راقية ومشّرفة بإدانتهم إبادة غزة، وهنالك من طالب بمحاكمة ما يقارب 4 آلاف من الفرنسيين الذين يقاتلون إلى جانب الجيش الإسرائيلي حين عودتهم إلى فرنسا بتهمة المشاركة في الإبادة الجماعية لسكان غزة. العلاقة بين الإستعمار الفرنسي ومثيله الصهيوني واضحة، وفرنسا أبادت الشعوب والنخب عملًا بوصايا جول فيري، وألكسي دي توكفيل. تغير الزمن، لكن المبدأ لم يتغير، وحسنًا فعلت لما أضفت اسم إريك زمور، تلميذ العنصريين المذكورين. واجب إبادة الجزائريين بالأمس هو نفسه اليوم واجب إبادة الفلسطينيين المتوحشين، كما جاء في سؤالكم، استنادًا لتعبير قادة إسرائيل. نوعام تشومسكي، المفكر الأميركي الشهير، أوضح العلاقة الإستعمارية بين أميركا وإسرائيل. وشخصيًا، أعتقد أن طوفان الأقصى سيحرر الأميركيين والأوربيين والأستراليين من السردية الإسرائيلية الوحيدة.

ــ أحمد رواجعية: نعم، عدد كبير من المثقفين الفرنسيين، بمن فيهم أولئك الذين يرون أنفسهم أكاديميين ومتخصصين في الإسلام والهجرة، يقعون في خلط فكري ومنهجي رهيب كما أسلفت الذكر. إنهم يجترون ويعيدون إنتاج كليشيهات فكرية قديمة تعود إلى قرون خلت، مؤكدين أن الإسلام دين الشوفينية (إرنست رينان، وفولتير). مقلدوهم من دارسي العلوم السياسية في باريس ينشرون هذا الطرح المعادي للإسلام، مجددًا، وللشرق بوجه عام، تحت غطاء البحث الأكاديمي. الشرق الإسلامي بوجه خاص هو المستهدف أساسًا، وهو الشرق الذي يسمح حسب التعبير الجميل للمفكر الراحل إدوارد سعيد بحياة مهنية لمتخصصين أقرب إلى التجارة الأيديولوجية منهم إلى الأكاديمية العلمية. كثير من المثقفين العرب الذين عرفوا بمواقف خارجة من رحم أفكار المثقفين الفرنسيين لا يختلفون عنهم جوهريًا، وينتهجون الدرب نفسه لانتزاع رضى الغرب، والاعتراف الذي عجزوا على الظفر به في بلدانهم، والتشنيع بالإسلام هو وسيلتهم لتحقيق ذلك. بسقوطهم في المزايدة الإعلامية المعيبة، أصبحوا معروفين خلافًا لمثقفين صادقين وغير منحازين للظالم التاريخي.

محمد الأمين بلغيث : فرنسا عنصرية بامتياز، وإذا قيل لك إن فرنسا علمانية فلا تصدق...

(*) الملاحظ منذ انطلاق إبادة أهل غزة باسم الانتقام من الهجوم الإرهابي الذي قامت به حماس، على حد تعبير قادة إسرائيل، أن بعض الكتاب الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية، أو العرب المقيمين في فرنسا وخارجها، يتسابقون في التعبير عن مواقفهم التي تصب جوهريًا في السردية الإسرائيلية. بعد الطاهر بن جلون، وكمال داوود، اللذين جهرا بموقفيهما المناهض لإسلاميي غزة، ياسمينة خضرا تعجب لموقف الذين يهللون لهجوم حماس يوم السابع من أكتوبر 2023 قائلًا: "إنه ليس إنسانًا"، أما محمد سيفاوي، فلم يتردد في دعوة نتنياهو إلى الإسراع في القضاء على حركة حماس. ما رأيكما؟
ــ أحمد رواجعية: نطلق على هذا النوع من الكتاب في فرنسا، وفي الغرب بوجه عام، اسم عرب الخدمة، وهو التعبير القوي الناطق بسلبية تؤكد الدور الذي يقومون به. الجهات التي ترعاهم وتوظفهم، وتزكي مواقفهم، وتبارك خدماتهم المعادية للمسلمين، هي نفسها الجهات التي تحتقرهم في أعماقها. كتاب "مثقفو التزييف" لباسكال بونيفاس، الذي تناول الإعلاميين الفرنسيين الذين اشتهروا بتشويههم للقضايا التي يدعون معرفتها، هو كتاب أنصفهم. عرب الخدمة هم حركى المجال الثقافي(*)، الذين يسعون للترويج لقضايا خاسرة تاريخيًا مسبقًا.
ــ محمد الأمين بلغيث: لخصّ الصحافي الراحل محمد تمالت، رحمه الله، موقف هؤلاء الكتاب بوصفهم بـ"المبّشرين الجدد". وسبق للروائي رشيد بوجدرة أن كشف عن توجههم الخادم للفرنكوفيلية الاستعمارية في كتابه "زناة التاريخ". نسيتما بوعلام صنصال البارع فقط في نقد المجتمع الجزائري، وفي إظهار مباهج الحياة فيها قبل الاستقلال. صنصال الساكت على إبادة غزة سكت قبل اليوم على إبادة الجزائر، وهو مسكون بنوستالجيا الحنين لفرنسا الاستعمارية البهية والتعايش السلمي بين الفرنسيين والجزائريين، مجّسدًا مقولة فيكتور هوغو، وإرنست رينان، "الاستعمار نزعة إنسانية"، وهذا ما يمكن سحبه على قول نتنياهو الذي يدّعي إدخال الحضارة على الفلسطينيين. بوعلام صنصال، وكمال داوود، وآخرون، جاء ذكرهم في سؤالكم، وــ كما قال الأستاذ رواجعية ــ ما هم إلا حركيين ثقافيين يخدمون الاستعمار. لست الوحيد الذي يدين هؤلاء المتصهينين، وسبق أن حكم عليهم الأساتذة أحمد دلباني، والراحل عبد العزيز بوباكير، وعبد العزيز خالدي، غير الإسلاميين.

هامش:
(*) "الحركى" تسمية تطلق على الجزائريين الذين التحقوا في أثناء الثورة التحريرية بصفوف الاستعمار.