}

مكتبة الرئيس الشاعر ليوبولد سنغور تعود إلى مسقط رأسه

بوعلام رمضاني 23 يونيو 2024
تغطيات مكتبة الرئيس الشاعر ليوبولد سنغور تعود إلى مسقط رأسه
الشاعر السنغالي والرئيس السابق ليوبولد سنغور (1906ـ2001)
الرئيس السنغالي الشهير الراحل ليوبولد سيدال سنغور (1906 ــ 2001) ليس ككل الحكام عالميًا وأفريقيًا وعربيًا، ولم يصنع الحدث مؤخرًا في باريس ميتًا في قبره كأشهر رئيس أفريقي، كما يعتقد كثر لأول وهلة، وصنعه حيًا يرزق بشكل لم يعرفه التاريخ الذي تمتزج من خلاله السياسة بالثقافة والإبداع الأدبي والفكري تحديدًا. الكتاب هو الذي أعاده إلى واجهة الحدث، ولو في حلة سياسية بسبب تاريخه كأشهر رئيس أفريقي جعل من القراءة والكتابة الفكرية والشعرية مبرر وجود. المكتبة الضخمة (1200 كتاب) التي استردها الرئيس السنغالي الحالي باسيرو ديوماي فاي ــ بعد عودته من زيارة رسمية إلى باريس في العشرين من الشهر الجاري- وحسب ليا ليزا وسترهوف مراسلة "إذاعة فرنسا الدولية"، هي المكتبة الأولى من نوعها في تاريخ القادة الأفارقة والعرب الذين عاشوا في الخارج إثر تنحيهم من السلطة كما حدث مع سنغور عام 1980، أو مع آخرين تعددت وتنوعت أسباب خروجهم من الوطن الأم. ويجدر التذكير بأن مكتبة الرئيس الراحل الكبير سنغور، والتي تنام في سفارة السنغال في باريس لحظة كتابة هذه السطور قد تلقفها الرئيس السنغالي ــ الذي يحدث نقلة سياسية غير مسبوقة في بلده، إثر فوزه على الرئيس السابق ماكي سال. واتخذ الرئيس الجديد قرار إعادة شراء مكتبة سنغور في شهر أبريل/ نيسان الماضي من شركة فرنسية كانت تنوي بيع عناوينها الثمينة في المزاد العلني. وتم ذلك عمليًا حسب وكالة الأنباء الفرنسية بعد صدور قرار رئاسي سنغالي بتعليق عملية البيع، والشروع في مفاوضات بين جان ريفولا المحافظ والممثل للشركة الفرنسية، والحاجي ماغات ساي، السفير السنغالي في فرنسا.

استراحة مكتبة رئيس مثقف
مكتبة السياسي والشاعر والمفكر المثقف الذي كان رئيس السنغال بين أعوام 1960 و1980، والمدافع الشرس عن الزنجية والفرنكفونية في الوقت نفسه، حطت بباريس ملتقطة أنفاسها في مطلع الشهر الجاري قادمة من مدينة "كاين" الواقعة شمال غربي فرنسا والتابعة لمنطقة نورماندي. تحدث إبراهيما لو، مدير الكتاب والقراءة في السنغال، للإذاعة الفرنسية المذكورة بعد سفره إلى "كاين" لترسيم إجراءات نقل مكتبة الرئيس الراحل الشهير سنغور إلى دكار قائلًا: "كان من الضروري والحتمي إعادة مكتبة الرئيس الراحل الكبير إلى مسقط رأسه باعتبارها تراثًا سنغاليًا، وهو الأمر الحيوي الذي يجب توسيعه وتكريسه بتطبيقه على شخصيات سنغالية أقامت في الخارج، وبذلك يمكننا تقاسم ذاكرة ثقافية جمعية مشتركة، وهذا ما كان يسعى إلى تحقيقه الرئيس السنغالي الراحل الشهير"، على حد تعبيره. ويجدر بالذكر أن أهمية كتبه التي "استراحت" في باريس لا تفسّر فقط بكميتها الهائلة والنوعية، بل برمزيتها التي تحيلنا إلى مبدع وقارىء نهم، وتتخطى رمزيتها المبدئية، باحتوائها على كتب نفيسة، ومن بينها الكتب التي قامت بتوقيعها شخصيات فكرية وأدبية شهيرة للرئيس السنغالي الراحل، والتي تقدر بحوالي 343 نسخة، ومن بينها توقيعات جاك بريفير، ولويس أراغون. وستوضع عناوين مكتبة سنغور في مرحلة أولى في بيته، أو في متحف الحضارات الأفريقية، ريثما تنتهي أشغال بناء المكتبة الوطنية التي ستتضمن أرشيف وكتب الرؤساء السنغاليين السابقين. الرئيس السنغالي الحالي الذي جعل من ظفره بالحكم مرحلة تاريخية جديدة تؤسس لقطيعة مع الهيمنة الفرنسية على وطنه، كما فعل ساسة أفارقة قلائل قبله، لبى نداء العشرات من المثقفين السنغاليين الذين دعوه إلى استرداد مكتبة الرئيس الأفريقي والمبدع العالمي الراحل سنغور، باعتبارها رمزًا تراثيًا سنغاليًا لا يقدر بثمن. أهمية مكتبة سنغور ليست هامة مبدئيًا برمزيتها المتعددة التجليات بوجه عام، وهي مصدر تاريخي وفكري خاص يكشف عن حساسيات وتوجهات وقناعات وأذواق الراحل سنغور في مجالات إبداعية شتى ربطته بعشرات من المثقفين بين أعوام 1940 و1970.





كتب الرئيس الراحل سنغور لم تعرض كلها للبيع بأسعار خيالية كما يتبادر إلى الذهن، وحسب محافظ المزاد العلني جان ريفولا الذي تحدث أيضا لصحيفة "لوموند" قبل صدور القرار السنغالي بشراء مكتبة سنغور "فإن أسعارها كانت متاحة لعامة الناس بحكم تراوحها بين 10 و40 يورو، وقليلة هي الكتب التي تجاوزت سعر 60 يورو، وتوقيعات مشاهير الكتاب الذين عرفهم الراحل سنغور، هي القيمة الحقيقية لبعض الكتب الناطقة برمزية وذاتية تتجاوزان كل تقدير موضوعي".

تخليد بين السنغال وفرنسا
الرئيس سنغور ليس رئيسًا سنغاليًا خالصًا ــ إن صح التعبير ــ إذا استندنا إلى مقال نشر في موقع "إذاعة فرنسا الدولية" تحت عنوان "ليوبولد سيدار سنغور رجل عالمين". ونقرأ في المقال: "لقد تم تأبينه يوم التاسع والعشرين ديسمبر/ كانون الأول من عام 2001 في جو مهيب، واحتفل بالذكرى العشرين لرحيل الرئيس الشاعر في السنغال وفرنسا"، وهو الرئيس الذي استحق عن جدارة، حسب الإذاعة الفرنسية الدولية، تكريم جان بيار لونجلييه، الصحافي السابق في صحيفة "لوموند". وتمثّل تكريمه في الكتاب الذي أصدره في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2021 عن الرئيس والشاعر في قالب سيرة ذاتية نوعية وشاملة وغير مسبوقة، ولفظ الرجل غير العادي، وصاحب التجربة السياسية والإبداعية الثرية التي تركته يصنع الحدث حيًا وميتًا، أنفاسه الأخيرة بمنزله بمدينة "فرسون" الوديعة التابعة لمنطقة نورماندي عن عمر يناهز السادسة والتسعين، وهو المنزل الذي عاش فيه رفقة زوجته منذ عام 1980.
ولد سنغور في قرية جووال المطلة على الساحل الأطلسي، والتي تبعد عن العاصمة دكار بحوالي مئة كيلومتر، وينتمي إلى قبيلة سيرار المسيحية. الرئيس الأول لدولة السنغال المستقلة التي تمتعت بحكم ديمقراطي واستقرار سياسي في قارة يسودها الحكم التعسفي حسب صاحب مقال "سنغور رجل عالمين"، هو رجل سياسي استثنائي بحكم مزاوجته بين الممارسة السياسية في السنغال وفي فرنسا، كرئيس جمهورية ونائب ووزير، وبين الإبداع الشعري والتنظير، والتدريس. الرئيس الشاعر والمفكر، هو أيضًا أحد مؤسسي حركة الفرنكفونية، وعضو في الأكاديمية الفرنسية. في كتاب الصحافي الفرنسي(*) المشار إليه سلفًا، نقرأ أن الراحل الكبير كان متعدد المواهب وصاحب شخصية متنوعة الأبعاد، الأمر الذي يؤكد خصوصية مساره السياسي والإبداعي الثري. من إحدى خصوصيات مساره المتميز، عيشه بين السنغال وطنه الأصلي وبين فرنسا وطنه الثاني الذي حط به الرحال عام 1930 لينطلق في دراسة جامعية ناجحة بكل المقاييس قبل أن يعيش أهوال قرن تراجيدي ومن بينها الحرب العالمية الثانية. سنغور نجا بأعجوبة من الإعدام أثناء هذه الحرب إثر القبض عليه عام 1940، ولم يمنعه السجن الذي قبع فيه عامين من كتابة الشعر من وراء القضبان. رفقة إيميه سيزير، وليون غونتران داماس، راح يدافع عن الزنجية فكريًا وشعريًا بعد نجاح باهر في دراسته بثانوية لوييه لوغران الشهيرة، قبل أن يربط صداقة قوية مع الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، وهو طالب في الجامعة. من دواوينه الشعرية المعروفة ديوان "أغاني الظل" الذي أصدره عام 1945. موهبته الشعرية لم تتناقض مع موهبته السياسية التي جعلت منه أشهر رئيس أفريقي.

السنغال وفرنسا
القيمة التراثية والحضارية والثقافية المبدئية والمرجعية للرئيس الراحل سنغور تخطت برمزيتها الخارقة الخلافات الأيديولوجية التي يمكن أن تحدث بين قادة الوطن الأول، وقرار الرئيس الحالي فاي باستعادة مكتبته لا تنقص شيئًا من توجهه الذي يناقض توجه سنغور الذي دافع طيلة حياته عن الهوية الأفريقية بوجه عام، والسنغالية بوجه خاص، داخل هيكل فرنسي فيدرالي، وليس في إطار قومي مستقل، أي خارج ما سمي بفرنسا أفريقيا، أو فرانس أفريك. الراحل الذي كان اشتراكيًا حسب موقع "ويكيبيديا" كان قمعيًا في نظر البعض الآخر، وهو الذي اختلف مع رئيس الوزراء وشريكه القديم مامادو ديا، وأدخله السجن لمدة 12 عامًا بعد الاشتباه في قيامه بالتحريض للقيام بانقلاب ضده. خلافًا للذين يقولون إنه أسس دولة الحريات والقانون، يعد في نظر آخرين مستبدًا بتأسيسه دولة الحزب الواحد، ومنع جميع الأحزاب السياسية من المنافسة. كان الراحل مؤسس الكتلة الديمقراطية عام 1948، وأول أفريقي يدخل الأكاديمية الفرنسية عام 1983 بحضور الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، وصاحب جائزة نونينو عام 1985. الراحل الذي كان نقيض الراحل الكبير الآخر فرانتز فانون، أحدث الإجماع باعتباره إحدى أهم الشخصيات الثقافية والأدبية الأفريقية في القرن العشرين. تميز الراحل شعريًا، وحصل عام 1978 على جائزة سينو ديل دوكا العالمية. قصيدته "نداء العرق من سابا" المنشورة عام 1936 مستوحاة من دخول القوات الإيطالية أديس أبابا عام 1948، ودفعه حبه للفرنكفونية إلى تحرير مجلد عن الشعر الفرنكفوني بمقدمة لجان بول سارتر. نقرأ أشعاره على قبره، ومن بينها: "عندما أموت يا أصدقائي... ضعوني تحت شادو جوال على التل... على ضفة نهر ماما نجيدي بالقرب من أذن حرم الثعابين... من حجارة الحصن أبنوا قبري... سوف تصمت المدافع... وستتعطر نباتات الدفلى البيضاء والوردية". من أعماله الكثيرة "صلاة بالأقنعة" 1935، و"أناشيد أومبير" 1945، و"مختارات من الشعر الجديد" 1948، و"الأمة والطريق الأفريقي للإشتراكية" 1961، و"قصائد" 1964، و"الأغاني القاهرة" 1979، و"قصيدة العمل مع محمد عزيزة" 1980.
في الأخير، يجدر بالذكر أن المغرب استعادت مكتبة المفكر الجزائري الكبير الراحل محمد أركون بطلب وسعي من زوجته المغربية كما يقول بعضهم، ورحل المحلل النفساني والأنثروبولوجي المعروف مالك شبل من دون دخول مكتبته الثرية إلى الجزائر، وإلى سكيكدة مسقط رأسه تحديدًا، فهل ستبقى مكتبة المؤرخ الكبير محمد حربي في باريس بعد رحيله، وهو يموت الآن ببطء؟

هامش:
(*) ليوبولد سيدار سنغور ــ دار بيران (2021).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.