}

شاكر الأنباري: تجاوزت مفهوم الهوية المرتكزة على اللغة والقومية

علي العائد علي العائد 16 يوليه 2024
حوارات شاكر الأنباري: تجاوزت مفهوم الهوية المرتكزة على اللغة والقومية
شاكر الأنباري

يقدم ضيف "ضفة ثالثة" الروائي العراقي شاكر الأنباري في هذا الحوار أمثلة عديدة على ما عاناه الإنسان العراقي خلال أكثر من خمسين سنة من زحف الخراب في بلاده، مستعينًا بثقافته، وموظفًا ذاكرته كفرد قاوم ذلك الزحف، في محاولته للنجاة، وكي يكون شاهدًا على مستقبل بلاد الرافدين، التي هضمت كل مآسيها عبر تاريخها المديد، ولفظت في كل مرة غزاتها وأسباب خرابها لتنهض مثل عنقاد الرماد من رمادها.
يقول الأنباري في حوار سابق: "أنا لا أكتب الرواية لغويًا، أو ذهنيًا، بل تفرض وقائع معينة نفسها على وعيي وتفكيري، فأبدأ بنسجها فنيًا كرواية. تشبعت بمدينة دمشق مكانًا وحبًا، فكتبت "الراقصة"، وأرهقني الانتقال بين أوروبا والشرق، فكتبت "موطن الأسرار"، ومررت بتجربة روحية عميقة هي كيفية الوصول إلى الوعي الذاتي للجسد والروح، فكانت رواية "كتاب ياسمين"، وهكذا بالنسبة لروايتيّ "ليالي الكاكا"، و"ألواح"".
في حصيلة إنتاج الأنباري الأدبي 13 رواية(*)، وخمس مجموعات قصصية، فضلًا عن عدد من الكتب التي ضمنها مقالاته في الصحافة العراقية والعربية. وبمناسبة صدور روايته الأخيرة "أموات في متحف الأحياء"، هذا العام، نحاور هنا الأنباري في مجمل مسيرته الأدبية، ورؤيته لشؤون أدبية، من داخل متاعب ومزايا غربته في الدنمارك عن بلاد عطَّل حياتها الخراب:

شاكر الأنباري في حديقة منزله في الدنمارك بعدسة ابنه شام


المنفى
(*) من منفاك في الدنمارك، وقبل ذلك في دمشق، غالبًا ما كنت تكتب عن العراق. لكن في روايتك الأخيرة "أموات في متحف الأحياء" كتبت عن مأساة اللجوء السوري. كيف عالجت ذلك في الرواية؟
أضخم تجربة حياتية أمتلكها كانت التجربة العراقية، من طفولة، وقرى فراتية، وحروب وصراعات طائفية وتعصب ديني، وصداقات، وحوارات، وأمكنة، إلى تكوين ثقافي وعلمي وسياسي. يلف كل ذلك حنين دائم إلى تلك الأرض التي ولدتني ذات يوم في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. وجاءت الرحلات التالية بين البلدان والقارات، بين اللغات والحضارات والأوابد، لكي تتأسس على تلك النشأة. امتزج هذا بذاك، ورافق كل ذلك قراءات متنوعة أوصلتني في النهاية إلى ضفاف الحكمة التي تخصني. وكانت آخر رواية لي "أموات في متحف الأحياء" التي صدرت عن دار سطور العراقية في 2024 تدور حول التجربة القاسية للاجئين السوريين وهم يجتازون البحار والبلدان هروبًا من الوضع الكارثي في سورية. عالجت تلك الثيمة عبر شخصيات تعيش في مدينة أوروبية، وتسترجع الكوابيس التي واجهتها في طريق البحث عن مكان آمن. شخصيات تعيش انشطارات المنفى، والبيئة الجديدة، والماضي الجارح مثل شفرة قاتلة. وأستطيع القول إن كل مكان عشت فيه يمكن أن أضعه في حدث روائي أو حكائي يغني نصي ويعطيه بصمة تخص تجربتي وثقافتي.

(*) ما بين بغداد والأنبار وكردستان العراق، بالتقاطع أو التوازي مع منافٍ عديدة، تشكلت شخصية شاكر الأنباري، الإنسان والروائي. إلى أي حد ترى نفسك محظوظًا، كروائي، في تنقلك بين كل تلك الأمكنة، وفي زمن مديد منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي؟
العيش في أكثر من بلد يضيف كثيرًا للكاتب، يضعه على محك الاختبار والاتساع في الرؤية، والمرونة في تقبل الآخر، والخروج من شرنقة البيئة المحلية الضيقة، وذلك عبر الاطلاع على ثقافات شعوب ثانية، بطقوسها وعاداتها ومستوى بناها السياسية والفكرية ومعتقداتها، سواء كانت دينية، أم تراثية، أم أيديولوجية سائدة. عشت في بغداد، ودمشق، وبيروت، وطهران، وسان باولو، ولندن، وجبال كردستان العراق، وبروكسل، وفرانكفورت، وعشرات غيرها من المدن والبلدان، وتحولت الأمكنة إلى ذاكرة، وكل ذلك لا يتسنى لفرد ظل أسيرًا لمجتمعه المغلق. فالتجربة الشخصية توفّر المادة الأولية لكاتب الرواية خاصة، ومن منظور واسع أحيانًا. فالروائي من دون رؤية للحياة والوجود البشري، وتجربة عريضة، يصعب عليه، على العموم، الوصول إلى إنجاز عمل يمتلك الفرادة، ونكهة جديدة تضيف إلى ما سبقه من كتابات.

(*) بالطبع، لم تكن كل تلك الأماكن من اختيارك. وفي الإجبار، عمومًا، تجارب غنية، على ما فيها من آلام. كيف حضر ذلك في رواياتك؟
معظم التجارب التي عشتها، أو سمعتها، أو قرأت عنها، تحضر بهذا الشكل أو ذاك في قصصي ورواياتي. جبهات القتال، والشوارع الخائفة، الأسواق، والأنهار، والوجوه المختلفة، وغير ذلك كثير من الأمكنة والأزمنة التي عشت فيها وعاصرتها، والأصدقاء القدامى والجدد وحكاياتهم، تجلت، بهذا الحجم أو ذاك في نتاجي، عبر أكثر من خمس وأربعين سنة من الكتابة، ومتابعة الحياة الثقافية، سواء في العراق وسورية والعالم العربي، أو في العالم. طبعًا، تلك التجارب تحتاج إلى خيال ومهنية عالية لالتقاط الجوهري فيها، أي المشترك الإنساني العابر للمحلية والزمن المحدود الممنوح للكاتب. والزمن في النهاية هو الناقد الأعظم، والحكم النهائي لصفة الخلود في العمل الفني، والرواية من بينها.





(*) على ذلك، كيف يعرف الأنباري هويته الإنسانية، وانعكاس ذلك على هويتك الروائية، خاصة أنك حتى اليوم عشت خارج العراق أكثر مما عشت في العراق نفسه؟
الهوية مفهوم ملتبس، وقد تجاوزت مع نفسي مفهوم الهوية المرتكزة على اللغة والقومية والدين، أو الوطن. ونحن نعلم أن في كل مرتكز من المرتكزات تلك عثرات وهفوات وإشكالات. ومن خلال فهمي لتلك الإشكالات، توصلت إلى رؤية إنسانية لا تقف عند وطن ودين وقومية. احترام الكائن البشري وحق الاختلاف والمشتركات البشرية التي نتقاسمها مع فلاح يعيش في قرية نائية من بنغلادش، أو فرد يعاني الاحتلال في فلسطين، أو راع يهيم بين الجبال مغنّيًا على شبابته، أو شخص يتلظى في حرارة بغداد. هنالك ما يجمع البشرية في كل زمان ومكان، وهذا ما توصلت إليه، وأؤمن به، وأجسّده في كتابتي على قدر ما يتاح لي من فسحات تعبير، وحرفية تخصني.

(*) بعد الخراب العميم في بغداد، ثم دمشق، استقر شاكر الأنباري مع عائلته في الدنمارك، بعد محاولات للاستقرار في العراق، ما يشير إلى أنك لم تيأس من عودة الحياة إلى بغداد ودمشق.
أنا متفائل وإيجابي بطبعي، حين أرى الفظاعات والمآسي أفتش عن الإيجابي في الوجه الآخر من الصورة. ومدن عريقة، مثل بغداد ودمشق، على سبيل المثال، ترتكس فترة، لكنها تعاود النهوض، كون العمق الحضاري يختفي في التربة، مثل بذرة حية تنتظر الظروف الملائمة للنمو والتفتح، ثم لتنهض شجرة يانعة. صحيح أننا ندفع الثمن، لكن الحراك لا يتوقف، وهذه سمة من سمات تطور الإنسان، ودرس تعلمته البشرية طوال آلاف السنين. إن لم نستطع إعادة الحياة لمدن عريقة في الواقع، فينبغي للمبدع الحقيقي إعادتها في النص. كتبت روايات عن دمشق وبغداد وكوبنهاغن ولوفان البلجيكية وساوباولو البرازيلية، مستلهمًا فيها رؤيتي لما تعيشه تلك المدن من خلال عيون شخصيات مرت بها واستعادت ذاكرتها القديمة، ومعاناتها في الغربة ومواجهة الموت والتواصل الحضاري. وكان ذلك كله همسًا خافتًا في أذن قارئ مجهول، ربما يلتقط رسالة الأدب في كونه شاهدًا على عصر يركض مثل مجنون.

(*) قد يكون المنفى مجرد بلاد أخرى خارج مكان النشأة الأولى. وقد يكون المنفى داخل الوطن نفسه. كأمثلة على ذلك: القهر والخوف والفقر والسجن السياسي.
هو كل ذلك في الحقيقة، كم من الناس يحسون بالاغتراب والوحشة واليأس وهم يعيشون داخل بلدانهم. وكم من الناس مغتربون عن بلدانهم، لكنهم لم يتوقفوا عن العمل والتطور وإنتاج أدوارهم في هذه الحياة. حين لا تلبّى حاجات الفرد الطبيعية يعيش الإنسان اغترابًا عن محيطه، وحين يهمش الإنسان من قبل قوى سياسية متنفذة، ومؤسسات مليئة بالفساد واللصوص، ويقف ذلك الإنسان عاجزا أمامها لا بد أن يمتلئ بمشاعر العجز واليأس والاغتراب. وهذه حال الفرد العادي والمثقف على حد سواء. حين تفقد دورك في الحياة اليومية لا يمكن لك أن تعيش متوازنًا، وهذا الأمر ينطبق على غربة الداخل وغربة الخارج، فالجميع يعيشون التهميش والاغتراب والانقطاع عن حركة الحياة. وهذا قدر العراقيين كلهم، والسوريين أيضًا، وملايين اللاجئين في العالم. فالذين يعيشون في الخارج، وبلغ عددهم ملايين ينامون ويفيقون على قناعة أنهم فقدوا أدوارهم في الحياة، ومرارة العيش في بلد آخر لا يحسها سوى من كابدها سنوات. القضية تتعلق بالوجود ذاته، فحين تنشئ أطفالك خارج وطنك ومسقط رأسك، ينبغي أن تتقبل أنك ستفقدهم، هم نتاج ثقافة أخرى، وبيئة مختلفة، وهذا ما ستتذكره يوميًا، وبعد سنوات تشعر بأنك الوحيد الذي قلبه متعلق ببلدك. والاغتراب صار سمة من سمات عصرنا بسبب التطور العلمي وتلاحق الاكتشافات ومرور الزمن السريع وانهمار أنماط التواصل على الفرد في كل مكان، مما يجعل منه هدفًا للسياسات والمؤامرات والمخططات الخبيثة للوبيّات الحروب والصراعات الدينية والطائفية واللامسؤولية نحو بيئة الأرض وهي تجري تحت أبصارنا إلى حتفها بسبب التلوث والانحباس الحراري وخيارات الحروب النووية وانقراض الأجناس. البشرية تقف في رأيي على مفترق طرق، واحد يقود إلى موت الكوكب، وآخر يقود إلى الحياة والنمو والعقلانية. وشيئًا فشيئًا يواجه الجميع، منفيو الداخل والخارج، الأسئلة ذاتها. وكأن الضوء البعيد لا يوفره لجنسنا البشري سوى الفن، والأدب، والعلم، والابتكارات التي تصب في صالح الكائن البشري.

(*) هنالك دائمًا، في بيتك وقريبًا منك، ما يذكرك دائمًا بأنك منفي خارج مكانك الأول؛ شام وشيراز. هذان الشابان أليسا روايتين في أعلى صدر مكتبتك؟
رأى شام النور في مستشفى الولادة الواقع وسط مدينة الرمادي العراقية صيف 2004 وكان هناك ضجيج مصم للقوات الأميركية في الشوارع، والتفجيرات الدامية تشتعل على مر الساعات، وثمة فوضى التحول السياسي العنيف. وسمي بهذا الاسم تيمنًا ببلاد الشام، دمشق وزيتونها ونرجسها ونسائها وغوطتها ولياليها الملاح، وانتقل معنا بعد ثلاث سنوات إلى دمشق. ولم تمر سوى أربع سنين حتى جاء شيراز في مشفى هشام سنان الكائن في ساحة الميسات، ليس بعيدًا عن مقهى الروضة الذي دأبت على الجلوس فيه. وسميته بهذا الاسم تذكارًا لمدينة شيراز وشاعرها الفذ سعدي الشيرازي الذي وقفت على قبره ذات يوم من سنة 1983، وقرأت قصيدته الصوفية على بلاطة الضريح. سافر شيراز بعد ولادته معنا إلى بغداد وكان عمره شهرًا واحدًا. شام وشيراز عاشا تنقلات الأسرة من بغداد إلى دمشق فبيروت، حتى استقر بهما المقام في بيت صغير وسط كوبنهاغن عاصمة مملكة الدنمارك. يتكلمان ثلاث لغات بطلاقة هي الدانماركية، والعربية، والإنكليزية، وبلغ شام العشرين من عمره، وشيراز في السادسة عشرة. وهما فعلًا رواية حية أراها كل يوم أمامي، وأقرأ فصولها بمتعة، وكأنها كتاب رمل لا ينتهي، مثل ذاك الذي وصفه الساحر الأرجنتيني بورخيس.

التجربة الأدبية





(*) بدأت تجربتك الأدبية بالقصة القصيرة، ومن ثم انتقلت إلى الرواية، من دون عودة إلى فنك الأول. هل كانت القصة مرحلة ضرورية للانتقال إلى الرواية، كما حدث مع كثير من القاصين، وبعض الشعراء؟
القصة شذرة سردية محبوكة بدراية، وحكاية ماتعة تقتنص الزمن بعقلية تاجر محترف. جاء ولعي بها منذ حياتي في القرية، حين يتحلق الرجال والنساء حول ضوء الفانوس، أو تحت نور القمر، فتنطلق الحكايات بلا أجنحة. تطير في فضاء الريف وضفاف الفرات، كي توسّع من الزمن الكئيب، وكي تضيء بنور خفي دهاليز الجهل والخوف والظلمة. وذلك في عالم بدأ للتو تلمس طريقه نحو الحداثة. يختلط في تلك الحكايات، مثل ألف ليلة وليلة، الواقعي بالخيالي، والعقلاني بالأسطوري، وهي، كما أفكر اليوم، محاولة بشرية شائعة للخلاص من صلادة الواقع، ومن سيف الموت المسلّط على الجميع. والرواية إعادة خلق لحياة بكاملها. أن تحكي هو في النهاية محاولة صادقة وجادّة للاستمرار في الحياة رغم قسوتها. وعلى عكس عالم القصة السريع، واللحظي، والضيّق، تمتاز الرواية بالاتساع، تستوعب البشر والأمكنة، الحوارات والوصف، وجهات النظر المتباينة والرأي القاطع، والارتحالات. وتستطيع القفز في الزمن ماضيًا وحاضرًا، ومستقبلًا بعض الأحيان، أو السفر من مكان إلى آخر، مثل حياتنا المعاصرة. وهكذا جاءت الرواية أداة سحرية لامتلاك المصائر، والسفر في المجهول لإدراك سر هذا الوجود الغامض. كتبت خمس مجموعات قصصية، وغصت بعدها في فن الرواية، لتصدر لي ثلاث عشرة رواية، والرحلة متواصلة مع الرواية حتى اليوم.

(*) غالبًا ما يحضر التكوين الأكاديمي للكاتب في نتاجه الأدبي بشكل ما. هل تركت الهندسية المدنية شيئًا من أثرها في نتاجك الأدبي؟ بالطبع هنالك فارق بين التعبير باللغة، والتعبير بالمعادلات الرياضية، لكن هنالك كتلٌ في الرواية، وهنالك كتل في البناء والجسور والطرق؟
العقلية العلمية جعلت مني ناقدًا صارمًا لنصي الأدبي، فنحن نعرف أن تاريخنا الفكري والأدبي على مر القرون مليء بالإسهاب، والحشو، والاستفاضة غير المبررة في التعبير عن الفكرة، أو الحجة، أو الموضوع. وجاء ذلك بسبب عصور الانحطاط المرافقة للتراث العربي بكل تجلياته، وسقوط العقل، تاريخيًا، إلا ما ندر، في فضاء الخرافات والأساطير، وغياب الدقة، والرعب من الرقابة الدينية. وما جلبه التنوير والنهضة والعلم مؤخرًا هو الذي جعل الكاتب يوائم بين الواقع ولغته، وينزل اللغة من عرينها المقدس إلى خشونة الأرض وتفاعلاتها داخل المجتمع، حيث لا زيادات ولا إسهاب ولا فوضى تلحق بالكتابة. وكان هناك نقلة لجعل اللغة تعكس، بشكل فني، حركة الواقع وتناقضاته. ولعل دراستي للهندسة، كعلم، ورؤية للوجود، هي ما أشاعت لدي حساسية فائقة لمراقبة جملتي، وحبكة نصي، وحركة شخوصي في معظم ما كتبت من روايات. فالتناسق والتحديد والانسجام وثقل هذا الجزء وذاك من تفاصيل العمل، كلها بتأثير الدراسة الهندسية العلمية في أن يكون المصمم دقيقًا، وحاضر الذهن، في ما يظهر حول مجال بصره، وعقله، وذائقته. وضمن هذه الرؤية، أشتغل اليوم على رواية جديدة بطلها شاعر مقعد، ومشلول، يكتب ذاكرته على الهواء. كونه فقد القدرة على تحريك أصابعه للكتابة. وهي تغوص في ساعات حياته طوال أكثر من ستين سنة من عيشه داخل بلده العراق. بمعنى أنني أستبطن إنسانًا حساسًا عاش مآسي، وفظاعات، وأوهامًا واقعية وفنية، ألقت به لِحِدَّتها إلى الشلل الكلي، ليموت في النهاية وعيناه تراقبان أمواج الفرات وهي تسافر بعيدًا نحو الجنوب.

(*) الرواية الحديثة لم تعد مجرد حكاية، وعلى مستوى الفكرة أي شيء يمكن أن يكون موضوعًا لرواية. لكن الروائي العربي لا يزال محكومًا بمفردات مجتمعه العربي وخيباته من حكامه. هل تحاول في رواياتك الانعتاق من ثقل كونك عربيًا، أو شرقيًا، للذهاب نحو الرواية كفن مجرد، يتحدث عن الطبيعة، أو المناخ، أو الحب، أو القهوة الحلوة، على سبيل المثال؟
في هذا السياق، أعتقد أن أعظم منجز حققته الثقافة العربية، خلال العقود الأخيرة، هو نشر هذا الكم الهائل من الروايات. وأرى أن تلك الروايات، مع تباين مستوياتها الفنية، وأهميتها، وثائق إنسانية شاملة، نابعة من تيه حياتنا، وحيرة وجودنا، وتشظي أحلامنا، سواء كنا مجتمعات، أو أفرادًا. وثائق تنبثق من العمق لقول ما لا يقال، أو ما لا يذكر في التواريخ المكتوبة في المدونات الرسمية، أي الإعلام المسخّر، الملفّق على هوى بيئة السلطة، والمؤطر بها. الأجيال الجديدة من الروائيين ذهبت بمغامرتها الروائية إلى مساحات أخرى: التركيز على الهم الفردي، وحياته اليومية، وابتعدت عن الشعارات الكبيرة، سواء كانت قومية، أو وطنية، وراحت تروي سيرة أشخاص مشغولين بحياتهم الضيقة بالدرجة الأساس، في حين راحت اللغة تقترب من لغة الريبورتاج الصحافي القصير النفس، والجملة السريعة، الخالية من التزويق البلاغي، والأفكار اليومية. وهذه ظاهرة انتشرت مؤخرًا في أكثر من بلد عربي. قد يكون السبب في هذه التحولات فشل المشاريع الكبرى والشعارات الشمولية، وانعطاف هواجس الفرد إلى محيطه المحلي، وكوارث الحروب والمذابح، وضغط الأحداث السياسية. وكان للترجمة، الواسعة الانتشار بين الشباب، دور في الإطلالة الواسعة على التجارب العالمية، خاصة في أميركا اللاتينية. كذلك التطور التكنولوجي والاجتماعي بسبب الانفتاح الحضاري على العالم، ودخول الفضائيات إلى كل بيت، وشيوع وسائل الاتصال، وسهولة السفر.

(*) في رأيي الشخصي، لا فائدة من النقد للروائي، سواء امتدح الناقد الرواية، أو ذمها، أو كان موضوعيًا بين هذا وذاك. فالروائي يكتب فكرته الخاصة، ويخرجها بالتقنية التي يريد. هل واكب النقد إنتاجك الروائي؟ لا أقصد بالطبع هنا النقد الصحافي.
النقد في الصحافة الثقافية والأكاديمية ضعيف غالبًا، ويصب في تيار جارف من الولاءات والشللية والحسابات من خارج النصوص. وهذا بالطبع له علاقة أيضًا بحرية التعبير في المجتمعات العربية المحكومة بالسلطات الفاشلة والغاشمة المفروضة رغم الرفض. كون تلك السلطات، الحكومية والمجتمعية، تضع الثقافة، والعلم، والمنطق، في خانة الأعداء الذين ينبغي إزاحتهم عن التأثير. كل هذا يدور في موجة من اللاعقلانية، والخرافة، والتخلف، والحروب. ربما لكل تلك الأسباب لم يعد الكاتب يعير أهمية للنقد، خاصة من لديه مشروع شخصي، ويعرف مفاتيح الإبداع عبر تجربته الفردية ورؤيته للكتابة. بالنسبة لي، كتب كثير عن رواياتي وقصصي، خاصة في الصحافة، وبعض من تلك الكتابات كانت أطروحات في عدد من الجامعات العراقية، أو العربية، إلا أنها مبادرات فردية. ومثل تلك المقاربات تضيع في فوضى النقد، وانحسار الهم الثقافي في معظم المدن العربية. المجتمعات العربية في واد والثقافة الحقيقية في واد آخر. هذا ما نلمسه من انفلاش حضاري شامل، وتقهقر يسير قدمًا ليظلل أغلب البلدان العربية.

(*) في العراق، زخم روائي لافت تدلنا عليه، أحيانًا، ترشيحات الجوائز. مع ذلك، لا نعرف عن الرواية العراقية إلا قليلًا. هل تقرأ حركة التأليف والنشر في العراق بشكل إيجابي، أم أن تدهور الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أثر سلبًا على الثقافة العراقية؟
الثقافة العراقية ليست بخير، ولا ينفصل الأمر عن تردي الواقع العراقي على المستويات كافة. والملاحظ أن هنالك أمراضًا بدأت تتغلغل في الجسد الثقافي كانعكاس لواقع مريض، مثل الشللية، والطائفية، والمناطقية، وفقدان التماسك الفكري، واستنساخ فج لتجارب الشعوب الأخرى، وتشوش مفهوم المواطنة والانتماء. وإذا نظرنا إلى الثقافة كمجموع روافد قادمة من حقول متنوعة، كالسينما والمسرح والرواية والنقد والتشكيل والرقص والموسيقى، فنحن نلمس تهميش كل هذه الروافد. تهميشها من قبل الحكومة ومؤسساتها أولًا، ومن قبل الفكر الديني الطاغي على الشارع، الأمر الذي حوّل الثقافة إلى مشاريع فردية، وليس حركة اجتماعية يقوم بها مجتمع برمته.




هنالك زخم كبير في إنتاج الروايات، سواء في داخل العراق، أو خارجه، وهذا يعود إلى قدرة الرواية على صياغة يوتوبيا بديلة عن الحياة الواقعية. يوتوبيا يمكن فيها قول ما لا يقال، ورسم ما لا يرسم، واقتراح حلول وصياغات لعالم بديل. هذه المسيرة يشترك فيها من يعيش في الداخل، أو الخارج، فالأجواء بعض الأحيان تتشابه لدى الكتّاب، والجميع تقريبًا يشترك بأساسيات سردية تنتمي إلى المراحل التي عاشها العراق في العقود الأخيرة. الاختلاف ينتج في براعة الفن الروائي، وهذا يعتمد على قدرة الشخص ذاته، أي الكاتب، ولا يعني مكان الكتابة شيئًا كثيرًا. ربما تتوافر للكاتب الذي يعيش خارج العراق إمكانية أكبر للنشر، والاطلاع على ثقافات، ولغات، وأمكنة، وحرية أكبر لتناول الحدث وتحليل الشخصيات. لكن رغم هذا تظل القضية محصورة بالبراعة الشخصية، سعة الأفق، الثقافة، الخبرة، التجربة الحياتية، انتقاء المادة الأولية للرواية. بالمحصلة ثمة زخم روائي كبير، لكنه غير معتنى به من قبل المؤسسات الوطنية، فهو مشتت بين البلدان. الكتاب مشتتون، الكتب المطبوعة تنهال بغثها وسمينها، إلا أن ثمة غيابًا في لملمة تلك الروافد الروائية، عبر مهرجانات روائية مثلًا، وتبني مطبوعات الكتّاب، وربطهم بالوطن والتقريب في ما بينهم، وتشجيع النقد الأكاديمي والمؤسساتي. الرواية العراقية تكتب اليوم التاريخ الحقيقي لما جرى في حقبة الخمسين سنة الأخيرة، وهي عادة ما تكذّب مذكرات الساسة، وأطروحاتهم، وتحليلاتهم للأحداث، كونها أكثر صدقًا بملايين السنين الضوئية.

هامش:
(*) روايات شاكر الانباري: "الكلمات الساحرات" (1994)؛ "ألواح" (1995)؛ "موطن الأسرار" (1999)؛ "كتاب ياسمين" (2000)؛ "ليالي الكاكا" (2002)؛ "الراقصة" (2003)؛ "بلاد سعيدة" (2007)؛ "نجمة البتاويين" (2010)؛ "أنا ونامق سبنسر" (2014)؛ "مسامرات جسر بزيبز" (2017)؛ "أقسى الشهور" (2019)؛ "نشيدنا الحزين" (2022)؛ "أموات في متحف الأحياء" (2024). فضلًا عن خمس مجموعات قصصية، هي: "ثمار البلوط" (1989)؛ "شجرة العائلة" (1990)؛ "أنا والمجنون" (1990)؛ "تشكيل شامي" (1997)؛ "أهواء غامضة" (1998).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.