}

خيرات الزين: كل نبض فنّ في قلبي قِبلته القدس

دارين حوماني دارين حوماني 17 يوليه 2024

 

"ظ: مشّط الظلام شعره، تناثر على الأرض فاستفاقت منه ظلالنا... ض: هو الضوء ضاجع ضده فكان الضحى في ضفيرة الصباح... ذ: هل هي وليدة ذوق أو ذهب الصمت أو آخر الملاذ..."- هكذا تجعلنا الفنانة التشكيلية والكاتبة خيرات الزين أمام صور شعرية رمزية لكل حرف من حروف الأبجدية في كتابها "منام الماء". لكل حرف معنى أعمق من معناه، ولكل لون في لوحاتها معنى آخر يخصّها وحدها... وبيروت نفسها مضادّة لنفسها في مقهى خيرات الزين... افتتحت خيرات مقهى مجانيًا في المبنى الذي تملكه غرب بيروت، حتى أصبح "منتدى خيرات الزين الثقافي"، لا بل أصبح قلب خيرات الزين الثقافي، هناك نشعر أن قلبها مفتوح لبيروت كلها، لكل الأحباء الذين يرحلون تباعًا مع غصّة في كل واحد منا، نصير نعدّهم... من بقي بعد؟... في مقهى خيرات الزين يجتمع من تبقّى لنا، كأنهم يسحبون لنا شيئًا من ماضي بيروت، بيروت المنهزمة التي سقطت أكثر مرة، ما حدث ليس الحروب العسكرية والسياسية والاقتصادية المتتالية فحسب، ما حدث شيء آخر أيضًا لبيروت، ثمة هزائم وطأتها ترتبط برحيل الأحباء وموت المعاني، لا ندري من أين ينبت كل ذلك الفقد، لكنه يحصل... ومع خيرات نستعيد جزءًا مما فقدناه، كأنها حارسة ماضينا الذي لا نريده أن يتلاشى... وفي مقهاها رسمت خيرات على الطاولات وعلّقت لوحاتها على الجدران، وفي ألوانها تعتمد خيرات على عدد من البقع الجغرافية، قريتها شحور، بيروت، وفلسطين، هي ثلاثية اللون والمعنى، مع ما يتعلق بها، كوّنت مشتقات أعمال وثيمات خيرات الزين التي عُرضت في بيروت وحول العالم في عشرات المعارض الفردية والجماعية.... وخيرات لم تفارق مخيّمات اللجوء الفلسطينية في لبنان منذ خمسة وعشرين عامًا، اقترحت بنفسها تعليم الأطفال الفلسطينيين الرسم في ورش رسم مجانية، وفي حديثها عنهم نشهد على بلاغة في الخيال وفي الحزن لدى هؤلاء الأطفال... عن تلك الثلاثية، كان لنا هذا الحوار معها.

(*) أود أن نعود إلى ذلك الزمن الذي دفعك للرسم، شيء من طفولتك، شيء من قرارك بالتوجّه للرسم، شيء من الشغف بالطبيعة الذي يأتي أولًا مع الذات الأولى للفنان... هل كانت قريتك الجنوبية شحور ملهمة لك؟

نولد في المكان ثم يولد المكان فينا... لكل ضيعة قابعة في حضن التاريخ رائحة ولون، يمشي فيها الزيتون، يواكب التين والطيّون، يصفّق لهما فتختبئ الفراشات البيضاء في مناديل الأمهات. يمرّ في قريتي شحور نهر الليطاني. من مائه شربت ألوان النضال والكرم، واستمدّيت يقظتي من نعس جماله. أصابتني فتنة ألوانها فحاكيتها في لوحاتي وكلماتي. راقني لون صخورها الأسمر، فاستعرتُ منه لون بشرتي. أتمنى أن يكون لي أثرٌ في ضيعتي، فمن لا ينتمي إلى مكان، لا يبقى أبدًا في الزمان. 

افتتحت خيرات الزين (إلى يسار الصورة) مقهى مجانيًا في المبنى الذي تملكه غرب بيروت، حتى أصبح "منتدى خيرات الزين الثقافي" 


(*) تحبين أن يكون العمل الفني متكلمًا وليس تجريديًا صامتًا، معتمدة على الواقعية التعبيرية في أعمالك، لوحة تجعلنا نسأل لماذا الفن إن لم يكن لهذا السبب... حدّثينا عن أسلوبك وهدفك من اللوحة إذا قلنا، أو رغبتك في ما تبثّه اللوحة... وعن معنى اللون في لوحاتك؟

اللوحة تؤثّث المكان وتترك الزمان خلفها، ولكلّ فنان مشروع وجداني يتأسّس في أعماقه ليقول شيئًا جميلًا لهذه الحياة. الفن صراط الحب في كل آن، والحب هو الطاغية الوحيد الذي يمثّل له الإحساس، والانفعال حركة الإحساس المفتش عن ذاته وعن سواه. استلهام التراث شرط لا بدّ منه لخلق الجديد، لوحتي تعبيرية تستند إلى خلفية تجريدية ترتبط بالألوان، المدرسة التجريدية لها قواعد وشروط، تمامًا مثل الخط العربي، البعض يظن أنه من الفنون التي لا تقول شيئًا وأنه للتعبير عن الأمور النفسية غير المفهومة. الفنان الذي لا يتقن لغة الإنسان لا ينتج إلا الجماد، وكل إبداع يحتاج إلى إرادة تأمر، أو إحساس عميق حتى لو كان مروره خاطفًا. فاللوحة حكاية لها لغتها الخاصة، وأحيانًا تكون قصيدة بألوانها، وأحيانًا أخرى هي لحن جميل بما تتركه من أصداء.

اللون يقول المعنى، فالأزرق جنّي الصوت، الأسود كافيار الألوان، للبنيّ صوت خافت يثير شهوة التراب، الأصفر حشمة القمح، الأخضر لعبة الأشجار، للأبيض بسمة الأنبياء، أما البنفسجي فهو ظلّ الجمال المراوغ.

(*) يطوّر أدورنو في كتابة "نظرية جمالية" فكرة أن الفن يشكّل "وعد سعادة"، لكن حق الفن في الوجود في المجتمع الحالي بات مهددًا، بل يتكلم أدورنو عن إمكان نزع "جمالية الفن"، أي على وقت سيتوقف فيه الفن أن يكون فنًا. كيف يتجّه الفن حاليًا في لبنان والعالم العربي، هل من تأثيرات ما بعد حداثية قد تنزع عن الفن معناه؟ 

وجدت الألوان مع بدء الوجود، والفن موجود بذاته وكامل بصفاته ومستقلّ بأدواته، لم يسبق العلم فقط، بل سبق حتى الكلام. أما في زمن العولمة، فتجار الفن يحاولون تحويله إلى مجرّد سوق للعرض والطلب. وهنا أسأل إذا كان بإمكاننا عولمة الحلم والإبداع؟ كل واحد منا يحلم بلغته وتراثه وألوانه، وكأني الآن أرى المبدعين كالنيام، فإذا انتبهوا رسموا.

(*) فلسطين حاضرة دومًا في أعمالك، أكثر من معرض كان لها وعنها، وتقولين: لا أريد من الحياة إلا أن تتحرر فلسطين، لهذه الدرجة فلسطين وجع خاص فيك تحوّلين وجعك وإحساسك بفلسطين إلى شيء عام، من أي حيّز في داخلك تراكم هذا الوجع؟

فلسطين تكاملت فيها الأرض والسماء مهدًا ولحدًا، إنها لوحة العرب الأولى إلى يوم الدين، وكل نبض فنّ في قلبي قبلته القدس. فلسطين لم تعد مجرّد وطن، ولا أثرًا مقدّسًا، بل أصبحت هوية كل حرّ في العالم.

(*) أعوامًا أمضيتها في تعليم أطفال المخيّمات الفلسطينية الرسم ضمن ورش للرسم اقترحتِها بالمجانّ على المخيّمات، من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوب لبنان، ماذا وهبك تعليم هؤلاء الأطفال وأنت التي كنت تسعين لمثل هذه الأعمال، التي قد تكون مرهقة كونها متواصلة من مخيم لآخر؟

الأطفال والشباب نصف الحاضر وكل الحاضر وكل المستقبل، حملوا سيف الألوان وقاوموا بالفكر، استمدوا ألوانهم من رحيق الأرض، فوزّع النحل المقاوم ألوان عسله على كل الصامدين، لا يعيش وطن إذا لم يعش في ذاكرة الأطفال ترسم كي لا ننسى، أليست الذاكرة لونًا من ألوان الخلود. حسبتُ أني أعطيهم سرّ اللون، فوجدتني أستوحي منهم ألوانًا، فلكل شيء سرّ وظلّ، حتى السؤال عندهم له لون وصمت. ذات يوم سألني أحدهم: ما لون الأمل، وما هو لون العودة؟ حتى بتّ أسأل نفسي ما لون الآن؟

خيرات لم تفارق مخيّمات اللجوء الفلسطينية في لبنان منذ خمسة وعشرين عامًا، اقترحت بنفسها تعليم الأطفال الفلسطينيين الرسم في ورش رسم مجانية


(*) في لوحاتك آيات قرآنية بخط عربي أصيل على مساحة لونية ترابية مستقاة من معنى الآية، ثمة أيضًا أجواء شرقية، وزخرفات، هذا الأسلوب ماذا قصدتِ منه؟

في الآيات تصلّي الألوان وتسجد الحروف، فيعود الفن إلى نسبه الإلهي. صلاة الألوان مستجابة عند خالقها، عندما تسودّ السماء يطلّ المطر، وعندما تنضج الثمار ترقص الأشجار، ومن محبة النبي تنهض الأزهار. للاحترام جمال في عالم الآيات، يُطلق سراح الخطوط متى تصبح اللوحة ووليدة مخيّلة تومئ للحقيقة ولا تتفلسف عليها. لا فلسفة في الفن إلا فلسفة الجمال، ولا تأكل الأفكار الكبيرة صغارها، فلكل مولود حقّه في الحياة.

(*) غبتِ عن بيروت لفترة طويلة، منذ ما قبل الحرب الأهلية حتى عام 1986، ماذا فعل فيك هذا الغياب، هل شدّك من جديد إلى المدينة المنكوبة وقتها، والآن، كما يشدّنا الغياب إليها رغم تعاستها...

بيروت تبدأ بكلمة بَيْ... لأنها تحتضن ذاتها وساكنيها. إنها مجموعة ثقافات وأحلام وأسرار، لولا بيروت، ما هبطت عليّ نعمة اللون، وما تعلّمت أن أتلو كل يوم صلاة الحروف، من أفضالها عليّ يدٌ بيضاء ترسم كل يوم حبّها الأخضر، وما زالت تزرع في أحلامي زهرة مسائية يتفتّح من أوراقها الصباح. بيروت لن تُهزم، فإذا ذبلت أزهارها يبقى عطرها فواحًا... لن أغادر بيروت فمن علّمني لونًا كنتُ له ظلًا...

(*) تعني لك بيروت كثيرًا، أحباؤك الأدباء والفنانون الذين يرحلون تباعًا وغيرهم العديد... حتى قررت أن تفتتحي منتدى ثقافيًّا جمعهم من جديد إذا قلنا إن غياب الشاعر عصام العبدالله شتّتهم نوعًا ما، إن لم أخطئ، كونه كان فيه شيئًا من قوّاد السفينة الذي يقرّر في أي مقهى يجتمعون، أخبرينا عن هذه الخطوة الرائعة، والمكلفة، كيف جاءتك هذه الفكرة، وصولًا إلى أن أصبح المكان مقرًا لتوقيع كتب ومعارض فنية...

عصام وحسن عبدالله، غازي قهوجي، موسى وهبه، رحلوا من أماكنهم، أمثالهم لا يغادرون الذاكرة، وهم باقون في الوجدان، ودائمًا يشعر روّاد الملتقى أنهم ما زالوا هنا في المكان، فبعض زوّار المخيّلة يستحقون التكريم والترحيب أكثر من بعض زوّار الموقع. الملتقى في قلب بيروت، هو بعض وفاء لتاريخ بيروت، من يزرع وردة في أرض بدأ يأكلها اليباس أفضل من البكاء على الأطلال. الشيخوخة ليست للجبناء، ها هو الخريف يولد محتضرًا لكنه ينتج أجمل الألوان.

(*) تنشرين من وقت لآخر على صفحتك الفيسبوكية صورة لوحة لك وتكتبين إلى جانبها ما يشبه الومضة الشعرية، هذا الجمع بين اللوحة والشعر، وكان لك تجربة فنية مع قصيدة "أسمّيك الجنوب"، يعيدنا ذلك إلى الفيلسوف اليوناني بلوتارخ بقوله "الرسم شعر صامت والشعر رسم يتكلم" قبل ألفي عام. حدّثينا عن هذه التجربة اللونية مع الشعر... وهل سيدفعك يومًا لقول ما تريدينه شعرًا فقط؟

للريشة أن تكون وحيًا للقلم، فالحرف فاتح الفنون إلى التجريد، يرفعه الضوء عن الورق ليصل إلى أعلى المقامات، ندرك حينها أن الحرف يفكّر. نعم أنتقل من غصن اللون إلى غصن الحرف، وفي رحلة الانتقال أشعر أن اللون والكلمة هما جناحا طائر الإبداع حين يغنّي.

(*) قريبًا يصدر لك كتابان كما علمنا، نود أن نتعرّف إلى موضوع كل كتاب، وما هي مشاريعك القادمة، وهل لديك معرض فني قريب؟  

بعد كتابي الأول "منام الماء"، سيصدر "منام العطر" وهو سيرة ذاتية لأربع وعشرين زهرة. والكتاب الثاني "حارسات الخوف" وهو قصص قصيرة. والآن أحضّر لمعرض فني في شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم.


من أعمال خيرات الزين، وتشكّل لوحة الحرف "ث" إحدى لوحات كتابها "منام الماء":




الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.