}

نداء النمر

لؤي حمزة عبّاس 22 يناير 2018
قص نداء النمر
لوحة للفنان العراقي فائق حسن

 


والآن، ماذا تقول يداك؟
عن مدن غريبة ستحكي، عن أناس بعيدين، عن رجل بقبعة خوص ينزل سلماً إسمنتياً يؤدي إلى النهر، يتوّقف على إحدى الدرجات ثم يخلع قبعته ويضعها تحت إبطه ليخرج باليد نفسها شيئاً ما من جيب بنطلونه (قنينة، أو رسالة، أو شمعة، أو صورة فوتوغرافية) ثم يلقي به إلى النهر سيلتقطه بعد أن يختفي ظل الرجل من على سطح الماء أناس لا يتذكرون يمرون بلا ذكرى، ليخوض عبيد بخيولهم في النهر حيث تنتظرهم في الجهة المقابلة خناجر قصيرة معقوفة لامعة الحواف، ثم يتبعهم جمع من القتلى بجراح بليغة طازجة، تحكي عن جموع السحرة وهم يقودون قطعاناً من القطط البرية ويلوحون، لأيديهم المنفعلة معنى واحد تلتقطه من بين الجلبة الحيوانية وتقول إنهم يصرّون على أن لرغباتهم حياة أخرى، تردد بعد ذلك مبتسماً يا للسحرة، كلُّ ذلك يحدث قبل أن تعبر الصبية من أدنى الخنصر في يدك اليسرى إلى أعلى السبابة في يدك اليمنى تتبعها رياح الحقول المحروثة والغابات وهي تمر بمعلف وحجرة بماكنة سقي وكراج متروك، ثم تفتح باباً خلفياً، وتدخل منزلا ستائره القرمزية قديمة لكنها مزهرة ولامعة، الفتاة ستصعد سلماً خشبياً، يدها تمس الدرابزين بألفة بادية وتمضي هادئة الخطى إلى آخر غرف الطابق العلوي تفتح الباب وتدخل، أمام المرآة ستستجيب لنداء الحقول المحروثة ونداء الغابات فتفكّ أزرار قميصها، وتمنح عريها لفضاء الغرفة، هكذا تقول الحكاية كما تقول أشياء لا عدّ لها عن وصايا وإغراءات، عن خيبات ودسائس، عن مذابح وتصورات عن طقوس لن تتم إلا في راحتي يديك، ثم تعرف الطريقة التي تنتهي بها الحكاية والطريق الذي يؤدي غالباً إلى حكاية أخرى هي صورة الأولى أو صداها، بالطريقة التي بها والطريق الذي قادك، حيث الرمال تؤدي إلى مدن والمدن إلى فسحات، فتعرف أنك على طريق الحكاية من دون أن تعلم إن كنت في بدئه أو في منتهاه.
في الصباح التالي سترى خطاً مستقيماً من البجع يمشي مزهواً على الرمال فيذهلك المشهد بفتنة الطيور الغريبة المتتابعة وقد امتدت السماء فوقها بزرقتها الشذريّة، ستنزل بندقيتك السبورتنغ عن كتفك اليسرى وكنت قد تعلمت أن تحملها على طريقة عرب الصحراء، أفقية على الكتف، ويدك تمسك ماسورتها الموجهة إلى الأسفل، كنت مأخوذاً بقوة المكان وسطوته وأنت تحاول أن تحدس ما فكر به (ولفريد ثيسيغر) في مثل هذه اللحظة وهو يتأمل في زمن بعيد على رقعة الرمال ذاتها أو على غيرها سربا من طيور البجع، وتحدث نفسك إنه ربما حاول أن يتذكر ما ورد في الإنجيل عن البجع البريّة.
سيكون من الصعب أن تتبين من كان يتحدّث، ولمن هذا الصوت بلهجته البدوية الصارمة وهو يتنقل طليقاً فوق الرمال متكرراً بإيقاع واحد في أصوات لا انتهاء لها، ما إن تتلاقح أنفاس الصحراء بنكهتها المرّة في صدور أصحابها حتى ترسم لخطواتها ملاذاً فسيحاً لن يكون بمقدور خطى إنسان واحد أن يلامس قاعه، أو تفتح باهتزاز قامته المتصل على ظهر ناقته مغاليق الرمال وهي تعبر فلاة إثر فلاة مجدولة في غيب الصحراء المغلق برعب كائناته العاوية، فيعلم، عندئذ انه قد غادر بعيداً في جوف الصحراء حتى غدا من الصعب عليه أن يدرك المعاني الشفيفة لتغيرات ملامح الدليل، لانفتاح منخريه إذ يستاف في هبوب الرياح نكهة منذرة ولارتجاف جفنه المحروق وهو يترصد بحذر السحالي فلتات القدرة الرملية وممراتها المبهمة، قبل أن يشدّ على ناقته ويستدير ليعلن ما لم يؤمن به ذات يوم من أن الصحراء لن تتخلى عن أبنائها أبداً.
تعلم أن (ثيسيغر) تحسس ذلك منذ أكثر من نصف قرن، وهو ينطلق عبر الصحراء التي رآها لأول مرة وشعر بها: شهباء كتوماً وقاحلة، وتعرّف في أحضان الربع الخالي القاسية على الكيفية التي تبدّل الرمال فيها أحوالها، فتلبس لوناً بعد لون، وتتحدّث عن أسرار حياتها بألف لسان، وتفتح أبوب مودّتها القاسية، فيهيم المرء في عجيب متاهاتها يقوده في ذلك أدلاء مدربون ساحبين وراءهم خطى العشرات من مريدي الصحراء وعشاقها المجهولين اذ تلتبس خطاهم فوق رمال أبدية بعد أن تختلط ظلالهم في انكسار أشعة الشمس المريرة، فينصتون في سكون الرياح ليستمعوا لنداءات أسلافهم طرّاق الرمال وهو ينادون بعضهم عبر الفيافي والأزمان، لن يكون بمقدورك أن تتبين بوضوح لمن كان نداء الليلة السابقة: هات البندقية، ابن قبينة. فقد تلاشى الصوت في امتداد الجهات قبل أن تتمكن من معرفة لهجته حضرمية كانت أم إحسائية، أم لهجة أعراب الربع الخالي الذين تستند إلى أكتافهم الصحراء.
سيكون الصباح ثقيلاً، لكآبته جسامة تبعثرها رياح الشمال الشرقي القارسة وسيجمع ابن قبينة حبات تمر وفتات خبز متروكاً من الليلة السابقة، لن تفكر في السنوات التي تسلخها أصابعه هي تبحث في رماد الليالي لأنك ستكون منشغلاً بإحساسك المرير، يوهنك شعور طاغٍ بأنك تقود أدلاءك، دونما دليل، إلى الموت.
تتمدّد على الرمل وتراقب نسراً يحوم تحت السماء الغبراء، عند الظهر ستمرون بهياكل جمال نافقة وتكملون مسيركم بلا أدنى إشارة أو اهتمام، حتى تبصروا تلالاً عالية على طيات رمالها آثار خطى حيوانية، تراها النياق فيعلو رغاؤها ثم تأخذ الرمال بالارتفاع كأن أيادي خفية تسحبها إلى الأعلى، تنظر حولك فتظن أن التلال الرملية تسد دونكم المنافذ وتغلق الفلوات وهي ترتفع ببطء وهدوء مستجيبة لقوة الأيدي الخفيّة، وتتخيلها تتكاثف حتى لا يعود بإمكانك رؤية المفاوز والطرق. لن نتمكن من العودة مهما حدث قبل أكثر من سبعين عاما قال (ثيسيغر) ذلك، بعد أن تاه مع أدلائه ولم يعد يرى أمامه إلا عالماً من الرمال .
في عالم الرمال سيواجهه جدار، ستنبثق فيه، على نحو فجائي، فجوة عميقة بحجم قبضة ثم تأخذ بالاتساع كأن ريحا عاصفة تمر من خلالها حتى يصبح من السهل لرجل المرور عبرها، تسكن النياق ويصمت الأدلاء، وبإحساسك المرير ذاته تتقدم باتجاهها مدفوعاً بشعورك النابض بالصحراء، وهو يتجدّد من(ظفارة) إلى (رملة الغافة) حتى (صحراء غنيم) فترى النمر وقد تجسد بطيء الخطى من بين الموجات الرملية لينتصب وسط الفجوة، تنبت أقدامه على الحافة ثم تندفع بشراسة إلى أمام.
يتساءل ابن قبينة:
-وش تشوف يا صاحب؟
يتقدم النمر خطوة أخرى فتعلم أن ليس بإمكان أحد غيرك أن يراه ويتحسّس القدرة الحيوانية الصامتة وهي تطبع آثارها على الرمال بعد أن توغل ونظر لحظات ثبتت فيها عيناه باتجاهك، فتعرف إن حضوره نداء، وإن عليك أن تستجيب بلا إرادة للنداء.
سينسحب النمر فتتبعه مأخوذاً بقوة أقدامه وهي تنتقل بلا صوت، وبحركة جسده الرشيقة إذ يندفع، أو ينحني، أو يستدير، وهي تنتمي انتماء كاملاُ لما حولها: للضوء والريح والرمال كأنه بقدرته الحيوانية العجماء تجسيد لإرادة تلك العناصر نيتها، القوية القادرة وقد انبعثت من فجوة في الرمال. سيستمر اندفاع النمر وتستمر بمشيتك وراءه ناسيا (السبورتنغ) أفقية في يدك اليمنى، من دون أن تعيدها على كتفك، فتظلّ مهملةً خارج وظيفتها. في الصحراء كل شيء في مكانه: الحجر والبئر وزهر الرهات الأبيض والله وذرات الرمال، لذلك تمتلئ الفلوات الفسيحة بأشيائها القليلة وتحيا. إلى الجهة الجنوبية سترى المنحدرات المعشوشبة والغابات والأودية الظليلة قد امتدت حتى سهول (جربيب) وإلى الشمال مباشرة ترى انحدار مساحة من الصخور السوداء والرمل الأصفر إلى الربع الخالي، ثم تتطلع فتجد الصحراء منبسطةً أمامك تمتدّ نحو ألف وخمسمائة ميل، حتى البساتين المحيطة بـ(دمشق)، تهبّ نسمة صحراوية حولك فيتراءى إليك قصر السعادة منبثقاً من الرمال، بشرفاته الواسعة وأبوابه العالية وأسيجته المنظومة بعقود من لبلاب حجري، ثم تلتفت باتجاه النمر مدفوعاً برغبتك لأن تجد لكل ذلك معنى، فتراه وقد انحرف ليتوقف عند قدمي بدوي يرتدي عباءة بيضاء، ذراعه اليمنى تستقر على كتفه اليسرى رافعة ذيل عباءته، كان ينتظر التفاتتك لينزل يده ويترك العباءة لمشيئة الريح، ترتسم على شفتيه ابتسامة ألفة ويقول:
-مرحبا يا صاحب.
كان وجهه قد بدا لعينيك أدكن السمرة بملامح منحوتة، لكنه مع طيف ابتسامته صار أشبه بحجر كريم في ضوء الفجر، صلباً، وافر الجمال، قال:
-تأخرت هذه المرّة يا صاحب.
كان بودك أن تقول إنك لم تطأ رمال الربع الخالي من قبل، لكنه سبق كلماتك بعد أن لمح ذهولك، واقترب ليقول بصوت خفيض:
- ستقول إنها المرّة الأولى التي تجيء فيها، وربما قلت إنك أول من يجوس خلال الربع الخالي من الغرباء، وأول من يخطّ الخرائط لطرق الصحراء. لكنك تعرف من نداء النمر ومن ذكرى قصر السعادة أن الصحراء بلا طرق، ولا خرائط، ولا أسماء، كان اسمك في المرة الأولى لورنس، وعلى مشارف الصحراء أسميت نفسك لورنس العرب، وفي الثانية عدت مختلفاً باسم ثيسيغر، ولفريد ثيسيغر، احفظُ الاسم على الرغم من صعوبته، وها أنت للمرّة الثالثة وقد ناداك أدلّاؤك بالصاحب.. سيضيء إحدى غرف (قصرالسعادة) الكثيرات اسمك الحقيقي بعد أن تذهب فقد ناديتك مرّات بالصاحب، هل تذكر ذلك؟
كنت تراه رشيقاً، صلب العود، طويل القامة مثل رمح مغروز بالرمل، وتشعر به غريباً بملامحه المنحوتة، ونظراته النافذة وهي تقرأ عينيك وتستجلي في ارتجاف أجفانهما حذر الغريزة الدائم من طوايا الصحراء ومفاجأتها، تكتم إحساسك بالغرابة متسائلاً:
-هل دخل الاثنان (قصر السعادة) من قبل؟
-كما ستدخله أنت الآن لترى ما لم تره في المرّات السابقة، ولتستمر الصحراء في إطلاق ندائها مرّة بعد أخرى ..
أمام باب القصر ذي الخشب اللامع الصقيل ستقفان، ثم يرفع يده ليفتحه دافعاً أحد مصراعيه إلى الداخل فترى أن اليد لم تكن تمس خشب الباب، كانت تدفع المصراع بغير جهد ومن دون أن تستقر عليه.
-لقد بناه أحد أمراء العرب ليكون القصر الصحراوي لمملكته،
قلت ذلك من قبل وأقول الآن بأن سموّه شاء أن يكون قصراً يتيماً لا أخ له بين عجائب الدهر وغرائب الأمصار فقد زعموا أن طينه معجون بعصير الزهر والدم والأفكار..
هنا سيكون لصمت العشاق معنى، ولنظرتهم معنى، ولارتجاف شفاههم معنى، هنا لن يكون بمقدور أصحاب القلوب السوداء أن يشموا شيئاً، ولن يروا غير الفراغ، وهم لن يفكروا بالصحراء الممتلئة في فراغها القاحل لأنهم سيكونون في غرفة البنفسج، الغرفة الواسعة التي بلا باب، ولها رغم ذلك رائحة بنفسج في المساء.. وهنا الغرفة التي يتيه في أعماقها السادة ويهيم في أرجائها العبيد، الروح وحده يحوّم في سمائها فتياً في احترابه الطويل، إنها الغرفة التي لن يكون فيها سوى الرائحة القويّة المدوخة، عرفتها؟ رائحة الحرية التي تملأ منذ زمن بعيد غرفة الصقور.. وهنا سيكون لك أن تتنسم ريح الجهات وتحسّه غامراً بفتنة المجاهل والمغاور والمفاوز والشعاب، إنها الغرفة التي لم تفتح لسواك، هي ذي الغرفة التي ستعلن اسمك أيها الغريب لأنها غرفة الغرباء..
سترى ذلك كله يمور في راحتيك، وتسمع حكايا الأعمار والأرزاق، والوساوس والآمال، وتمرّ بمدن لاعدّ لها وتخوض حروباً، بعدها تحكي عن رجل يخلع قبعته الخوص، يرنو إلى ماء النهر ثم يغط القبعة فيه ليعيدها مبللة غلى رأسه، سيتأكد بعد أن يسيل الماء بارداً على عينيه بأن لا شيء يخصه سوى اللحظة التي يرنو فيها، وهي لحظة زائلة لا ريب، سيثقل تصوّره البسيط عن النهاية صدره فيجلس على إحدى درجات السلّم، أو سيرتقي الدرجات، بحكم التصوّر ذاته، ليغيب مثلما جاء تحت أصبع أو تحت خط مائل من خطوط يديك، وكذا الأمر بالنسبة للعبيد بعد أن خاضوا النهر بخيلهم عابرين إلى الجهة المقابلة حيث تنتظرهم خناجر قصيرة معقوفة لامعة الحواف، سيعود القليل منهم، بعضهم على خيول والبعض الآخر راكضين، عندما يصيرون على ضفة النهر يخرجون مثخنين بإحساسهم الباهظ بالعبودية، هذا ما ستعلمهم الخناجر، أو ما تشير خطوط يديك الى إنهم بطريقة ما سيتعلمونه، ثم يرجع السحرة بلا قطط بريّة ولا رغبات، وقد يمرّ فتى من إبهام اليد اليسرى عابراً خطوطاً قصيرةً وطويلةً، رفيعةً وثخينة، طوليةً وعرضية، كلُّ خطٍّ، كما تعلم، عقبة: جبل، أو حيوان، أو نار، أو صورة الفتى وهي تتكرّر أعداءً بلا عدد، حتى يصل الى منزل الستائر القرمزية ويفتح الباب القديم ثم يصعد السلّم، وبعد أن يلج الغرفة تخبره المرآة عن نداء الغابات فوق صدر الفتاة الطليق ..
هل ستقول الحكاية ذلك كله؟
هل ستقول يداك؟



*كاتب من العراق

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.