}

لعِّبْني.. أنا ضجِرة؛ لعِّبْني

وليد هرمز 28 أبريل 2020
يوميات لعِّبْني.. أنا ضجِرة؛ لعِّبْني
(تاكاو تانابي)

لفحتني نسمات رطبة قلَّبَت ساعةَ رأسي، فتناطحَت كوْمَةَ عقارب لدْغاً مع أول رشفةٍ من دُخان سيجارتي. أغمضتُ عينيَّ سارحاً إلى لا أين.
شيءٌ رقيق سحَبَني بخفَّة ساحرة خدَّرت عيني، فلم أرْتَجِ فتحهما؛ خفَّة لا تُريد أن تُفْسِد لي هذه الغِبْطة التي سقطْتُ مطمئناًّ في لُجَّتِها.
كدتُ أتبخَّر حتى لم أعُد أتعرَّف على نفسي، أتَلوْلَب نازلاً هاوية يشع منها وميض كريستالٍ ذي رنينٍ، تعزفه لي أوركسترا كأنها تلك التي دوْزَنت ورجَّفت آلاتها، فَفَوَّحَت زنجبيلَ دمي.
مُنْتَشياً كنتُ، بالكاد أرى خيالَها من وراء شالها الحرير الذي ربطت به عينيَّ. إنه يلْتاثني. أحْسِن تمييزه أنه شالها، بالكثير من عطر إكليل الجبل.
لا كلامَ بيننا إلاَّ  لُغةَ الأصابع، وزفيرَ أنفاسها تلوبُ عتاباً.
مُسْترخياً، كنتُ للخدَرِ اللطيف بين لعلعة روح التبغ، وشَعْشَعَة كونياك أجدادي الأرمن، في مسرى المهب الخفيف لاحتشام الريح.
وكُدْتُ أطير؛ لا بل كنتُ فعلاً أطير، مستعيراً حصان الملك كارل غوستاف التاسع المنتصب على بُعد أمتار من حانة دبلن.
كأني اُخْتطِفتُ في غمرةٍ من سَرَحاني. أنَّى لي أن أعرف، وقد أُخرِستُ بعد أن رمى لي الحصان لجامهُ كي أرتديه؟
البشرُ، من حولي، أشباحٌ كما الأشياء.
سأسقط، صرختُ.
ممتعٌ قفْزي يتلوَّى.
الريحُ، هذه الليلة، في أوجِ هدوئها، لا حوْلَ لها على الإسْقاط،
من ورائي تُوشْوِشُني، وأنا أمضي:
ـ كيف تُراكَ، الآن؟
ـ مُبْهَمٌ كما أنا.
لا ذاكرة تغويني، إلاَّ عطر الشَّال،
وَليلٌ ضبابي حزين،
وَأغنية في ذكرى من بلدٍ بعيد؛
وَحنينٌ ساخن.
ـ كيفَ تراني، الآن؟
"في ما بَعْد في ما بعد".
ـ لِمَ تؤجِّل ما هو سهل؟
"مُمَلَّكاً دون إرادتي".
ـ أسْرَفتَ في السُّم الزُّعاف.
"هو سُمٌّ لا يُعاف".
ـ تحتاج إلى صيانة.
"بالكاد أنظرُ إلى نفسي. غير قابل للاستعمال. المحروم لا يُصان".
ـ متى تكون سعيداً؟
ـ ههههههه.
ـ لِمَ تسْخَر؟ قُلْ متى؟
"حين أتقمص دور لصٍّ في النهار. أعشقُ الليل. النهارُ مليء بالأصفاد".
ـ لعِّبْني. أنا ضجرة؛ لعِّبْني.
"حينما نصل، إنْ وصلنا".
ـ سيوبِّخُنا الوصول.
"لِمَ ترتعشين؟".
ـ لأنكَ مأثرتي. لَمْ تخذلني.
"إنْ سقطتُ، لِمن ستمدين يدكِ؟".
ـ لِوفاء الأخطاء.
"لِمَ أتلفتَ وثائق المُحاكمة؟".
ـ كَيْ لا تُعقِّمنا البراءة.
"لكننا لم نرتكبَ جُرماً؛ لم نرتكب معْصية".
ـ أكانَ عليكِ أن تُضيِّعي المُفتاح.
"خبَّأتُ نسخة منه في شقتك".
ـ لماذا؟
"كي لا أُضيِّعَكَ".
ـ ألَم نتأخر؟
"لِنفرض. نبدأ من جديد".
ـ لا يمكن. الهوة اتسعت، ولن نستطيع غلقها بنفس التفاحة المقضومة.
"لا يهمني. لا أسمعُ، بعد الآن، إلاَّ وشيشكَ فيلْتذُّني".
ـ بماذا تُذكِّرُكِ "وحْدُن"، هُنا، بعد هذه السنين؟
"بالعار، لأنها عرَّتْني، هنا، تحت هذا الصقيع".
ـ المنفى معصية.
"المنفى رحمة. لم يَنْجُ الشاعر برودسكي من العِقاب إلاَّ بالنفي".
ـ لسنا أبرياءَ، والمُحاكمة ما زالت قائمة.
"هل خُدِعْتِ؟".
ـ وجودي خُدعة، لكنها خُدعة ضرورية، تساعدني أن أكون.
"لكنكِ حملتِه، وهربتِ به من الشرق إلى هنا، أكنتِ واثقة أنه سيحميكِ؟".
ـ لم أفكر أن يحميني أحد، ربما هو مصدر راحة كاذبة. كان هدية من أستاذي في معهد الفلسفة، والهدية لا تُرَد".
"لِمَ اختاركِ، أنتِ بالذاتِ، أن يُهديكِ صليباً غريب الشكل والمعنى؟".
ـ اعتَبَرَني منشقَّة.
"بأي معنى؟".
ـ انتقالي من المقاومة إلى الفلسفة: احتفظي به، هو سلاح للتطهير، قال لي الأستاذ يومها.
"هل تعتبرين نفسكِ منشقَّة فعلاً؟".
ـ أحاول أن أُهذِّبَ قلقي، أُنَقِّيْه. أعياني الصبر. إلى أين تُريد أن تصل بمماحكاتك هذه؟
"أنا وصلتُ، من زمان، وحسمتُ الأمر".
ـ لِيَ رغبة أن تلحقي بي، ربما نكتمل.
"أبَرُّكَ أمان؟".
"أنا في لُجَّة بحرٍ، أُجذِّف علَّني أصل بر الأمان".
ـ أنتَ أبْكيْتَني، وأنت تُحاول أن تطأ لاهِجاً، دكَّةَ فجري.
"البُكاءُ مغفرة".
ـ مغفرةُ ماذا؟
"أعْطيكِ ما ينقُصَكِ".

مقالات اخرى للكاتب

شعر
29 سبتمبر 2020
شعر
14 يونيو 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.