}

الكاتدرائيّة

إسماعيل غزالي إسماعيل غزالي 5 أبريل 2020
قص الكاتدرائيّة
حمام أمام بناء الكاتدرائية في ميلانو بإيطاليا
(تتهاوى الكاتدرائية حجرا، تلو حجر، إثر زلزال عنيفٍ، وتزحفُ أنقاضُها في السّفح، إلى أن تغطس في واد "أحْنصال"، وتنْتصبُ سدّا...)
حلمٌ راودني في قرية "تيلكويت" حين كان عمري عشر سنوات. ها هو يعاودُني مرّة أخرى، وأنا أؤوب إليها منذُ هجرتُها في سديم تلك الحقبة الموشومة.
لم آت كي أتسلّق جبل "امسفران" الذي يتاخِمُها باثني عشر كيلومتراً، ولا جئتُه كي أستحمّ في النّهر الرقراق الذي يلعقُ أخمص قدمه... أنا هنا، كي أشيّع جنازة صديقٍ قضى نحبه في ميلانو، اسمه "أوشن".
و"أوشن" الذي يجمعُني به تاريخ حافلٌ - أيّام الجامعة في ظهر المهراز بفاس، إذ كنا نتقاسم غرفة واحدة - غادر بعد زمن عطالة سافلة إلى ميلانو، شأنه شأن الكثير من زمرة جيلي، الذين ركبوا قوارب طارق ابن زياد، وأحرقوها...  هو خرّيج كلية العلوم الإنسانية، شعبة الفلسفة ومع ذلك فقارئ نهم للرواية، بل يطمح بأن يغدو روائيا في المستقبل، وأمّا أنا فخرّيج شعبة اللغة العربيّة وآدابها، مولع بالشّعر، على نحو خاصّ، قصيدة النثر.
تزوّج "أوشن" من إيطاليّة بعد سنتين من وصوله إلى ميلانو، وكانت حفيدةً لشاعر ميلانو الكبير، باولو بوتزي. إن كان جدُّها شاعرا، فهي على النّقيض، مولعة بكرة القدم، وتمتلك كشك كابتشينو.
هذه النُّدفُ، هي كلّ ما أعلمه عن "أوشن"، قبل انقطاع خيط التواصل بيننا لمدّة عشرين سنة.

كيف قضى نحبه؟
عثروا على جثته طافية في نهر "أولونا"!
لا أصدّق أن يغرق كائنٌ نهريّ، كـأوشن، وهو إمام العارفين بألعاب نهر "أحنصال" البهلوانية، بل خبير في كمائن ومقالب أنهار الأطلس الأفعوانية قاطبة.
رافقتُ زوجته "إيلدا" بعد يومين من مدفنه إلى جبل "امسفران" الذي يبعد عن قرية "تيلكويت" باثني عشر كيلومتراً، حتّى تكتشف هذا الطّوْد الشّاهق، الذي يأخذ شكل كاتدرائية ضخمة، طالما حدّثها عنه "أوشن" بإجلال في المهجر، ولم يسبق لها أن رأته واقعا، إلا في صور متفرّقة.
بدت "إيلدا" مبهورة بالجبل/ الكاتدرال، وما فتئتْ تردّد مكهربة:

- الدومو! الدومو!! الدومو!!!

ران صمتٌ مطبقٌ بعدها، وكانت تأوّهاتُها المتعاقبة تقطعه بانتظام، ثمّ هتفتْ:

- أظنّها الكاتدرائية الأصل، وأمّا الدومو في ميلانو فشبحُها لا غير!

أسرّتْ لي بأنّ الراحل "أوشن"، كلّمها غير مرةّ عنّي، لدرجة صارت تعرف الكثير، الكثير، مما تخفيه علبة ذكرياتنا، كما لو عاشت معنا زمن الجامعة البلشفيّ.
وأما غبطتُه السّامقة، فكانت لمّا صادف كتابا شعريا لي في مكتبة بميلانو، واطمأنّ أنني لم أخذل أحلامي وتاريخي، مذ راهنتُ على طريق الشّعر، وغدا يتلو من الديوان بأوقاتِ عُطله، ولا يفارقه إلا لماما...

- إن كنتُ قد انحرفتُ قسرا عن طريق الرواية، فعزائي أنّ صديقي ربح رهان الشّعر.

قال لها، غير مرّة.

في مطار مراكش حيث أوصلتُ "إيلدا"، فاجأتني بأن منحتني رسالة بخطّ اليد، في مظروفٍ أبيض، تركها لها الراحل "أوشن" كي تسلّمني إيّاها.
وما أن عدت أدراجي صوب مكان إقامتي في فاس، حيث أحاضرُ حول قصيدة النّثر في جامعة ظهر المهراز، فتحتُ المظروف قبل النّوم، وقرأت رسالته المكتوبة بخطّ مضطرب، لا يمّتُ بصلةً لخطه الرفيع، المصقول، كما عهدته أيام الرفقة الطلابية أو البلشفية بالأحرى، وبدا لي أنّ ما دوّنه كان تحت تأثير توتّر دامغ...  

(...................

أغبِطُك على مفازة الشّاعر الذي صِرتَهُ، منذ عثرتُ على ديوانك "قيلولة سلاحف النهر" في مكتبةٍ بالصّدفةِ وهو يلازمني في جيب معطفي. لم أتخلّ عن حلمي – كما قد تظنّ- في أن أصير روائيّا وفق ما كنتُ أطمح بضراوة... أخطر الروايات أعيشها واقعا، ها، هنا، في ميلانو، وحدها زوجتي "إيلدا" من يعرف جانبا مظلما من حكايتي البوليسية، ستجد عندها مجمل تفاصيل القصة الغامضة لو رغبتَ بتدوينها.
لم يبق لي إلا أيّام معدودة، بلْ من المحتمل أن تصلك رسالتي هذه بعد مماتي، لستُ مصابا بمرض عضال كما قد تفهم من خطابي، دعني أغمز لك بأن صديقك "أوشن" - كما يعني اسمه الذئب بأمازيغيّة الأطلس المتوسّط-، بات ذئبا مستهدفا من عصابة تابعة لمافيا "ندرانغيتا" والسبب شبهة تسريبي لمعلومات اعتمدها الكاتب "روبرتو سافيانو" في كتابه الفاضح... إن نجوتُ، فمحض معجزة، وإن لقيت حتفي، فتحصيل حاصل...

أرجو أن تعتني بزوجتي "إيلدا" وابنتي "ماتيلدا"...)

صديقي "أوشن" مات مقتولا إذاً، والعهدة على غمزة رسالته، وأما أن يكون عضوا في عصابةٍ، فلم أتوقّع ذلك مطلقا، ومن الاستحالة بمكان أن يخطر في بالي أو يهاجس خيالي حتّى. حتما، هذا ما يعنيه بأنه عاش أخطر رواية بوليسية، فهل يروم من خطابه المضمر إليّ، أن أكتب روايته المرعبة هذه؟!؟
ما أنا بروائيٍّ، وما ينبغي لي أن أكون، فالشّعر هويتي ومعضلتي، جئت منه، وإليه أؤول...
حاولتُ الإطمئنان على "إيلدا"، مرّات وكرّات، بالهاتف، على أمل أن أزور مدينتها، وأتعرّف إلى ابنتها "ماتيلدا" ذات السبع عشرة سنة. غير أنّ حبل التواصل انقطع بيننا فجأة، إذ بات رقمُها بلا صلاحية، وحسبتُها في سفر خارج إيطاليا، وبعد فترة عاودتُ مهاتفَتها، وجاءني صوتُ أخرى، تقول بأنّ الرقم جديد، غدا لها، وأما صاحبته السابقة فحتما بدّلته أو... إلخ.

نهبني صخبُ الحياة وشغلتني دواليب الجامعة وتأرجح بي السفر هنا وهناك، ونسيتُ ما حدث إلى حين... ثلاث سنوات مضت بالتعاقب، حين جاءتني دعوة من مؤسسة ثقافية إيطالية، كي أشارك في أيام عربية مع نخبة من الشعراء والكتاب في أمسيات وندوات بميلانو... ويا لها من دعوة مبهجة، بزغتْ كهبة، حتى تكون فرصة مواتية، للسؤال عن زوجة وابنة صديقي "أوشن"، وفي الآن نفسه، هي المناسبة الأسنح كي أتعرّف على خرائط مدينته لأوّل مرّة...
خاب سعْيِي في البحث عن "إيلدا"، وأنا أذرع ميلانو بالطول والعرض، برفقة صديق خبير، وحين استحوذ عليّ اليأس من الأمر، ارتأيت أن ألقي نظرة على كاتدرائية الدوما، لأكتشف عمارتها القوطية الباذخة...

في ساحة الدوما، وقفتُ منبهرا، وأنا أهتف:

- جبل "امسفران"! "امسفران"!! "امسفران"!!!

ران صمتٌ مطبقٌ بعدها، وكانتْ تأوهاتي المتعاقبة تقطعه بانتظام، ثمّ همستُ:

- صدقتْ "إيلدا"، كاتدرائية "امسفران" هي الأصل، والدوما هي الشبح.

كدتُ أتحوّل إلى تمثال من فرط التجمّد في المكان، ولولا أن تناهى إلى سمعي عزفٌ أليفٌ في الجوار ما تزحزحتُ عن مكاني. هو عازفُ شارعٍ يحاول تقليدَ لحنِ "نينو روتا". شربتُ فنجانَ كابتشينو في مقهى بالمحاذاة، منتشيا ما أزال بموسيقى فيلم العرّاب... هذا الذي ذكّرني بغمزة رسالة صديقي "أوشن"، ملمحاً إلى عمله في عصابة مافيا هو الآخر، وهي السبب في مقتله، عندها عنّ لي أن أزور النّهر الذي عثروا فيه على جثته طافية...
زرتُ نهر "أولونا" في اليوم الموالي، وشربتُ نخبا على ضفّته، فأغرتني شمس منتصف الظهيرة. وبلا هوادة، خلعتُ القميص والبنطال، وغطستُ في النّهر...
كأنّ دوّامة أشبه بكتلة مغناطيس خفيّة، سحبتني إلى القعر. ارتعبتُ وأهدرتُ طاقة هائلة كي أطفو. استنفدتُ بطارية قواي، وبتُّ أغرق وأرسب، وملاكُ الموت يلوّح لي في ظلمة القاع الداكنة...

ما الذي حدث بعدئذ؟!؟

مُلقًى على الضفّة أمسيتُ، وأنا أتقيّأُ ملوحة النّهر.. تبيّنتُ ثلاثة وجوه تتحلّق حولي، مبحلقةً فيّ بذعر... ثمّ بابتسام.

- كم عمره يا "إيلدا"؟ سأل الرّجل.

- عشر سنوات على الأرجح يا "أوشن". ردّت المرأة بمغربيّة مكسّرة، واستطردتْ:

- لَوْلا "ماتيلدا" التي فطنتْ لغرقهِ، ما كان ليعيش مجدّدا.

-  بل قولي، براعة أبي "أوشن" في السّباحة ما أنقذه. فاهت البنت ذات السّبع عشرة سنة، بنبرة دارج مغربيّ ركيك.

نهضتُ إذ تلطّفتْ إغماءتي، وانقشع ضبابُ دوختي. من بين سيقانهم لاح لي جبل "امسفران" الشبيه بكاتدرائية ضخمة، ونهر "أحنصال" يلعق أخمص قدمه ما يزال...

غادرت المرأة وابنتها صوب العربة المنزلية في الجوار، فيما ظلّ الرّجل معي. خاطبني:

- ثلاث مرّات غرقتُ في واد "أحنصال"، قبل أن أتعلّم السباحة فيه.

خطا صوب العربة المنزليّة ولوّح لي بالدنوّ منه... منحني كتابا من النافذة وكان ديوانا شعريا، قائلا:

- أنت من سينقذني من الغرق في المرّة القادمة.

أقلعتْ عربتُه المنزليّة، وكانت علامتُها إيطاليّة... شقّتْ طريقها في الشّعاب، بينما ظلّ وجه الصبية "ماتيلدا" يرقرق في زجاج النافذة الخلفيّة برغم نقع الغبار، وهي تنأى إلى أن اختفت عن البصر.
مشيتُ إلى حيث خلعتُ بنطالي وقميصي، قريبا من صخرة زلقة، تأخذ السّلاحف على متنها قيلولة منتصف الظهيرة. قرفصتُ أتهجّى عنوان الدّيوان:

-  أغانٍ للكنائس الفارغة. للشاعر باولو بوتزي.

وعلى ظهر الغلاف قرأتُ:

«لكنيستي إلهان

كلاهما أعبد

الشّمسُ والنّوم».

رفعتُ بصري مسدّدا نظرةً إلى جبل "امسفران" الشبيه بكاتدرائية، وابتسمتُ. حدّقتُ بعدها في الشّمس وتنهّدتُ، ثمّ استلقيتُ على حشائش الضفّة ونمتُ.

*كاتب من المغرب

مقالات اخرى للكاتب

قص
29 أبريل 2021
قص
5 أبريل 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.