}

انتباه- كاميرا

إسماعيل غزالي إسماعيل غزالي 29 أبريل 2021
قص انتباه- كاميرا
"فيلم نيويورك"/ إدوارد هوبر/ 1939

بحزمةِ ضوءٍ مترنِّحة، تلقّفتني السيّدةُ في الرّدْهةِ، إذ لفعتني الرطوبةُ. قادتني في العتمة المطبقة، داخل الحيّز الضئيل بين الكراسي، وكانت دليلي إلى مقعدي في الخلفيّة، ولم تعد أدراجها إلا بعد أن حَفَنْتُها خمسة دراهم، ورجعتْ إلى سالفِ وقوفِها على العتبةِ تنتظر زبونًا آخر...

منذ ما يزيد على الثلاثين سنةً، لم أدلفْ قاعة سينما "أولمبيا"، وعهدي بها ذكرياتُ أيّامِ الصبا لمّا كنتُ تلميذًا شقيًّا، أبيعُ السّجائرَ المهرّبة بأيّام العطل، وأُوَيْقاتِ الفراغ، كي أؤمِّنَ تذكرةً لمشاهدةِ فيلم الأسبوع...
أفلامٌ هنديةٌ غنائيّةٌ فاقعةٌ، وأميركيةٌ قتاليةٌ خرقاء، وصينيّةٌ تستبلِدُ الحواس، وأخرى بورنوغرافية تقدح غلماتِ الصّبا بشررٍ لاعج... إلى أن اكتشفتُ بالصّدفة، ذات يوم مطيرٍ، سينما أخرى، لا يؤمّها الجمهورُ من طينةِ عمري، وكان الفيلم: "راشومون" لأكيرا كوروساوا!
عرفتُه من خلال أستاذ الفرنسيّة "مصباح علاء"، أحد أعضاء نادٍ سينمائيّ يدعى" انتباه-كاميرا"، يعرضون أفلامًا سينمائيّة مختلفة يوم كلّ أحدٍ، وكان "مصباح علاء" قد كلّفني بأن آتيه برزْمةِ كتبٍ، من مكتبة "البوّابة السابعة"، التي يملكها أبي في شارع "الورّاقين"، وحين وقفتُ على عنوانِه في تلك المنشأة السّينمائيّة، كافأني بأن أدخلني كي أحضر عرض فيلم "راشومون" لأكيرا كوروساوا... وبعدئذ طفقتُ أترجّاه كي أحضر عروضًا أخرى، فكان دليلَ بهجتي كي أعرف هؤلاء السّحرة، من عصابةِ المخرجين الملاعين، مايكل أنجلو أنطونيوني وأندريه تاركوفسي وإنغمار برغمان ولويس بونويل وثيو أنجيلوبولوس وبيلا تار...الخ
بين أفلام نادي "انتباه- كاميرا" وأفلام سينما "أولمبيا" بونٌ شاسع، فالأولى ذكية، تحترم المخيّلة، وذوقُها يحتاج صبرًا ومعرفة، فضلًا عن لغتها البصرية الممهورة شعرًا، وأما الثانية فملفّقة، تلاعب الحواس بشكلٍ رخيص، تجارية وجماهيرية، بل حمقاء.
كنتُ أدرِكُ هذا الفصل بتلك السنّ اليافعة، ومع ذلك، كنت أرتاد قاعة سينما "أولمبيا" ولم أقاطعها، برغم رداءة أغلب الأفلام، لا لشيءٍ، سوى لولعٍ جارفٍ، ومتعةٍ راسخةٍ قد لا يكون لها علاقة بالفيلم نفسه، وإنما المناخ الفاتن الذي تدورُ فيه الفرجة المغوية... وما لا يُنسى أبدًا، هو عاملةُ السّينما، بلى، تلك المرأة الواقفة في العتبة، وهي تتلقّفُ الزبائن بضوءِ مصباحٍ صغير، مترنّحٍ، كي تقودهم الواحد تلو الآخر إلى مقاعدهم في خرائط العتمة المطبقة.

ها إنّي اشتقتُ إلى سينما "أولمبيا"، بعد أنْ قدمتُ إلى بلدتي، وقد سلختُ سنواتٍ من عمري في المهجر، بل وتحوّلتُ إلى مخرج سينمائيٍّ، والفضلُ يرجع إلى خيطٍ مزدوج، مَسّنِي سِحرُه، واحدٌ قابعٌ في ظلمةِ هذه القاعة الفاتنة، والآخر كان يمسكُ به "مصباح علاء"... بعكسِ رغبةِ أبي المكتبيّ الذي كان يمنّي النّفس كي أصير طبيبًا في أبدع الأحوال، أو محاميًّا في أردأ الأحوال.
أكثر من ذلك، هُمْ يعرضون فيلمي الأوّل: "البوابة السّابعة".
دخلتُ متنكّرا طبعًا، لا لكيْ أتفرّج كما لو كنتُ زبونًا عاديًّا وحسب، مدّعيًا انتفاءَ صلة قرابتي بالفيلم، أو محاولًا أن أجرّب زاويةً أكون فيها محايدًا، أفصل قناع المخرج عن المتفرّج في داخلي... هل أستطيع؟!؟... بلْ أودّ اكتشاف طقسِ استقبالِ الفيلم من لدنِ جمهورٍ أجهلُه، في مناسبةٍ كهذه غير رسمية... صدمني أنّ معظم من دخل القاعة، لم يرتدها من أجل الفيلم، لا من أجل السينما إطلاقًا، بل من أجل مآرب أخرى، نعم، غدت صالةُ السّينما وَكْرًا، للعلاقاتِ الحميمة، وأعني مسرحًا خفيًّا للمضاجعات غير المتاحة في أمكنة أخرى... هكذا صار سعر الدخول إلى فيلمٍ، أشبه باستئجار غرفةِ فندقٍ رخيصٍ، لساعتين من أجل خدمةٍ جنسية عابرة... حتّى أنّ الأغلبية تغادر قبل انقضاء السّاعتين، إذ تكون قد قضتْ وطرها سريعًا...

- أشفق عليه لأنه لم يصحب معه عشيقة.

الآن استوعبتُ هذه العبارة الصّفيقة، من موظّف الشباك المعتوه الذي قطع تذكرتي بسماجة...

ومع أنّ الأمر كان صادمًا، وقدْ اعتراني الحنقُ والامتعاضُ، فتأهّبتُ لأنْ أخرُج توًّا، ليس من القاعة وحدها، وإنّما من المدينة برمّتها والبلدِ طُرًّا، عائدًا أدراجي صوب المهجر... غير أنّ شعورًا آخر، استبقاني... لا بدّ أن يكون هناك شخصٌ مخالفٌ لهؤلاءِ، على سبيل الاستثناء، جاء القاعة من أجل الفيلم فعلًا... تربّصتُ بهذه اللحظة علّني أكتشفُه بعد حين، فهذا الأمر سيكون عزاءً لي على الأقلّ... وما حدث بعد ساعةٍ، كان مخيِّبًا أكثر، إذ غادر معظمهم، في لحظاتٍ متباينة، ليس استياءً من الفيلم، بل لأنهم غنموا نشواتهم، وبلغوا بنزواتهم حدّ المتعة الشبيهة بفقاعات صابون...

خلتْ القاعة إلا منّي، والسيدة عاملة السينما، الممسكة بمصباحها ما تزال، وهي تهمس لصديقتها:

- الآن سيبدأ الفيلم فعلًا.

- لا فيلم بلا جمهور. قالت زميلتها.

- أعظمُ جمهورٍ هم الأشباح الذين يحتشدون في القاعة الآن.

وحيدًا في القاعة، أشاهد فيلمي، كما لو كنت فعلًا، وسط جمهور من الأشباح، وفق ما هجستْ به سيّدة المصباح هناك... لم أشعر بالوقت الذي استغرقه العرض، حتى انتشلني تصفيقُ السيدة بحرارةٍ، وكتابةُ الجينيرك تصعد في الشاشة البيضاء، كما لو كانت قصيدة هوميرية، ثمّ أُضيئت الأنوار في الحين...

حين دنوتُ من الباب كي أخرج، قالت لي السيدة:

- أهنّئك، أنت المتفرج الوحيد، خلال هذا الأسبوع الذي أنهى مشاهدة الفيلم، فيما الآخرون يرتادون القاعة لمآرب أخرى.

ابتسمتُ مداريًا خيبتي، وقلتُ كأنّ الفيلم ليس لي:

- طبيعي أن ينفر الجمهور من فيلمٍ صعبٍ كهذا، يحتاجُ صبرًا و...

- تعني أنّه ليس تجاريًا، أو هو منزّهٌ عن الابتذال.

أثارني تعقيبُها، واكتشفتُني محظوظًا أمام سيّدةٍ بذائقةٍ لافتة، تمتلك معرفةً بصريّة خلاقة، بخلاف ما يعلِنُه هندامُها وطبيعة عملها. قلت لها:

- سيدتي، كل الاحترام، تتكلّمين أفضل من نقاد السينما والمهتمّين بها...

ضحكتْ، وبعد برهة قصيرة، استطردتْ:

- كلّ ما في الأمر، يذكّرني العرْضُ بفيلمٍ شاهدتُه منذ سنواتٍ، حين كنتُ أشتغل كنّاسةً في مقرِّ نادي "انتباه- كاميرا".

- "انتباه- كاميرا"! نبستُ.

- نعم، النّادي الذي أسّسه أستاذُ الفرنسية، المدعو "مصباح علاء". رحمه الله.

- "مصباح علاء" مات؟ قلت لنفسي متأثرًا... وبعد حين سألتها:

- ما اسم الفيلم؟

- "راشومون"، لمخرجٍ يابانيٍّ يدعى أكيرا كوروساوا.

المجد لعاملات السّينما، قلتُ وأنا أخرج بشعورٍ مزدوج، حزنٌ دامغٌ على رحيل "مصباح علاء"، وانبهاري بالعاملة لسببين: ثقافتها السينمائية المتوقّدة التي لم يؤتها بعض متخصّصي الأفلام أنفسهم، وأعني المتكالبين على هذا الفنّ العظيم، وثانيًا كشفتْ لي بألمعيّةٍ، كيف أنّ فيلمي الأوّل، محض نسخة، بصورة من الصّور، لفيلم "راشومون"، وهذه حقيقة صارخة لم أفطن لها في واقع الأمر...

في اليوم الموالي، رحتُ أسأل عن مقرّ نادي "انتباه- كاميرا"، ويا للأسف، ما من أثر له، إذ تحوّل إلى محلٍّ للرقية الشرعية...

أيّ مصائر تراجيدية هذه، أيها المكان المغتالُ بصفاقة، من شاهق السينما إلى حضيض الرقية الشرعية!

لوّح لي حارس الزقاق العجوز، قائلًا:

- لعلّك تبحث عن شخصٍ ما؟

- جئتُ أسأل عن نادي"انتباه- كاميرا".

تحسّر قائلًا:

- شُمِّعَ بابه ما أن ماتَ مؤسِّسُه "مصباح علاء"، وها قد آل إلى ما تراه.

- كيف مات مؤسِّسُه؟

سألتُه، فرشف من لفافتهِ حتّى اشتعل القذى في عينيه، وردّ بنبرةٍ خدشَها الحزنُ:

- مات بالطريقة نفسها التي ماتَ السّاموراي في فيلم "راشومون"!

 

*قاص وروائي من المغرب.

مقالات اخرى للكاتب

قص
29 أبريل 2021
قص
5 أبريل 2020

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.