}

ما جدوى الحياة في حضور البعد والغياب؟

ميرنا الرشيد ميرنا الرشيد 27 مايو 2020
يوميات ما جدوى الحياة في حضور البعد والغياب؟
منظر لكاتدرائية نوتردام في روان للرسام هينريش هانسن
بين (ريبيكا) والديناصورات

(ريبيكا) تطبيق إلكتروني لروبوت أنثى من صنع شركة أميركية، مهمتها أن تحاكي البشر لتخفف عنهم الخوف والقلق من قلة الهمس واللمس والشجن. يتلاءم توقيت اختراعها مع ما تنصح به الدراسات، أن التباعد مترين أو ثلاثة أو حتى ستة هو الشريعة المضمونة للا(إنقراض) بفعل الفيروسات.
لـ(ريبيكا) ذات الشعر الأشقر الاصطناعي والجلد المطاطي، القدرة على الرد بما يناسب أمزجة البشر. تدير معهم حوارًا لا عراك فيه ولا صراخ. لا ترتفع فيه نغمة الصوت ولا تهبط. لا تسخن، ولا تبرد. حوار على مقاس تكنولوجيا تُزرع تحت جلودنا، تتعقبنا وراء الستائر، تُسيّرنا كجثث متحركة نحو مساحات ضيقة بحجم خرم الإبرة، تُحيلنا إلى عظام موتى في المقابر.
يقترح رأي آخر وصفةً تَنصر البشر على بائعي الموت والاضطهاد: أن يحتذوا بما فعلته الديناصورات الذكية، التي من أجل أن تحافظ على مكانتها في الأرض، آثرت أن تتحول إلى طيور مغردة، تستنشق الهواء، وتنثر الحب في السماء.
أعتقد أن ما كان يرمي إليه مُطلق هذه الوصفة أن علينا أن نتحول إلى أصلنا الأول، وإلى شبيهنا الأوحد؛ القردة.


فوق جسر الثورة
ليس جسرًا للمشاة فقط، بل مأوى لكل من يرتجف من البرد، ويبحث عن لفتة من العابرين فوقه.
سألُته (ما اسمك؟)
الوقت في أحد أيام شهر آذار الفائت، وكنتُ قد خرجت كعادتي لأستطلع شوارع الشام قبل عزلها عن صخب وضجيج ساكنيها.
رأيته ممددًا على أرضية الجسر مُتعبًا. عمره لا يتجاوز السابعة. صغير الحجم. نظراته تائهة تبحث عن معنى وجودي. وبالكاد استطاع أن ينطق اسمه.
- اسمي (جميل).
لم يطلب طعامًا ولا نقودًا. كان يريد دبًا محشوًا. عجزتُ حينها عن تلبية رغبته. المحلات والأكشاك المحيطة بطرفي الجسر كانت مقفلة لدوافع صحية. الآن بعد أن عادت تلتقط رزقها، اشتريتُ دبًا ضاحكًا، لكن ضاع مني (جميل).



مع بندر عبد الحميد
أمرُّ في الحيّ، ومن جانب مدخل شقتك. لا ألمح لك أثر، ولا رائحة. أحدّث نفسي أنكَ حتمًا في الطريق عائدٌ من مشوارك الطويل. أمشي من المدخل إلى الباب الخشبي القديم. لا أضواء، ولا موسيقى فرنسية، ولا رنين كؤوس الفودكا. أمنع نفسي من الجلوس على عتبة الدرج.
منذ السابع عشر من شباط/فبراير تغير كل شيء. قبل ذلك التاريخ كان انتظاري لك لا يمتد لأكثر من ربع ساعة. ثم تُطِلُ بشعرك الأبيض المنفوش، ووجهك الدافئ، حاملًا أكياسًا فيها رمانٌ ولوزٌ وحُب.

تسألني (صرلك زمان ناطرة هون؟)

الآن، أصبح عليّ أن أنتظرك إلى الأبد.

عايشتَ الشام بانكساراتها، وتألقها، وانتفاضتها. لم تتحول عنها، ولم تهجرها. لم تلُمها يومًا على شوارعها المليئة بالتائهين، ولم تُعاتبها على كثرة الموت والخوف. قلت لي إن ما حدث فيها سببه اللاديمقراطية.
الآن، هجرتَ الشام، وتركتني أدور فيها.
في الستينيات الماضية شهدتَ اختفاء البشر والحياة فيها بعد فرض حظر تجولٍ لأسباب عسكرية.
الآن، قررتَ أن تختفي وحدك. شعرتَ أن حظرًا آخرًا في الطرق إليها.
لقاؤنا الأخير كان على غير العادة. لا صور لـ(مارلين مونرو)، ولا (بوب ديلان)، ولا حبات برتقال.
لم تفرك مقدمة رأسك بطرف إصبعك كما كنتَ تفعل.
لا قصص عن حفلات الرقص في هنغاريا، ولا عن الفتاة التي سحرتكَ هناك، وحدَثتَها بلغة أعواد الثقاب. لم تُشعل سيجارتك بالمقلوب. لم تنتظر أحدًا.
كانت عيناك مغمضَتين، ورَضّة زرقاء فوق جبينك المُخطط.
كنتَ قد بدأت الغياب، وأنا بجوارك أنتظر، أحاوركَ من طرف واحد.

*كاتبة ومترجمة سورية 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.