}

الانتفاضةُ كانت لقبي

سالي علي 1 ديسمبر 2021
يوميات الانتفاضةُ كانت لقبي
(اسماعيل الحلو/ سورية)


الانتفاضة مصطلح استُعمل لوصفِ الثورةِ الشعبيةِ الفلسطينية ضدَ الاحتلالِ الإسرائيلي، وكل من يسمع كلمةَ انتفاضة يعلمْ أنها مرتبطة بشكلٍ وثيق بفلسطين في حينِ أن هناكَ قلائل ممن يعلمون أنها كانَت لقبي في الطفولة، حيث حصلتُ عليه عندما حاولَ أحدُ المارة سرقة دراجتي فألقيتُ الحجارةِ عليه وصرختُ حتى اجتمع الناس وأمسكوا به.

حين كنتُ طفلة وبموافقة أهلي قصصتُ شعري كالصبيان وارتديتُ الشورتَ القصير ولعبتُ كرةَ القدم مع الصبيان بينما بناتُ الحارة وأختي ارتدينَ الفساتين والتنانير الملونة، ثيابي المتسخة بالغبار والطين والندوب على ساعديّ وركبتي كانت دلائلٌ على أنني فتاة شقية ولأنني كنت على تماسٍ مباشر مع الجراثيم والبكتيريا أصبحَت لدي مناعة قوية مقارنةً بأخوتي شديدي الحساسية.

كنتُ أضع علبةَ سجائرٍ ممتلئة بالحجارة الصغيرة في جيبةِ الشورت الخلفية وكانت هذه الحجارة سلاحًا فعالًا ضدَ من يعتدي على أشيائي الغالية مثلَ دراجتي الهوائية وكرة القدم الحمراءِ الدولية التي ربحتها من قسيمةِ شراءِ علبِ المتة، كنتُ محظوظة بينما السمّان في حارتنا كانَ لا يطيقُ رؤيتي لأنني أربحُ دومًا وأتسببُ في خسارته للكرات وعبوات المياه ذاتِ الحجم الكبير بلونيهما الأزرق والأحمر ولطالما اخترتُ الأحمر تماشيًا مع انتفاضة وجودي على هذه البقعةِ من الأرض.

بعد فترة انتقلت مع أهلي للسكنِ في حارة شعبية أخرى تمكنتُ من بسط نفوذي فيها خلالَ وقتٍ قصير وأصبحتُ القائد الذي يحددُ ما الذي سنفعله وأيُّ لعبةٍ سنلعب، وبالطبع لم تكن الألعاب التي أختارها تشبهُ ألعاب البنات، وقد شاركني الصبيان متعةَ لعبِ الغميضة وكرة القدم والركض بين الغيوم التي كانت تنبعثُ من سيارة رشِ الدخانِ القاتلِ للحشرات.

أما اللعبة الأكثر شغفًا وإثارة فكانت سباقُ الدراجات الهوائية خارج حدودِ حارتنا، وكان هذا يعتبرُ مغامرة محفوفة بالمخاطرِ والعقوبة في حال سمعَ أهلنا بالأمر، وبالطبع تمَ ضبطنا أكثرُ من مرةٍ ونلتُ التوبيخ من أهلي وأهالي أقراني الذين اعتبروني سببًا في كلّ ما يفعلهُ أبناؤهم من سلوكيات خاطئة وتم إضافةُ لقب جديد لي وهو (المحرض على الشقاوة).

كانت التعليمات صارمة وواضحة: ممنوع الذهاب إلى حارة أخرى، وحين سألتُ لماذا ممنوع؟! أجابوا بلهجة قاسية لأنهم غرباء!! وقد يؤذونك!!

في الحقيقة لم يقنعني الجواب لأنني ومن خلال احتكاكي بهؤلاءِ الغرباء اكتشفتُ أنهم يشبهونني.

وبعد أن تمَّ حرماني من مغادرةِ الحارة تحتَ طائلةِ العقوبة الشديدة وكردةِ فعلٍ قررت أن أقيمَ دوري لكرة القدم مع حارةِ الغرباء واشترطتُ أثناءَ المباحثاتِ مع صبيِ حارةِ الغرباء أنّ تكونَ المباراة في حارتنا فكنتُ أنا والحارس فقط نشكلُ فريقًا، لأنَّ بقية الصبيان منعهم أهلهم منَ اللعبِ معي وكان صبي حارة الغرباء مع أخيه الصغير فريقا منافسا لي، وبما أنني كابتنُ الفريق كان علي اللعب في الدفاع وخطِ الوسط والهجوم معًا وكان الاتفاقُ بأنَّ الفائز هو من يحرزُ هدفًا أولًا، كنتُ أدافعُ بشراسة عن المرمى وأخشى أنْ أقوم بالهجوم وأتركَ الدفاع، هذا ما جعلني أسددُ على مرمى الخصمِ من بعيد ولكنني لم أحرز أيَّ هدف فقررتُ أن أهاجم واستطعت الوصول قريبًا من مرمى الخصم وكدتُ أن أحرز هدفًا، هذا الهجوم كلفني ثمنًا باهظًا حيثْ استغلَ الخصمُ غيابي عن الدفاع وانطلقَ بالكرة ليحرز هدف الفوز بالكأس، كأس الورق العالمي الذي صنعته من دفتري المدرسي، شعرتُ بالألم ولم أستطع تقبلَ خسارتي فمددتُ يدي إلى جيبي الخلفي حيثُ علبة السجائرِ الممتلئة بالحجارةِ وقمتُ بضربِ فريقِ الخصم محرزةً هدفًا في منتصفِ وجهه.

عشتُ طفولة ممتعة لا شيءَ يفسدها إلى أنْ جاءَ اليوم الذي كان عليّ أن أستمع فيه إلى كلام أهلي حولَ العديدِ من السلوكيات والمفردات الممنوعة والتي يجب أنْ أتقيّدَ بها مثل لباسي وطريقة جلوسي ونوعية الكلمات التي يحظر عليّ قولها وعلاقتي مع صبيان الحارة وما شابه بحجة أنني أصبحتُ صبية وبدأت علاماتُ الأنوثة بالظهورِ على جسدي وأيّ تصرف غير لائق بحسبِ رأيهم يعتبرْ مسيئًا لسمعةِ العائلة!!

في الحقيقة لم أفهم ما المشكلة في كوني أصبحت صبية وما الذي يمنعُ الصبية من ارتداءِ الشورت ولماذا لم يكن الشورت القصير عيبًا فيما مضى؟

ولم أفهم عبارة: يجب أن تقطعي علاقتك بصبيان الحارة لأنهم قد يؤذونك، فيما مضى قالوا الغرباء في الحارة المجاورة قد يؤذونني، والآن أصبحَ صبيان حارتي مصدرُ الأذية، وغدًا قد يكونُ ابن عمي أو ابن خالتي!!

لم أستطع أن أفهم هذا التحوّلُ المفاجئ المجبرة على الالتزام به!!

كنت أتساءل لماذا يريدونني أن أنسلخ عن طفولتي وأتنازلَ عن حبي للشارعِ والشورت القصير، وكرة القدم والدراجة الهوائية ذاتِ الزمورِ الأحمر الذي حصلتُ عليه حينَ فزتُ على أحد الصبية في لعبة (حجرة، ورقة، مقص)، لماذا عليّ أن أترك كل ما أحبهُ وأتحوّلَ إلى فتاة تفعلُ ما يريدون!!

حرماني عنوةً من حريتي جعلني لا أتقبلْ فكرة أننّي كبرتُ جسديًا، وهذا ما جعلني أنظرُ إلى جسدي بطريقة سلبية لأنه حرمني من متعِ الطفولة.

أُرغمت بأن أصبحَ صبية وبدأت عملية تدجيني لأصبحَ من القطيع، ومع الوقت لم أعدْ "أنا" بل أصبحت "هم"، تحولتُ من ضميرٍ منفصلٍ متكلم إلى ضميرٍ متصلٍ بالعادات غائبًا عن طفولتهِ وحريته، لقد قمعوا الانتفاضة بداخلي لأنها تشكلُ خطرًا على سمعتهم وتهدّدُ الأعرافَ والتقاليد، الجميع ساهمَ في قمعها خوفًا من أن تمتدَ وتصلَ إلى بناتهن.

للأسف لقد نجحوا بقمعي، ولكنني استطعتُ أن أحتفظَ بالشورت القصير، وبعلبةِ السجائر التي كنتُ أملأها بالحجارة الصغيرة، وبالزمورِ الأحمر، وبقلبي الذي ما زالَ ممتلئًا بشقاوةِ الطفولة، لأنني سأحتاج إلى كل هذه الأشياء في انتفاضتي القادمة.


مقالات اخرى للكاتب

سير
16 يناير 2022
يوميات
1 ديسمبر 2021
قص
4 أكتوبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.