}

مباراة لا سلطة تحكمها

سالي علي 4 أكتوبر 2021
قص مباراة لا سلطة تحكمها
(لؤي كيالي)

بينَ ثقافة البطالة، وثقافة العمالة السورية، تغيبُ مطرقةَ وزارةِ العدل، ويقفُ مرمى بعارضتين شكليتين هما عبارة عن حذاءٍ لأحد اللاعبين، فردة يمينًا وفردة يسارًا، يحرسه صبيٌ في بداية شقى عمره. وضِعتْ الأحذية لتحديدِ مساحة المرمى، حتى يتمكن من التصدي للكرة التي يلعبُ بها فريقان عاطلانِ عن العمل يتواجدان في حديقة عامة سمحت الدولة أن الناس فيها بعض الأوكسجين المخصص لهم، حسبِ ما تنصُ بنود الاستهلاك للمواطن الواحد. في المجمل، يحق للمواطن استنشاق الأوكسجين مرة، أو مرتين، خلال اليوم الواحد، على أن يستنشقهُ بشكلٍ طبيعي خالٍ من الضغوط، ومن الانتظار على دور الخبز، المازوت، المواد الغذائية، والبنزين..
وفي الجهة الثانية، يوجدُ مرمى مكون من كرتونة شيبسٍ وطني المنشأ تموضعَت يمينًا، أما في اليسار فقد وضعوا حجرًا لا بأسَ بحجمه، يحرسه رجلٌ خمسيني ينتعلُ في كلتا قدميه شحاطة بلاستيكية بالية وممزقةٌ الجوانب، وهو ينظر إلى المرمى المقابل له بلهفة، لا يهتمُ للكرة التي ستخترق مرماه، بل يوجهُ كلّ رغبات وشهوات نظرته إلى ذلك الحذاء.
بدأت المباراة، وتعالت الأصوات المكتومة، فهنا يحقُ لهم الكلام، الركض، الصراخ، والفوز حتى، ففي هذه الحديقة لا يوجدُ سياج وأسوار، إنّها مشرعة، ويحقُ للجميع أن يشاهد مجانًا، ولكن نشاطهم هذا لم يلفت انتباهَ المارة، لأنهم في نظرِ الشعب غرباء!! ببشرةٍ سوداء، يلبسون الرث، يملكون شعرًا نحاسي اللون، لكثرةِ وقوفهم تحت الشمس. المارة لم يعطِ أحد منهم وقتًا حتى ليلتقطوا صورة للاعبين. اللاعبون كانوا عادة ما يجلسون على طرفِ الحديقة منتظرينَ قدومِ إحدى السيارات التي تفاوضهم على رزقهم المنتظر، حيث تقف السيارة، ويفتحُ بابها لصاحبها كأنهُ المهدي المنتظر، واضعًا نظارة تحميه من الشمس، وكمامة لتحميه من الكورونا المنبعثة بحسبِ ظنه من أجساد أولئك، يطلبُ عددًا معينًا من الرجال بأعمارٍ معينة، وأجرٍ مادي محدد، للقيام بأعمال شاقة، مثل البناء، والتحميل، والنقل، إنها أعمالٌ للرجال الذي تخلو منهم هذه المدينة التي يستيقظ أصحابُ رزقها في الظهيرة، كونهم غير مجبرين، لأن هنالك من يعملُ بالنيابة عنهم.
كانت المباراة في أوجِ حماسها، حيث تمّ إدخالُ هدفٍ في مرمى الصبي صاحبِ الحذاء، الذي تشتتَ انتباههُ عندما رأى صبيًا في مثل عمره يحملُ في يده اليمنى كرة، وتتشابكُ أصابع يده اليسرى بأصابعِ والدته.
لقد أخذته اللحظة تلك إلى خيالهِ الممتلئ بضجيجِ فراغِ غيابِ والدته أثناء رحلة لجوئهم من مدينتهم الغارقة بأصواتِ التفجيرات والثقوب بفراغات الرصاص على الجدران. في تلك المناطق، لا يحتاجُ أصحاب المنازل للشبابيك والأبواب، حيث ثقوب رصاص الحرب كافية وكفيلة بدخولِ الهواء.
عاتبَ فريق الصبي شروده، فبسببه دخل أول هدفٍ في المباراة بين فردتي حذاء المرمي ذاك ضمن مباراة لا حكم فيها.
وجهوا له كلامًا قاسيًا نتيجةَ غضبهم، وبقي حانيًا رأسهُ خوفًا من سقوطِ كفٍ، أو ركلة جزاء على جسدهِ الصغير، ولكن لم يلبث الموقف أن عاد إلى الهيجان، وعادت المباراة إلى حالها، وركضَ الجميع مع الكرة الفارغة من الهواء والمرقعة، وتمكن الفريق الذي يحرسه الصبي من تمريرِ هدفٍ لهم ضمنَ مرمى الفريق المنافس، حتى اعتدلَ الفرح والحماس بين الفريقين، واعتدل الجو العام بينهم.
لقد ساعدَ حارس مرمى الكرتون مع الحجر ذاك الصبي بأن يعودَ إلى حالته الأولى. مع بداية المباراة، وقبل شرودهِ، عندما رأى صبيًا مع والدته، انتبه إلى كل ما حصل معه، ليس محبةً منه، بل لأن عينه لم تبتعد عن الحذاء الذي يتشكل منه ذاك المرمى أمامه.
توقفت المباراة فجأة، لأن سيارة توقفت، فتهافتَ الجميع إليها. ركض الفريقان في اتجاهها، كأنها كرة قدم يودُ الجميع الحصول عليها لتمرير هدف الفوز.
تجمَّع الرجال حولَ صاحب السيارة، وأعلنَ السيد المنتظر عن حاجته لعشرة رجال للعمل، فتقدمَ على الفور رجال الفريق الذي يحرسه الصغير، فجميعهم من فئات عمرية شابة، ويمتلكون أجسادًا قوية، مما جعلهم ذوي حظ كبير. اختارهم السيد لأن بيئة العمل صعبة وشاقة جدًا، ولن تناسبَ الفريق الآخر الذي يحرسه ذاك الرجل الخمسيني.
لكن الصبي رقم 11، حارس مرمى الفريق المختار للعمل، لم يتمكن من الالتحاق بفريق العمال، فهو صغير الحجم، وغيرُ مؤهل.
بقي هناك في نقطة حراسته ذاتها. صعدَ فريقه إلى السيارة الأخرى التي ستنقلهم إلى مكان العمل، كأنهم أكياس، أو حمولة رمل، يمسكون بعضهم حتى لا يسقطون في الطريق نتيجة السرعة، أو دعسة فريم قوية.
ودعَ الصبي فريقه بحسرة في عينيه وقلبه.
وما إن مرَّت دقائق غيابهم عن ساحة المباراة التي انتهت بالتعادل بين الفريقين بهدف لهدف، حتى جاء حارس مرمى فريق الكرتون مع الحجر ليواسي ألمَ الصبي، ويشاركه ما خسراه معًا، فقد هربت العدالة عنهم، ولم يتمكنا من حراسة مرماهم جيدًا، ولا الحصول على العمل، لأن أحدهم فوق العمر المطلوب، والآخر تحت العمر المطلوب.
لا وسطية بينهم، ولا عدل يحكم على وجودهم ضمن هذه البقعة من الأرض ذات العشب المبلل،
جلسا ساعات، يتحدثان ويضحكان وهما جائعان، كأنهما صائمان من دون أذان مغرب ولا فطور.
لمحتُ أثناء نهوضهما للرحيل ما لفتَ انتباه عقلي ونظري؛ كانا ينتعلان في أقدامهم أحذية مميزة، الصبي والرجل يرتديان في القدم اليمنى شحاطة بلاستيك، وفي القدم الأخرى حذاء رياضيًا جلديًا!!
هناك فقط تحققت العدالة الإنسانية بحكمٍ شخصي مني على تلك اللحظة، فأنا شاهدتها الوحيدة.

مقالات اخرى للكاتب

سير
16 يناير 2022
يوميات
1 ديسمبر 2021
قص
4 أكتوبر 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.